صحيفة المثقف

صور من الثقافة الشعبية

المهدي بسطيليإن إنكار الثقافة الغربية لا يُشَكِّل في حَدِّ ذاته ثقافة، والرَّقصُ المَسْعُور حول الذّات المفقودة لن يجعلها تنبعث من رمادها

عبد الله العروي

لا يمكن الحديث عن المجتمع دون الحديث عن الثقافة، مستحضرين التعريف الذي قدمه الأنثربولوجي تايلور بأنها الكُل المُركب الذي يشمل المعرفة، والعقائد، والفنّ، والأخلاق، والقانون، والعُرف، وكلّ القدرات، والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع .إنها إذن جوهر المجتمع والسبيل لفهمه، وهو تحديدا ما نحاول القيام به من خلال هذه الورقة، كمحاولة بسيطة في فهم الثقافة الشعبية المغربية من حلال استعراض  بعض من صورها داخل المنظومة الاجتماعية.

لقد ظلت كل الدراسات الكولونيالية التي قاربت المجتمع المغربي في فترة الاستعمار الفرنسي وما قبله، تنظر للثقافة المغربية على أنها ثقافة بدائية، تقليدية، وذلك من خلال مقارنتها بالثقافة الأوروبية وفسر الباحثين المغاربة هذه النظرة بحضور الطابع الذي شكل الهدف الرئيسي من  قيام هذه الأبحاث، لكن هذا لا يلغي الأهمية التي تحصلت عليها هذه الأخيرة من خلال قدرتها على تفكيك البنيات التقليدية والعميقة للثقافة المغربية، ولا يمكن أيضا أن ننفي ما صورته هذه الدراسات بالكامل، مادامت معالم التقليد حاضرة داخل بنياتنا الثقافية بكل صورها.

ننطلق في البداية من خلال مساءلة السؤال الديني لذى المغاربة، والذي يرتبط بشكل وثيق بالسؤال السياسي، وهو نفسه السؤال الذي طرحه 'ادموند دوتي' عن تصور المغربي للوحدة الوطنية، فهي لا تخرج عن معنى الثقافة الروحية الذي يشكل الدين الإسلامي جوهرها أكثر من أن تكون وحدة إدارية، ويقول 'ليس هناك أشد وأخطر من الحركة التي تقوم على الدين لأنها تأخذ شكل حرب مقدسة'، ويثبت ذلك جاك برك أيضا بقوله 'لقد لعب الديني بالمغرب الدور الذي لعبته البيروقراطية بأوروبا '.إن ما يمكن تدوينه بهذا الصدد أن القومية المغربية –روحية ثقافية- تشكل العنصر الأساسي القائم بالإنتماء للوحدة الترابية وذلك يبدو مخالفا لما يتصوره الأوروبيين بمجتمعاتهم، وطبيعة الإنتماء إلى الوحدة الوطنية طبيعة روحية ثقافية ميزت المجتمع المغربي" .

يقول ادموند دوتي' "بما أن الدولة المغربية لها طابع ديني بالأساس، فإن فكرة القومية قد عوضها الإيمان وبالتالي فالفرد المغربي لا يختلف عن الأوروبي في فهمه للسيادة فحسب وإنما أيضا بالكيفية التي تطبق بها حدود ممارسة هذه السيادة"'،وبالتالي الدولة المغربية حسب دوتي كتصور يبنيه الفرد المغربي، لا تبدو حدود محددة بشساعة ترابية، بل سلطة رمزية تترجم كوحدة روحية تترجمها سلطة الإمام (السلطان) لتمتد ونظريا، لتشمل عمليا كل القبائل التي تصلي باسمه.

إن تصور 'ادموند دوتي' بغض النظرعن خلو خطابه من النظرة الاستعمارية أو وجودها إذا ربطناه بتصور 'عبد الله العروي' باعتباره من مؤسسي المدرسة الوطنية، سيبدو مقنعا لتبرير ماحدده هذا الأخير من عناصر محددة للوحدة المغربية. ويمكن أيضا أن نبرر قبول هذا التصو، إذا تأملنا تاريخيا كيف تقبل المخزن المغربي الإحتلال الفرنسي للجزائر كمصيبة عظمى وكارثة حلت بالإسلام، من خلال رسالة السلطان مولاي عبد الرحمان"...في شأن الواقعة التي ساءت الإسلام والمسلمين وأخذت عيون أهل التقوى والدين من استيلاء عدو الله الفرنصيص على ثغر الجزائر ..." ولم تكن لأحداث تطوان وتوغل الإسبان في الحدود الترابية المغربية، تأثير كبير على حدث احتلال الجزائر، بل اعتبرت من الدرجة الأولى اعتداء على الوحدة الإسلامية واعتبر الحدثين نازلة عظمى أعلن من خلالها الفقهاء إشهار السيف دفاعا عن حرمة الدين أكثر منه دفاعا عن حرمة الوطن.

في حقيقة الأمر هو بناء مترابط ارتبط فيه الديني بالسياسي، بل احتواه وشكل جوهره ومعناه، لكن الغريب في الأمر هو اعتبار الوجود الوطني وجودا دينيا يحكمه ويمنحه معنى ودلالة، وهو ما قد يجرنا لنقاش آخر عنوانه: ماهي معايير الحديت عن دولة إسلامية؟ ولعل الشرعية السياسية بالمغرب كانت شرعية دينية تؤطرها العديد من المفاهيم التي أنتجها الاسلام الشعبي، كالبركة والشرف...بل لطالما شكلت معايير القبول والإنتقاء داخل النسق السياسي المغربي، وآلية للضغط الاجتماعي، ولعل حادثة 'بوحمارة 'تؤكد ذلك، ألم يعهد 'الجيلالي الزرهوني' في ثورته الفاشلة إلى إعلان نفسه أسطورة دينية تمنحه الشرعية في منافسة هالة السلطان والقضاء على صورته؟

إن تاريخ المؤسسات التقليدية كذلك مع النظام المخزني بالمجتمع المغربي وخاصة منه تاريخ الصراع، استدعى استمرار الشرعية الدينية باستمرا، ألم تجعل القبائل الصوفية كذلك منافسا للشرعية الدينية للسلطان؟ وكان القول إلى كان السلطان ولد النبي فالنبي الله يرحمو مسكين ومولاي عبد السلام هو اللي خلق الدنيا والذين ولعل تاريخ العلاقة بين المخزن والزوايا، كان تاريخ صراع من أجل الإحتواء والبحث عن الشرعية الدينية التي تشكل روح الثقافة المغربية السياسية وعمقها.

جانب آخر بمكن نجده بالممارسات الدينية لذى المغاربة، فالمغربي يتصور أن للإسلام أركان خمسة لا يستقيم إلا بها، ومن خلالها، لكنه في نفس الوقت لا يمكن أن يتساهل مع من يتخلى عن ركن الصوم الذي أصبح طقسا دينيا اجتماعيا  بمجتمعاتنا، ويعتبره كافر ويمكن أن يتساهل مع من لا يصلي ويطلب له العفو والثوبة، ألا تبدو هذه حالة من السكيزوفرينيا؟

يحيل ذلك على فهم للمحتوى والمضمون الديني في اعتبار الفرد المغربي، ويتخذ من فهمه لهذا المحتوى حتى لو كان ضيقا العين التي ينظر بها لكل الأمور والقضايا باختلاف مجالاتها، ولايقبل النقاش في نظرته التي يعتبرها الصواب الذي لا يقبل النقاش، إن المغربي يعتبر النص الديني مقدس لما له من هالة، ويجعل من تصوره حبيس فترة من الزمن يحن دائما للعصر الذهبي الذي عاشه المسلمين ويحن باستمرار لهذا المجد العالق بالماضي، وهو في نظري ما جعل من الفرد المغربي إنسان بذهنية الماضي والحاضر.

هي إشكالية التقليد والحداثة التي لم يستطع الفرد المغربي أن يجد لنفسه تموقعا فيها، وهو جزء آخر تحضر فيه مسألة العلمانية التي لم نستوعب معناها أصلا ودخلنا في نقاش حولها، واستطاعت بعض الإيديولوجيات أن تسوقها للذهنية المغربية في شكل صورة بشعة، وصل الأمر بالبعض لربطها بالإلحاد والخروج عن الدين ...وما أن تتحدث عن العلمانية إلا وتجد نفسك متهم في عقيدتك ومحط شكوك تعتبر بمثابة ضريبة الخروج على النسق.

إن الفرد المغربي يستدعي الإسلام الشعبي في كل محطات حياته، وحتى في المسألة الجنسية كما تحدث عن ذلك أساتذتنا فالفرد المغربي يتعامل بنوع من الإنتهازية الخطيرة جدا، ألا نحرم الممارسات الجنسية خارج مؤسسة الزواج ونستدعي النص الديني من خلال تأويلاته باستمرار لتحريم ذلك؟ وفي نفس الوقت هناك إقبال على المحفزات الجنسية بالإضافة إلى الاستهلاك الخطير لموانع الحمل بشتى أنواعها،لأن الفرد المغربي يعتبر علاقته الجنسية الشرعية محكومة بشروط الحياء كما يتمثله هو، ويرفض كل محاولات النقاش من أجل متعة جنسية للطرفين، رغم حاجته المشتركة لذلك، ويبحث في المقابل عن متعة جنسية مع طرف آخر خارج العلاقة الشرعية، وقد يتقبل كل أنواع المتع الجنسية ويحللها حينها، ولعل ها التناقض خطير يعاني منه الفرد المغربي وينعكس بالضرورة على علاقته الأسرية.

كما أن المغربي منذ بلوغه، يجد نفسه مطالبا بفتح غزواته الجنسية الخاصة، والإستمتاع بعلاقته الجنسية مع نساء مختلفات، وعليه أن يبحث في أخر المطاف على أنثى حافظت على جسدها الذي لا تملك الحق فيه، وينادي بحقه المشروع في جسد طاهر بمعنى ما يتصوره، ويطلب الضمانة المتمثلة في عذرية الأنثى، ولعل هذه الممارسات وهذه الثقافة الجنسية لا يمكن أن نحمل الذكر المسؤولية، فيها حتى نختلف عن النقاشات التي تدعي حملها لقضية المرأة، بل إن الثقافة هي التي رسمت حدود هذه الممارسات وجعلت منها قانونا اجتماعيا، وللأسف فقنوات  التنشئة الاجتماعية  تعمل على تمرير هذا القانون الذي جعل للمجتمع أدوار وقوالب جاهزة يلجها كل من الذكر والأنثى منذ الطفولة .

أتذكر في طفولتي روت لي الوالدة أسطورة 'عايشة قنديشة' وطلبت مني أن لا أغادر البيت ليلا لأن الأخيرة تخرج وتقتل كل ذكر، وأنا أتسائل منذ ذلك اليوم ما سر هذا المخلوق الأسطوري؟

في حقيقة الأمر "عائشة القديسة "كما روتها الأسطورة في حالتها الأولى، كانت امرأة في غاية الجمال وشاركت في المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، وكانت تخرج ليلا لتهاجم الجنود الفرنسيين وكانو ينعتونها بالقديسة لجمالها وشجاعتها، لكن الذهنية المغربية شوهت صورتها فهي قبيحة رغم جمالها لأنها ولجت عالم الرجال وحملت السلاح.

نحن  ندعي الحداثة باستمرار وندعي الحقوق وغيرها من المفاهيم الرنانة، لكن يتضح أن هذا لا يتجاوز الشكل وربما حتى نخبتنا المثقفة، والتي تدافع باستماتة عن مطالب الحداثة لا تعمل بها، في حياتها الخاصة وكأن المسألة تتعلق باستعداد فطري لتقبل هذه التمثلات،إنها قوة الثقافة

إن الحديث عن الثقافة يستدعي نقاشات واسعة وتفكيرا شامل، وقد نجد لكل  مسألة ارتباط بقضايا أخرى لكن في حقيقة الأمر وبشكل شخصي، أعتبر أن الإجابة عن أخطر المشاكل اتي تعيشها مجتمعاتنا موجودة في ثقافتنا، التي لم نتصالح فيها مع زمن موحد وواحد، والخطير في الأمر هو الاستمرار في تطويع الحاضر لأجل الماضي والدفاع عن الإيديولوجيات الثقافية بنوايا خفية .

 

المهدي بسطيلي –طالب باحث بسلك الماستر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم