صحيفة المثقف

اللغة بين الفلسفة البنيوية والميتافيزيقا (1)

علي محمد اليوسفاذا ما اخذنا على محمل الجد كما يراد لنا التسليم به اعتبار نيتشة هو اول من استبعد الميتافيزيقا الفلسفية والمعرفية التي سادت قرونا طويلة قبله عن مباحث الفلسفة.ومتنكرين لريادة كانط في شنه حربا شعواء على الميتافيزيقا قبل مايزيد على اكثر من قرن قبل مجيء نيتشة 1844 - 1900، وانه – نيتشة– حسب زعمهم يمّثل التمفصّل الفلسفي المعرفي الوحيد الذي الغى كل ما سبقه من ارث الميتافيزيقا باعتبارها لغوا فارغا بلا معنى ولا نتيجة، وفكرا غاطسا في مستنقع الغيبية غير العقلانية ليس في مباحث الميتافيزيقا وحسب، وانما ممثلة ب (اشكالية اللغة). هذا الرأي من وجهة نظرنا تضخيم فلسفي لشخصنة فلسفة نيتشة واستنباط مفهوم لا تاريخي ولا معرفي دقيق او صحيح. اذ يوجد هناك من وضع وفهم نيتشة فهما قاصرا منحازا لافكاره على حساب الحقيقة المعرفية وتاريخ الفلسفة. صنّف هذا البعض هيدجر كفيلسوف ميتافيزيقي وهو الوجودي المعروف بآرائه المعاصرة التي هاجم فيها الميتافيزيقا مطالبا انهاء هيمنتها لقرون طويلة. واعتبر هيدجر أن نيتشة نفسه هو آخر ركّاب عربة المتافيزقيين التي وصلتنا بداية القرن التاسع عشر. كما هاجم هيدجر البنيوية معتبرا اياها من مخلفات الميتافيزيقيا التي وصلتنا وتم بعث الحياة فيها على ايدي شتراوس والتوسير ولاكان ودو سوسير وفوكو وعشرات غيرهم. ومثل هيدجر وسارتر فعل جاك دريدا في اعتباره البنيوية برمتّها ضربا جديدا من الميتافيزيقيا،واعتباره هيدجر ميتافيزيقيا لايمانه بمرجعية العقل والوجود الانساني كثابت استرشادي في فهم تقويضات النص المتتالية تفكيكيا عليه، وكل مرجعية ثابتة او متغيرة في فلسفة دريدا هي ميتافيزيقا يتوجب نبذها والتخلص منها، ونعتقد ان كل قاريء منصف يستبعد ان يكون هيدجر فيلسوفا ميتافيزيقيا وهو الوجودي الملحد الى نخاع العظم.

الى ذلك ذهب ايضا البعض ممن اعتبر الحداثة وما بعد الحداثة التي تداخلت معهما البنيوية في تحقيب تاريخي زمني. واعتبروا الحداثة وما بعد الحداثة مرحلتين متداخلتين من مراحل التجديد  الفكري الفلسفي والمعرفي عموما. وهذه ايضا مغالاة في الحكم والاستنتاج غير العقلاني والتاريخي الصحيح. فمن المتعذرعلينا قبول امكانية الغاء معطيات ومنجزات قيم الحداثة وما بعد الحداثة انهما كانتا عبئا معرفيا واشكالية (لغوية) بالاساس لاغير. او كما ارادت البنيوية ذلك ولم يتحقق لها، الغاءاً وتجاوزا مشروعا لما سبقها من فلسفات لم تكتشف قبل البنيوية محورية واشكالية (اللغة) في تعقيد قضايا الفلسفة والمعرفة التي بقيت ولعصور طويلة تدور في مماحكات المنطق الفلسفي اللغوي التجريدي الذي لم ينجز شيئا معتّدا به في مجال الفلسفة كما فعل العلم وحققه في تقدم الحياة، وحسب اقطاب البنيوية والتفكيكية كانت (اللغة) وحدها هي السبب في عجز الفلسفة ومراوحتها مكانها في الدائرة المفرغة من حيوية وفاعلية الحياة الواقعية المعيشية التي كان من المفروغ منه اسهام الفلسفة في تغييره كما فعل العلم في تخليه عن كل ما ليس عقليا ولا عمليا في التاثير بالواقع والحياة.

من المعروف رغم معطيات نيتشة الفلسفية اللامعة الا ان العديد من مؤرخي الفلسفة وبعض الفلاسفة المعاصرين يذهبون الى ان فلسفة نيتشة لم تقد الموروث الفلسفي السابق عليه سوى نحو العبث والعدمية والجنون والاغتراب وعدم الاعتراف بحقيقة في مجمل تاريخ وحياة الانسان التي عاشها و لا اكثر من ذلك.

واهمية فلسفة نيتشة انها جاءت على شكل شذرات فلسفية مستفيدة من الامكانية الشعرية في تغييبها الشعور العقلي، في صياغتها لافكارها في لغة فلسفية حمّالة اوجه عديدة في التفسير والقراءة والتاويل، خاصة في مؤلفه هكذا تكلم زرادشت، ولم يعتمد في تصدير افكاره الفلسفية على اسلوب فلسفي منطقي تجريدي متماسك في توصيله افكاره الفلسفية كما فعل غالبية الفلاسفة من قبله ومن بعده. كما لم يفتح نيتشة طريقا سالكا امام ظهور فلسفات من بعده ربما كانت البنيوية او غيرها من مدارس المعرفة النقدية الحديثة او الفلسفية كما ينسب البعض له.

وخير دليل على ذلك ان سارتر في بنائه الوجودية الحديثة بمرتكزاتها الثلاث الوجود لذاته، او الوجود من اجل ذاته/ والوجود في ذاته الله – والعدم – والحرية/ والوجود من اجل الاخرين لا تعترف به الوجودية، فهو اخذ اي سارتر اكثر من فكرة فلسفية سابقه عليه فقد اخذ عن سورين كيركارد وشوبنهاور وغيرهما بنفس الوقت الذي اخذ عن هيجل وفيورباخ و هيدجر ونيتشة. كما هو الحال بالعود الابدي لنيتشة المستقاة عن هيراقليطس وقبله فلاسفة الاغريق القدماء منذ القرن السادس ق. م. والعود الابدي لنيتشة لم تكن فتحا تجديديا غير مسبوق في الفلسفة. وان كان تمسّك نيتشة به شديدا في معاداته ميتافيزيقا اللاهوت بضراوة. الا اننا نجد ارهاصات العود الابدي في كتابات هايني وهولدرين وبلانكي وجويو وهناك اشارات غامضة للعود الابدي لدى كلا من بايرون وسبنسر بحسب الفيلسوف ريتشارد شاخت.

وعلى خلاف ايضا مع الذين التقطوا الدرة الثمينة والفتح المعرفي الفلسفي التجديدي الفريد لنيتشة كما يفهمه ويبشر به الباحث الكويتي استاذ فلسفة احمد العنزي. فهو احد الذين يعتبرون نيتشة الملهم الروحي للفلاسفة المعاصرين في سعيهم القضاء على الميتافيزيقا والهراء الفلسفي المتعالق معها. وان افكار نيتشة ايضا حسب الباحث وغيره مهدت لظهور كتابات اقطاب البنيوية امثال ميشيل فوكو وليفي شتراوس ودي سوسير ورولان بارت وجاك دريدا وجيل ديلوز والتوسير في اشتغالاتهم التخصصية المنوّعة على موضوعات الفلسفة البنيوية المختلفة. ونكرر ونقول ان هذه المصادرات والاستنباطات الفلسفية والمعرفية غير صحيحة ولا تكتسب الموضوعية البحثية العلمية، في اعتبار واعتماد سذاجة تحليلية ان كل من اتيح له قراءة نيتشة من فلاسفة البنيوية اصبح تلميذا له في اختراعه فلسفة هي من بنات افكار نيتشة وارهاصاته الفلسفية.لا نعتقد تقاس الامور بهذه البساطة. فقد كان لاسهامات كانط وهيوم وبيكون وجون لوك، من اقطاب التجريبية التحليلية الانكليزية، وكذا الحال مع اقطاب الفلسفة البراجماتية النفعية العملية الذرائعية الامريكية، (تشارلز بيرس، وجون ديوي، وليم جيمس) وقبلهم جميعا كان ديكارت في القرن السابع عشر الميلادي، صاحب الفضل الاعلى في اقصائه الميتافيزيقا من اهتمامات الفلسفة ونادى بالعقل والمنطق العلمي والمنطق الرياضي فوق كل مبحث في الفسفة والمعرفة اذا ما ارادت الفلسفة احترام العلم لها وعدم استخفافه بها.

يذكر الباحث احمد العنزي ان نيتشة: (اعتبر اشكالية القيم الميتافيزيقية لم تكن سوى لغو واشكالية (لغوية) بامتياز. لذلك اعطى نيتشة (اللغة) اهمية مميزة ومكانة مركزية. وهو ما تابعه هيدجر عند نيتشة الذي اعتبر اللغة مسكن او بيت الوجود. فلم يتبق اذن من رواسب الميتافيزيقا سوى هذا المسكن الصغير اي اللغة)([1]).

لا يوجد اي سند فلسفي تاريخي معرفي يؤكد صحة ان اللغة كانت ميزة وبؤرة مركزية في فلسفة نيتشة تفوق ولعه الجنوني جدا في مهاجمة اللاهوت المسيحي والميتافيويقا. ولم يسبق لاحد ان ادعى ميتافيزيقا اللغة هي آخر المتبقي من رواسب الميتافيزيقا الفلسفية كما مر بنا عند الباحث. لا في كتابات نيتشة وافكاره الفلسفية ولا في كتابات من اشادوا بميراثه الفلسفي واستاذيته لهم من رواد فلاسفة البنيوية امثال سوسير او فنجشتين او شتراوس او فوكو او بارت او التوسير الذي هو اكثرهم مغالاة في التطرف البنيوي المثالي التجريدي التهويمي في محاولة تطويعه الوقائع التاريخية والسرديات االكبرى والايديولوجيات وموضوعات المعرفة قسرا لمنطق التشتيت الفلسفي والفكري باسم الاخلاص للبنيوية، كل هؤلاء مدينين لنيتشة كما يرى الباحث في هدايته لهم كشفهم الجديد ان اللغة هي ام كل مصائب الميتافيويقا، وهي ام كل الفلسفات التي تعتمد مركزية اللغة في التفكير الفلسفي ومراجعته نقديا بضوء ماتفصح عنه وتكشفه اللغة من جديد لم ير النور، كانت اللغة سببا في انغلاقه الفلسفي التجريدي.

الشيء الآخر الذي يغفله هؤلاء المتزمتون ان الاهتمام بمركزية اللغة في مراجعة وشروحات مواضيع الفلسفة انما جاءت في مرحلة متأخرة عن نيتشة 1844 _1900بدايتها كانت في مطلع القرن التاسع عشر لدى جاكوبسون وجماعة الشكلانيين الروس الذين عقدوا مؤتمرهم اللغوي الفلسفي في لاهاي عام 1920،وهم اول من اطلق مصطلح البنيوية، وكان ابرز من خلفهم في مجال اللغة هو دوسيسير و فنجشتين ومن ثم رواد الفلسفة البنيوية اللغويين بارت وميرلوبونتي... وبعدهم ورواد التفكيكية ابرزهم جاك دريدا. وجومسكي صاحب التوليدية البنيوية.

ولم يذهب احد من هؤلاء الى اعتبار (اللغة) هي الأرث الاخير المتبقي من رواسب الميتافيزيقا، بل اعتبروا اشكالية الفلسفة وليس اشكالية اللغة كانت ولا تزال على حد زعمهم تمثل محور دوران كل مواضيع ومباحث الفلسفة في دائرة الخواء اللغوي الخالي من معاني معالجة الوجود الواقعي للانسان وقضاياه.. اللغة التواصلية التداولية مرتكز ووسيلة اعتماد ظهور البنيوية والتفكيكية وغيرهما في جميع ونواحي اشتغالات الفلسفة في قضايا الانثروبولوجيا والتاريخ وعلم النفس والادب والاساطير والسرديات العامة. وليس هناك من ادعى اهمية الالتفات الى (اللغة) لانها كانت سببا في جعل معظم تاريخ الفلسفة يدور حول مسائل الميتافيزيقا فقط، بل كانت اللغة ضحية سوء استخدامها في كتابة وتدوين مباحث الفلسفة المكتشف عقمها التجديدي في النصف الثاني من القرن العشرين ونعود لهذا في توضيح لا حق.

باعتقادنا ان سوء استخدام اللغة واشكالاتها الفلسفية في جميع قضايا الفلسفة هي من بقايا الميتافيزيقا والارث الفلسفي الكثير الذي وردنا، وخير دليل ان الشغل الشاغل لجميع التيارات الفلسفية مثل البنيوية و التفكيكية والتاريخية وصولا العدمية، تعتبر اللغة مرتكزا محوريا في الفلسفة المعاصرة، ولا نعتقد وجود فيلسوف يعامل (اللغة) فلسفيا اليوم في نفس معاملته الميتافيزيقا الفلسفية التي اصبحت شتيمة تسم الفلسفة  في تخلّف معرفي ارتدادي يدين مباحث الفلسفة وليس اللغة كتعبير فلسفي تداولي.

مع كل هذا نجد من اعتبر اللغة الارث الاخير المتبقي من رواسب الميتافيزيقا بخلاف المنطق العلمي الفلسفي التاريخي الذي يشير باطلاق انه لولا اللغة لما كانت الفلسفة على امتداد التاريخ كان لها حضورها ومثلها جميع العلوم الانسانية والمعرفية، كون اللغ ببساطة شديدة هي التعبير عن العقل والفكر والفلسفة. ولولا اللغة رغم الادانة الاشكالية لها اليوم في دورها المعرقل للفلسفة على حد تعبيرهم، لما كانت البنيوية ولا غيرها من المعارف الانسانية والفلسفات لها حيز اهتمام فكري محترم. وفي البدء كان الكلمة كما وردت في اللاهوت وهي عبارة وردت في اللاهوت المسيحي قبل ظهور الفلسفة بعدة قرون. اذن من الخطأ الكبير تحميل الفلسفة وزر اشكالية عقم الميتافيزيقا وموضوعاتها الباقية لحد اليوم دونما حسم مقنع، فالاشكالية اليوم هي اشكالية مباحث الفلسفة التجريدية التي كان همها الوحيد الدوران حول مركزية الفهم وتعميم الفهم التجريدي المنطقي لطروحات الفلسفة المستغلقة والبعيدة عن واقع الحياة.،وكذلك اشكالية قضايا ومباحث الميتافيزيقا المتعالقة مع تزمت اللاهوت الديني العقيم تجديدا وعلميا، قبل عصري النهضة والانوار، وكانت اللغة ضحية تلك الاشكاليتين وغيرهما من اشكاليات الفكر التي تتوسل اللغة تدوينا توثيقيا وتواصليا. اللغة هي التعبير عن الوجود ومشكلاته، و تعبير عن غير الموجود واشكالاته، و تعبير عن الشعور واللاشعور وعن اشكالاتهما. اللغة وسيلة حل كل اشكالية في الوجود، لكن ولم ولن تكن مشكلة قائمة بذاتها، اللغة هي ام كل المشاكل في الوجود، لكنها ليست مشكلة مجردة عن ذاتيتها ووجودها المعبّر عن كل شيء يدركه العقل كوجود اشكالي.

لا اعتقد علينا فهم الامر بالمعكوس كما يرغب البعض من الباحثين ان البنيوية كنسق فلسفي معرفي غائم في معظم طروحاته الفكرية يتقدم اللغة بدلا من اعلائه شان اللغة – وهذا هو جوهر ما نادت وجاءت به البنيوية والتفكيكية وغيرهما من الفلسفات في جميع معالجاتها في فضاءات المعرفة –والفكر، في اعتبارهم الساذج ان حل مشكلة اللغة، يعني حل كل المتصّلات والمعضلات التي خانت اللغة التعبير عنها  من فلسفة وفكر ووجود.

ولم يكن في اهتمام البنيوية تحطيم هيكلية النسق اللغوي الشكلاني كتجديد لا يمس مضمونية المحتوى اللغوي،كما فعلت التفكيكية عن سبق قصد واصرار . بل بالعكس ان اللغة متقدمة على الفلسفة كوسيلة تواصلية عامة و البنيوية كنظرية ومنهج فلسفي نسقي وجدت  في اللغة رمزية دلالية نقدية وتاويلية تاريخية غير مسبوقة غير مكتشفة. وملاذا مسعفا لها في معالجة قضايا وامور ومشاكل عالقة في الفلسفة والانثروبولوجيا والتاريخ وفي الايديولوجيا والسرديات الكبرى والادب وغيرها. وهي من اختصاصات وميزات الرمزية اللغوية البنيوية والتداول المعرفي التواصلي في الاشتغال على وسيلية وتوظيف اللغة حصرا.

ولم تكن البنيوية ولا غيرها من نظريات المعرفة ان تظهر وتكون الا واحدة من اختراعات ومكتشفات مجالات استخدام وظائف اللغة المتعددة. تضحية اللغة ان لاتكون سببا في سوء التعبير اللغوي لمضامين مباحث الفلسفة كما في الادب والتاريخ وعلم النفس. فاللغة سابقة معرفية مادية على الفلسفة البنيوية او غيرها من الافكار،  ومن النظريات والمناهج الفلسفية كافكار تعبير قاصرة في غياب حضور توظيف اللغة الصحيح في نقل الافكار، لذا فالجميع يرفع شعار (خيانة اللغة) مهملين خيانة التفكير القاصر السابق على التعبير اللغوي في كل مجالات التاريخ والفلسفة والسرديات وغيرها. ولم تكن ولن تكون الفلسفات و النظريات والمعارف المنهجية سابقة دالة تتقدم اللغة كوجود تواصلي يمتلك التعبير الجودي لها. ان من اهم المسائل التي تغيب عن الاذهان، ان الوجود لا يكتسب حقيقته المادية قبل ومن غير مادية التعبير عنه لغويا سواء في الذهن، أوفي وجوده ماديا متعينا بفضل اللغة عليه لا فضل الفكر على اللغة.

اللغة بالمعنى الذي ذكرناه سابقا ميراث تاريخي متطور لا ميتافيزيقي (قبلي وبعدي) في مختلف التوظيفات والاشتغالات المعرفية الفكرية والتاريخية القديمة والمعاصرة. اللغة هي المرموزات اللغوية الدالة التوصيلية العابرة للازمان والتاريخ وهي المهمازالنسقي القبلي المحايث الذي اعطى الفتوحات النظرية المعرفية والفلسفية مغزى الظهور والبقاء التداولي عبر العصور. في كل هذا وغيره لم تكن اللغة اشكالية خائنة للوجود بل كانت الوسيلة الوحيدة التي عرّت الوجود في حقيقته.

لا نعتقد ان الارث المعرفي العلمي والفلسفي علّة ميتافيزيقيته هو في اشكالية اللغة وميتافيزيقتها وخيانتها بامتياز، كما ينعتها ويعبّر عن ذلك بعض الباحثين المتخصصين الذين الهمتهم محورية اللغة في الاشكالية البحثية الفلسفية في كل من البنيوية والتفكيكية ومباحث اللغة وغيرها ان اللغة هي ام كل رذائل الفلسفة الملحقة بها. بل ذلك الارث الفلسفي البحثي اشكاليته فكرية عقلية مضمونية قبل ان تكون اشكالية في قصور تعبير اللغة القيام بوظيفتهاالمعرفية والتواصلية، وان اشكالية الفكر الفلسفي تحديدا وعجز تجديده، وليس عقم ومخاتلة اللغة  بمعزل عن كل المستلزمات الضرورية التي تحكم المادة والظواهر والطبيعة والانسان والتاريخ والمعارف بالتغيير المستمر والتطور الزمني- الحضاري هو ما يتوجب  الاهتمام به كما دعت له التجريبية المنطقية التحليلية الانكليزية عند هيوم وجورج مور وبراترانرسل،والكف عن تحميل اللغة مساوىء الفلسفة واخفاقاتها عبر التاريخ.

اي ضيق افق ودوغماتية  ان نعتبر جميع القضايا التي شغلت البشرية قبل ولادة الفلسفة البنيوية هي محض هراء ميتافيزيقي لا علاقة له بالفلسفة... وماذا وصلنا من ارث هذه الحقول المعرفية التي اعتمدتها البنيوية في النقد والتطوير الجديد المحتمل.؟ وكذا الحال مع التفكيكية او العدمية والتاريخانية المعاصرة، وعلى ماذا طبّقت هذه الفلسفات والمعارف مفاهيمها الفكرية المنوعة في المراجعة ومحاولة اعطاء البدائل لما اخفقت به الحداثة وما بعد الحداثة في تجريدهما من التاريخية التحقيبية... ان جدل وحركة المادة والطبيعة والانسان والتاريخ يشير الى بداهة معرفية انه لا يمكن خلق قناعات جديدة وقراءات جديدة لميراث الانسانية بمعزل عن منهجية نقد ورفض او اعتماد بعض ما توارثته البشرية في هذه المجالات. والجديد يتخلق وينبثق دوما من رحم القديم. ان مشكلة البشرية ليس في اشكالية (ميتافيزيقا اللغة) كما يعبّر البعض. وانما الاشكالية في تعثّر المنجز البشري من معارف وافكار ونظريات يطالها التغيير الزمني التاريخي بالاضافة والتجاوز.

البنيوية فلسفة نظرية ومنهج مراجعة فكرية واسلوب نقدي قابل للقبول والاخذ به في نفس وقت انه قابل للدحض وابطال وتوقف فعالياته بحكم التطور التاريخي الزمني. وتمجيد البنيوية ليس معناه غلق الابواب امام بروز تيارات معرفية جديدة لاحقا لعل التفكيكية ومنهج حفريات اركيولوجيا المعرفة احداها وان لم تكن بافضل من البنيوية. وكذلك البنيوية التكوينية التوليدية عند ناعوم جومسكي التي تقوم على التوفيقية اللغوية هي واحدة من مناهج تطور البنيوية وتعدد اشتغالاتها.

يستبعد الباحث العنزي – دكتوراه فلسفة معاصرة – ان يكون للغة غير الصوتية والكلام الشفاهي اشتغالا مع شتراوس قائلا: (عندما نكون بصدد الحديث عن البنيوية كحركة علمية علينا ان نسجل اننا لم نعد في الحقيقة امام بنيوية واحدة كما نادى بها فردينان دي سوسير 1857–1913 سرعان ما وجدت اصداء واسعة وانتشرت في ميادين مختلفة وحقول اخرى غير اللغة)([2]).

ويضيف (اننا مع ليفي شتراوس 1908 – 2009 اصبحنا بصدد بنيوية انثروبولوجية اهتمت بدراسة حياة الانسان البدائي محاولة فك شفرة رموز الاساطير البدائية.... الخ.) ([3]).

البنيوية في تفرعاتها المختلفة في بحوثها مواضيع لاتعتمد علوم اللغة واللسانيات هي الاخرى لم تكن اشتغالاتها خارج نطاق اللغة التداولية، فهل كتابات شتراوس والتوسير وفوكو هي خارج فاعلية اللغة المكتوبة في توصيل افكارهم الفلسفية؟ ام هي خارج موضوعات دي سوسير في تناوله اللغة الصوتية والكلام الشفاهي لدى القائل البدائية في تشفيره حل تلك المرموزات داخل وظيفة اللغة التواصلية؟.

وصف الباحث (البنيوية بانها حركة علمية بعيدة عن اشتغالات واهتمامات اللغة).متناسيا شعار البنيوية (لا شيء خارج النص).- ويقصد الباحث هنا باللغة علم الاصوات واللسانيات اللغوية الصرف في تحويلها بحثيا وتوثيقها تدوينا فلسفيا مكتوبا، وهو لا اعتقد من الممكن ان لايستبعد وثاقة ارتباط اللغة، اللغة بمعناها المعجمي التداولي التواصلي الشامل كتابة وقراءة وتدوين اللهجات الشفاهية ومرموزاتها الدلالية التواصلية مجتمعيا على صعيد القرية والقبيلة واخيرا المدينة عند اقوام لا تزال تعيش حقب ما قبل الاتاريخ.

ولكن العلمية في اي منحى من ضروب التجريبية العلمية تكون خاصية اللغة كرمز تواصل تعريفي تداولي غير مستبعدة ولا تستغني عنها جميع العلوم الانسانية والطبيعية في نقل وتوثيق منجزاتها واضافاتها الجديدة كما في علوم الرياضيات مثلا، فهي تستعمل رموز علمية(المعادلات) لا يفهمها غير الشخص المعني بتلك الدراسات الرياضية والفيزيائية والكيميائية والطبية او الفلكية وهكذا.

ولو نحن القينا جانباً العلوم الانسانية الانثروبولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع والادب والسرديات والانساق الايديو لوجية ...فهذه جميعا علوم توثيقية تقوم على رمزية اللغة التواصلية التداولية المكتوبة والمسموعة والمرئية قبل كل شيء آخر. ونقدنا لهذا الميراث المعرفي  والعلمي والفلسفي والتاريخي. انما هنا ينصب نقدنا له ومراجعته على تصحيح المفاهيم الخاطئة في محمولات اللغة، وليس الاهتمام بتصحيح نحو اللغة والبلاغة وغيرهما. قريبا من هذا المعنى وافضل منه مايؤكده براتراند رسل قوله ما معناه :اننا اذا ما كرسنا جهودنا في قضايا وامورخصوصية اللغة قاموسيا، من نحو وبلاغة واستعارة ومجاز، لكنا اقرب الى العاملين في مجال وضع القواميس اللغوية، اكثر من ان نكون مفكرين تشغلنا قضايا الفلسفة التي تهم مصير الجنس البشري. واعتبر الفيلسوف رسل ان مشكلة اللغة في الفلسفة وغيرها من مجالات المعرفة، هي ان سوء استخدام اللغة طمس غالبية المعارف وكثير من المباحث الفلسفية وراء غموض وتجريدات اللغة المستعصية، وانه حان الوقت التعبير في كل مجالات الفلسفة والمعرفة بلغة واضحة وبسيطة تسمي الاشياء بمسمياتها الحقيقية التي تدخل في صلب اهتمامات الانسان العادي في حياته والابتعاد عن التجريد التخيلي الذي استهلك نفسه فلسفيا.

يتبع في الجزء الثاني من الدراسة

 

علي محمد اليوسف /الموصل

.....................

(1)  د. احمد عقلة العنزي-البنيوية اللغوية عند دي سوسير-عالم الفكر الكويت-ع2 مج42  ص43

(2) المصدر السابق ص42.

(3) المصدر نفسه، ص44

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم