صحيفة المثقف

خطوات

ممدوح رزقبعد موته في حادث؛ وزّعت زوجته أحذيته الكثيرة على غرباء كانوا في احتياج إليها .. لكن حينما ارتدى كل منهم حذاءً وجد قدميه تتحركان إلى أماكن لم يذهب إليها من قبل .. هناك من توجّه به حذاء الميت إلى شوارع يخطو فيها للمرة الأولى، وهناك من دخل مقهى لم يسبق أن جلس فيه أبدًا، كما أن هناك من قاده حذاء آخر إلى إحدى الحدائق التي لم يقصدها مطلقًا في الماضي .. لم يقتصر الأمر على التحرّك العفوي في مسارات جديدة، وإنما كان الوجود في هذه الأماكن مقترنًا بحدث غامض، وشعور غير معهود أيضًا؛ فأحد الذين تحرك به حذاء الميت إلى شارع ما توقف فجأة أمام بيت قديم مهجور، ووجد رأسه يرتفع كي تتطلع عيناه إلى شرفته المتهدمة لفترة طويلة، كأنه ينتظر ظهور أحد سكانه الذين ما عاد لهم وجود داخله، ثم أحس هذا الشخص بمرارة لم يفهمها مع انخفاض رأسه وعودته للمشي مغادرًا الشارع .. أحدهم أيضًا اكتشف وهو داخل المقهى الذي لم يسيق أن جلس فيه أبدًا أن أذنيه تستمعان إلى أصوات عدة كأنها تخاطبه وتضحك معه دون أن يستوعبها، كأنها تنتمي إلى أشخاص غير مرئيين لا يشاركونه الطاولة فحسب، وإنما ذكريات مجهولة أيضًا، حتى أنه عندما أراد أن يدفع ثمن كوب الشاي الذي تناوله قبل ترك المقهى؛ شعر بضرورة مبهمة أن يعطي نقودًا أكثر للقهوجي قيمة ما تناوله أولئك الذين لم يستطع رؤيتهم، وكانوا يكلمونه ويضحكون معه .. أما الذي ذهب به حذاء الميت إلى إحدى الحدائق فقد وجد نفسه يجلس فوق أريكة بجوار سياج من النباتات العالية التي تفصل الحديقة عن النهر، ثم تفاجأ بعينيه تتمعنان في امرأة جميلة تجلس وحدها فوق أريكة أخرى على الجانب المقابل له .. لم يكن يعرف هذه المرأة، ولكنه لم يقدر على إزاحة بصره عن نظرتها المهمومة، وملامحها المنكسرة، كما لم يكن بوسعه تضليل إحساسه المباغت بالرغبة الجارفة في التحدث معها، قبل أن يحسم الخوف ارتباكه الحاد، ويدفعه للوقوف والخروج من الحديقة، وهو يفكر بيقين ملتبس في أن ما فعله الآن سبق أن تكرر كثيرًا من قبل في نفس المكان ومع نفس المرأة .. لكن حينما أوشك هذا الرجل على اجتياز الشارع  توقف فجأة .. لم تكن هناك سيارات تعبر أمامه بل كان الطريق خاليًا تمامًا، ومع ذلك تسمّرت قدماه، أو بالأحرى قبض الحذاء على قدميه فمنعه تمامًا من التقدم رغم رغبته في التحرّك إلى الجانب الآخر .. رأى سيارة تمرق فجأة من شارع جانبي لتخترق الطريق بسرعة طائشة ثم تختفي في لمح البصر .. شعر بقدميه تتحرران من القيد المحكم للحذاء فأصبح قادرًا على عبور الشارع.

 

ممدوح رزق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم