صحيفة المثقف

التاريخ الكامل للفلسفة الكلاسيكية

496 الفلسفة الكلاسيكيةكتاب الفلسفة الكلاسيكية لبيتر ادمسون هو الكتاب الاول من سلسلة كتب يسعى فيها المؤلف لعرض تاريخ كامل للفلسفة اكثر تفصيلا واكثر متعة من اي كتاب آخر. هو يعرض في 41 فصلا نظرة مفصلة لظهور الفلسفة بدون فجوات منذ ما قبل سقراط مرورا بأسئلة سقراط في حوارات افلاطون ورسائل ارسطو. الكتاب يناقش موضوعات اقل شيوعا مثل مجموعة الاعمال الطبية للفيزيائي ابقراط والاكاديمية الافلاطونية ودور المرأة في الفلسفة القديمة. هذا الغطاء الشامل سمح له بمعالجة النقاشات القديمة في جميع مجالات الفلسفة بما في ذلك الايبستيمولوجي والميتافيزيقا وفلسفة اللغة وفلسفة العلوم والاخلاق والسياسة. الكاتب وهو بروفيسور في الفلسفة القديمة المتأخرة والفلسفة العربية بجامعة لوج ماكسمالين يستخدم اتجاها حيا و متميزا في الموضوع. فمثلا، عند الحديث عن فكرة ارسطو حول اخلاق السلوك Ethics، يقول ان اخلاق ارسطو هي اقرب الى البطل الاغريقي اخيل منه الى تيريزا الام (الراهبة الهندية التي تبنّت مساعدة الفقراء) لأن الاول اكتسب احترامه الكبير من كونه فاضلا . 

مرحلة ما قبل سقراط The pre-socratics

الذين درسوا فلسفة ما قبل سقراط تعلّموا ان اول الفلاسفة الغربيين طاليس و اناكسماندر و اناكسميس كانوا "محققين في الطبيعة" يحاولون العثور على المبدأ الاساسي في الطبيعة. طاليس اعتقد ان الماء هو المادة الاساسية في الكون . رؤيته بان "كل شيء مملوء بالآلهة" (وهو عنوان الفصل الاول لكتاب ادمسون) مرتبطة بفكرته عن الحصاة المتوهجة (amber) التي تمتلك روحا لأنها تسبب الحركة عبر سحب الاشياء الصغيرة نحوها.

يذكر الكاتب "ان بعض منْ اُطلق عليهم بـ ما قبل سقراط هم في الواقع عاشوا في نفس فترة سقراط". "لهذا السبب وبما انه من السخف تسمية هؤلاء المفكرين بما يشير للمستقبل ، فهو اطلق على هذا القسم من الكتاب "الفلسفة اليونانية المبكرة". يذكّرنا الكاتب : "ان معرفتنا بجميع هؤلاء الفلاسفة لا ترتكز الاّ على بقايا من المعلومات المربكة والمشوشة"(1).

فيثاغوراس

يحاول المؤلف تبيان الاحترام الكبير الذي حظي به فيثاغوراس (570-495 قبل الميلاد) في النقاشات المستمرة لعمل الفيلسوف الافلاطوني الجديد لامبلكس Lamblichus (245-325 بعد الميلاد) حول طريقة فيثاغوراس في الحياة. يكتب لامبلكس ان هناك ثلاثة انواع من الكائنات ذات الساقين : الطيور والانسان وفيثاغوراس. قيل ان فيثاغوراس كان لديه ساق ذهبي عرضهُ في الاولمبك، قيل انه كان يستطيع التنبؤ بالزلازل. اعتقد لامبلكس ايضا ان فيثاغوراس يستطيع التحدث مع الحيوانات وتوجيهها. كل من ارسطو ولامبلكس اشارا كيف ان فيثاغوراس تلقّى مرة الترحيب من احد الانهار. يصف المؤلف رؤية فيثاغوراس بان الروح يمكنها مغادرة البدن لتعيش في جسم آخر. وهنا يتحدث اكسينوفانس عن قصة فيثاغوراس عندما رأى كلبا يئن من الاذى صرخ "توقفوا ، ذلك صديقي، انا اعرف صوته".

هذه القصة تحمل مضامين هامة حيث يشير المؤلف الى ان فيثاغوراس يرى بان الروح والجسد هما شيئان مختلفان حيث الاولى لا تتحطم بينما الثاني يتحطم. وهي النظرية الفلسفية ذات الارتباط المباشر بالثنائية dualism. ثنائية فيثاغوراس هي السابقة الفلسفية لثنائية افلاطون ومن ثم ديكارت. لذا فان احد اسباب الارتباط القوي بين الافلاطونية والفيثاغورية هو ان كل من افلاطون واتباع فيثاغوراس كانوا مهتمين في الاشياء الثابتة وغير المادية. هم ارادوا الابتعاد عن اضطراب الاشياء المادية المتغيرة باستمرار والعرضة الى عدد لا متناهي من مختلف الخصائص. لذا فان اهتمام فيثاغوراس في الرياضيات وبالوجودات المجردة وغير المادية يرتبط برؤيته عن الروح.

بارمينديس

من مدينة ايليا، عُرف اتباع بارميندس (515-460) قبل الميلاد بـ "الايليين". الكاتب يذكّرنا ان افلاطون في حواراته جسّد رؤية بارميندس. عرض بارميندس تفصيلا رائعا لفلسفته من خلال قصيدة من الشعر سميت (حول الطبيعة) تتألف من جزئين:طريقة الحقيقة و طريقة الظهور. في طريقة الحقيقة يوضح ان الوجود واحد ولا يتغير وبلا زمن، الوجود لم يأت الى الوجود ولم يُفنى، لا ماضي له ولا مستقبل، جرى احتوائه بالكامل ضمن الحاضر، الماضي والمستقبل لا معنى لهما . يرى بارمنديس هناك طريقتنان للتحقيق وهما ما هو موجود من جهة وما هو غير موجود من جهة اخرى. الاخير حسب زعمه لا يمكن ادراكه لأنه لا وجود لشيء لا يمكن ان يكون، باعتبار ان هذا يستلزم التفكير والحديث عن "ما ليس" او "ما لا يمكن" وهذا غير ممكن . اما في طريقة الظهور يرى ان ظاهرة الحركة والتغيير هي مجرد مظهر للحقيقة اللامتغيرة والخالدة، وان ما نتصوره يوميا عن حقيقة العالم المادي هو خاطئ ومضلل.

اخلاق ارسطو

يتحدث الكاتب عن رؤية ارسطو (384-322) بان السياسة مرتبطة صميميا بالاخلاق: السياسة في تعاملها مع رفاهية كل الجماعة تعتمد على الاخلاق التي تتعامل مع رفاهية الفرد. هذا يثير تساؤلاً مألوفا: ما الذي يشكل السعادة او الرفاهية؟ العديد من الناس يخلطون بين المتعة والسعادة، ولكن كما يرى ارسطو ان السعادة لا يمكن تشخيصها بالمتعة لأن السعادة ليست وسيلة لغاية، مثلما هي المتعة.  يقول المؤلف ان المتعة المشتقة من الفوز باليانصيب، هي ثمينة، ولكنها فقط كوسيلة للسعادة. السعادة بدلا من ذلك، هي غاية في ذاتها، شيء ما ثمين لأجل ذاته. الفعاليات الممتعة والهادئة المفتقرة للنهائية والاكتفاء الذاتي مثل لعبة السولتير، لا يمكن خلطها مع السعادة.

كذلك لا يمكن مساواة السعادة مع الشهرة او حياة الشرف. كما يقول الكاتب، فكرة اليونان عن الشرف تميل نحو النجاح السياسي والانتصار العسكري واستمرار السمعة. في الحقيقة، كما هو يقول، ان تلميذ ارسطو الاسكندر الكبيرسيُعتبر"أسعد انسان في العالم القديم، لو ان السعادة والشرف هما ذات الشيء". لكن ارسطو يضع الشرف الى جانب الثروة كهدف مضلل لأن شرف كهذا ليس جيدا بما يكفي – "نحن نهتم بسبب اكتسابنا التكريم". مرة اخرى تتجسد الروح الابداعية للكاتب ، عندما يكتب بانه ليس دليلا تمتعي بحياة جيدة" لو ان عصابة من السراق المجرمين يُعجبون بي لنجاحي في السرقة". هتلر وبن لادن نالوا التكريم من جانب معظم الاتباع، لكننا من الصعب علينا الجدال في خيرية اي منهما. كما اننا سوف لا نرغب بالتمجيد الزائف لنا على اشياء لم نقم بها حقا، كما يذكر المؤلف .

يستنتج المؤلف على نفس الخط مع ارسطو "لو كنت ابحث عن الشرف فان ما يجب ان ابحث عنه حقا هو نوع من الحياة التي تستحق التمجيد". في تلك الحالة، فان الشرف يبدو ثانويا. ما اهتم به حقا هو الحياة الجيدة التي تنال بحق اعجاب الاخرين. ما نهتم به اذاً هو حياة الفضيلة . ولكن ما هي الفضيلة وكيف يمكن تحقيقها؟الكاتب يستخدم فكرة ارسطو عن الوظيفة او الايرغون: "هدفي كفرد اخلاقي هو ان اقوم بما قصدت القيام به، وان اقوم به بشكل جيد". هو عندئذ يذكّرنا بان ارسطو يقيم مقارنة مع السعي النشط لتجسيد هذه الفكرة: "في الاولمبك هم يمنحون الجوائز لمن ينافس ويربح، وليس فقط لذوي اللياقة والجمال. هذا يجعل الفضيلة تستحق الاهتمام، الفضيلة تجعلنا اناسا بافضل ما يمكن".

ان كلمة "اخلاق سلوكية" ethics تتعلق في السؤال الثاني. الكلمة اليونانية "ايثوس" تعني "العادة". وهكذا نحن يجب ان نبدأ بتطوير الفضائل حينما نكون اطفالا. في اللغة الارسطية، الرجل الفضيل يتمتع ويختار الوسط بين حدّي القضية، بينما الانسان الشرير يتمتع بالاشياء الخاطئة لأنه غُرست فيه عادات سلوك الخيارات الخاطئة. يذكّرنا المؤلف بالقول المألوف لأرسطو: الفرق بين الرجل الفاضل الممتاز والرجل الشرير المعيب هو نتاج التدريب.

المؤلف يتبع هذا العمل بكتاب آخر اكثر شمولا يتألف من 53 فصلا . الفلسفة في العالم الهيلنستي والروماني، يبدأ بـ فلسفة الكلبيين ويمتد الى اوغستين وبوثيوس.

 

حاتم حميد محسن

.....................

- كتاب الفلسفة الكلاسيكية:تاريخ الفلسفة بدون فجوات للكاتب بيتر ادمسون، صدر عن مطبوعات جامعة اكسفورد عام 2014 في 338 صفحة.

الهوامش

 (1) يرى المؤلف ان الناس الذين يعملون في هذا الحقل يسمون هذه المعلومات بالشضايا او الأجزاء. ولكن حتى هذه تجعل الموقف افضل مما هو عليه حقا. ما لدينا في الواقع هو أعمال لمؤلفين من القدماء المتأخرين او نسخ لنسخ من اعمال القدماء المتأخرين الذين يحكون لنا شيئا عن طاليس او هيرقليدس. ما لدينا هو مفكرون لاحقون يقصّون علينا ما اعتقده المفكرون القدماء، وكان علينا ان نقرر لأنفسنا ما مدى قرب هذه المعلومات عن الكلام او الفكرة القديمة. وحتى لو كنت محظوظا بما يكفي في حصولك على قطعة اصيلة، يبقى من غير الواضح اين تبدأ المعلومات المفيدة واين تنتهي. احد اهم المصادر عن ما قبل سقراط هو ارسطو، الذي كانت لديه ميول لمزج التقارير عن معتقدات اولئك الفلاسفة مع تخمينات تعلّموها حول أشياء اخرى يجب الاعتقاد بها ، كذلك هو دائما يسعى لدمج مفكري ما قبل سقراط في اطار نظرياته.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم