صحيفة المثقف

القصد الجميل عند سانتيانا

قاسم جمعةظهرت الجمالية اول ما ظهرت في القرن التاسع عشر، مشيرة الى شئ جديد، يقصد به ليس محبة الجمال فحسب، بل قناعة جديدة بأهمية الجمال ودوره القيمي مقارنة مع قيم اخرى. وهي تتمظهر بألوان مختلفة ولكنها مترابطة، كنظرة للحياة مثلا او فكرة معالجة الحياة بروحية الفن، او بنظرة الفن لاجل الرؤية الفنية ..فضلا عن كونها خاصية لاعمال فنية او ادبية بشكل عام فضلا عن جمال يعلق على طبيعة او منظر خلاب. يعرف احد المتخصصين الجمال، بأنه خبرة مباشرة تحس ولايوجد فيه مكان للتجريد. وبذا يبرز دور الاحساس المهم في العملية الجمالية .

فهل يمكن ان نتخيل جمالا بدون احساس، وهل يمكن التفريق الكلاسيكي في الجماليات او في معالجة الاعمال الادبية والجماليات عموما، بين الذات والموضوع او بين الانسان بوصفه المبدع للعمل وبين العمل كونه منتج، او لنقل بين رؤيتين رؤية منها تؤكد على الذاتية فحسب، واخرى تجعلها موضوعية فقط؟!.

والجماليات او الجمال عموما يشير الى ما هو جميل او مايبدو لنا جميلا، فضلا عن كونها دراسة الجمال دراسة فلسفية. ولكن هناك من لا يحصر اهتمام الجمال بمنطقة الجميل فحسب بل راح القبيح يستحوذ على اهتمام المنشغلين بالجماليات، كما هو الحال عند ادورنو، الذي اعاد الاعتبار وبلمسات نيتشويه اهمية القبيح المقصي من دائرة القصد الجميل .

وربما من بين اسباب حصول السجال بين هولاء المهتمين بالجمال، تولد بسبب اختلافهم حول معنى الفن وما المقصود منه ؟.

اخذ الاهتمام بالجمال وتوجهاته الجديدة تهتم او تتمركز حول اهمية البعد الجمالي للفن او للادب، او لكل معطى جمالي، والجانب الاخر مغيب اقصد الجانب المرتبط بقصدية العمل الفني وارتباطه بالحياة.

فالوعي الجمالي كما يسميه (هنترميد) هو ما يشير الى "شعور بالقيم الجمالية بما هي كذلك مستقلة عن الاخلاق او الاقتصاد او الدين او السياسة او النزعة لتعليمية اواي ارتباط من الارتباطات المألوفة .."

الفن من اجله فقط او من اجل الفن، تواجه (فرق) الفن من اجل الحياة والاثنين تخالفوا في شأن مدار الاجابة عن المعنى المحدد للفن. الاولى جعلت غايته الامتاع واللذة الشعورية والاحساس .. والثانية جعلته منحصرا في التعليمم واستغلال الفن لاغراض عملية خارج الاحساس بالجمال.. وان كنت غير مقتنع فعلا بهذا التفريق كما سوف اوضح لاحقا. فمنهم من عزز فلسفته بأدلجة فنه، ومنهم تفلسف بفنه وادلج فلسفته بالفن.

من هنا نفهم مقولة سانتيانا النقدية تجاه من سبقوه، اذ " اجتذبت المفكرين مشكلات الطبيعة والاخلاق، كما استرعت مسألة وصف الجمال وخلقه انتباه الفنانين، اما مابين الطرفين فقد ظل التفكير في التجربة الجمالية ناقصا مفككا" ..

فهو يحاول مناقشة الاحساس بالجمال والقيم الجمالية، واهمية البعد الجمالي في التجربة المعاشة. وما يلاحظ عليه انه اولى الجانب الذاتي في التجربة الجمالية مثل العاطفة هوالخيال بل القصدية الجميلة.

لذلك ينتقد سانتيانا المدارس الفنية التي اهملت البعد الذاتي للانسان وركزت جهدها على البعد الموضوعي، فنظرت اليه وكأنه محض وهم وخيال مرفوض بأسم الموضوعية لذلك نراه يقول " ما زلنا بحاجة الى ان نتبين ان مشاعرنا الذاتية التي تحتقرها هذه، هي مصدر كل ما في عالم الادراك الحسي من قيمة، ان لم تكن كذلك مصدر وجوده، فليست الاشياء طريفة الا لاننا نهتم بها، وليست هامة الا لاننا بحاجة اليها "..

ان الحكم الجمالي يمكن ان يتهم بالتفاهة اذا ما تجاوز الافق الذاتي وليس العكس، كما يروج لذلك انصار المدرسة الواقعية للفن. وهو لايميل الا للطريقة النفسية في تناول الحكم والقيم الجمالية، والتي تتناول الاحكام الجمالية والخلقية بوصفها ظواهر عقلية اي نابعة من ذاتية الانسان ونمط تفكيره ونتاج للنظر العقلي. فهو يرفض التفسير الذي يركز على دراسة الاذواق الخاصة النابعة من الشخصية الفردية، ولا يأخذ بالتفسير التاريخي للفن والجمال، بل انه يطمح الى مناقشة طبيعة الاحكام الجمالية والعناصر التي تتألف منها لذلك يقول " سوف ندرس الحساسية ذاتها ومشاعرنا الحقيقة ازاء الجمال، ولن نبحث عن الاسباب العميقة اللا شعورية وراء شعورنا الجمالي ". وينقل سانتيانا اهمية الاحساس بالجمال ومدى نجاعته من النظرة العلموية للجمال او الذوق الجمالي منظورا اليه وفق التصور الوضعي اذ يقول : " ان الاحساس بالجمال اقل جدوى وقيمة من معرفة وعلم الجمال، لان الاحساس بالجمال يقدم خبرة جمالية لشخص ذو خيال وذوق يستحق التقدير اكثر ما يستحقه علماء اي علم علم آخر".

الا انه يعود لكي يوضح رأيه بطريقة بعيدة عن اي التباس او سطحية لنظريته في البحث الجمالي، فهو يتبنى الوسط بين الاحساس بالجمال من جهة الذات المتذوقة للجمال والادراك العقلي من جهة ثانية، على اعتبار ان هنالك مثالا عقليا يكون بمثابة المطلق، اما قيمة الاشياء الجمالية، فأنها تنبع من اتفاق احساسنا بالجمال للشئ مع المثال، الذي يكون بمثابة الجانب الثابت طوال الخبرة الانسانية داخل العقل الانساني.

يضع سانتيانا جملة من الشروط للادراك الجمالي وهي ما تميزه عن الادراك الخلقي والعقلي، منها :

1.ان الادراك الجمالي قيمة وليس ادراك لواقع معين او علاقة قائمة بين عدة مواقع او وقائع، والمقصود بأنها قيمة، اي انه انعطاف من الذات وميل وجداني نحو شئ بعينه.

2.انه احساس ايجابي، لانه منصب على الشئ الحسن الماثل امام الشخص المدرك.

3.انه احساس مباشر، اذ لا يراد به ان يكون وسيلة لمنفعة آجلة، والمباشرة بمعناها اللغوي الحرفي مقصوده كما ينقل (زكي نجيب محمود) مترجم كتاب الاحساس بالجمال لسانتيانا، اي ان تمس بشرة الذات المدركة بشرة الشئ المدرك. اي ان يتلامس الشخص والشئ وان يكونا على صلة لحظة الادراك.

4.الاحساس بالجمال اخراج للنشوة او اللذة الذاتية بحيث يجعلها جزءا من طبيعة الشئ ومندمجة معه .وعندئذ ينظر المشاهد الشئ الجميل، فيظن ان المتعة واللذة والنشوة منبثقة من الشئ ذاته وصادرة عنه لا من نفس الشخص او من كيانه العضوي..

لقد استطاع الاسباني الامريكي (سانتيانا) ان يوحد "بين اغلظ وصف طبيعي لما يوجد في المكان والزمان، حجارة النحت ولوحة التصوير والموجات الصوتية في الموسيقى، وبين ارهف تقييم للمضمون الفكري في العمل الفني" كما تنقل لنا احدى الموسوعات.

 

د. قاسم جمعة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم