صحيفة المثقف

عين الخردواتي

وديع شامخالى الكبير محمد خضير، الذي الهمني هذا البوح

العيون متنوعة، ولها إيماءات ولغات، ومن المفيد أن أذكر هنا حكاية عن عين المصور الشمسي وهو يغور في ظلام يمتد بين عينيه ورقبة القماشة السوداء وصولا الى العدسة ووجه الجالس خلفها منتظرا مصيره كصورة ناجزة بعد التحميض والتبييض والمعالجة، وبحركة شفيفة من المصور أمام الشمس تظهر الصورة واضحة، ويمضي الجالس خلف عين الكاميرا بصورته ويبقى المصور الشمسي ماثلا لآصطياد آخرين .

وهناك عين للباعة الذين يفرشون بضائعهم تحت شمس الله ومطره، ينتظرون طرائدهم بحبور كبير، العربات الممتدة في اطار الاسواق تنتظر من يجيرها والاصوات تتعالى، وتتبادل الادوار، عيون تتلصص، ونوايا تختمر، وبين البائع والشاري عقد سري .

عيون آخرى فاجرة ترى ما لا تراه العيون العفيفة في الجسد والرغبة، حتى قال حكيم " اتدخلون علينا وعيونكم فاجرة؟"

ويمتد الفجور سيلا لمدينة ستصاب بجرثومة التلاشي، والاندحار خلف توحش القادم واندثار الملامح للناس والطبيعة والمدينة .

من سيكون النبي القادم؟

من له عين الصقر؟

...

هل المدينة حقا بحاجة الى نبي قادم من أقصى المدينة؟؟

وهل الصقور حلّقت عاليا وابعد من تصورنا عن المدينة، عن حالتنا الاجتماعية؟

من يفضّ هذا الخلاف؟

من يحمل زوادة السوق ويصرخ ..

من يشتري، من يبيع؟

.....

الخردواتي الحكيم، يطلقها بنغمة رائية، فهو المتجول، وهو الباحث في رفات المدن عن ما يستحق الوقوف كثمن إزاء الاستحقاق المعيشي في مدن متلاشية .

لكل خردة ثمن، وللحياة المندحرة أبخسها .

الخردواتي يرفع بيانه بميزان القصاص، أمام ما تخفي المدينة من كنوزها السابقة، التي تحولت الى خردوات لا تصلح للاشارة عن ثمنها .

لا ثمن في عين الخردواتي، المدينة في الميزان ولا مكيال غير نزوة الخردواتي في القصاص، ولكل وزنة ثمن ..

.....

المدينة التي يأكل الزهامير متونها، والصدأ طروسها، والحيف أسوارها، واللعنة روحها.

لا مبصر لها غير الخردواتي المارق كلص، الحامل أكياس اللعبة وصوت الغواية ..

من يبيع .. من يبيع؟

المدينة معروضة كلها للبيع، عن اي خرف يتحدث هذا القادم؟

من يبيع؟؟

......

الخردواتي أقام لميزانه شأنا في ساحة المدينة، ولكي يبرهن على نزاهة الميزان، وضع نسرا منتفوف الريش في كفة وبطة عرجاء في الآخرى ..

صفّقت المدينة، وتثاءب الخردواتي ليوم جديد .

.....

طوابير واسواق تزحف على الخردواتي تاركة تقاليدها، تاريخها، تسير بخطوط نيسمية غير عابئة بمآلها، تسير كدمى في عرض بالأسود والأبيض لجمهور نائم .

المدينة كلها لقى وتحف وتاريخ تنتصب طوابير على الميزان المعلق في ساحة المدينة ....

من يبيع، من يبيع؟

نداء رخيم ازاء كائنات تتفسخ في سوق الشراء، لا قدرة لها على التحليق فوق سعر الصرف، ولا نشيد لحنجرتها أقوى من ابتلاع لقمة خبز يسيرة المرور الى الأجواف المظلمة بالصراخ .

الخردواتي المثقل بخبرة الخواء يشم رائحة المدن المتهالكة ونزوع أرواح ساكنيها للفناء، كأنه دفان يعرف مقاس قبور زبائنه، ومصور بارع يعرف طريق فرشاته لرسم مصير لوحته .

..........

تهمل العيون نظارتها والقلوب حسها بالجمال والعقول تكلُّ عن الرفيف في ساعة يتساوى فيها الموت والعدم في حياة آفلة بقوة الانهيار كأنفجار كوني جديد .

الخردواتي وحده ينتظر هذه الصدفة ليعيد تشكيل المدينة كمعجزة من خراب، يدون على على حجر اساسها الجديد انبعاث العث، تاريخ التسوس، زمان التبلّد، تاريخاً لكي لا ننسى للخردواتي سطوته في اعادة تشكيلنا كمدينة مندرسة وكائنات معروضة للتفسخ ابدا.

 

وديع شامخ

..........

* الخردواتي، هو الشخص الذي يشتري الاشياء المستعملة / وبلهجة العرقيين" الخردة وهو كناية عن زمن العوز والانهيار المديني وهجوم البرابرة "

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم