صحيفة المثقف

محاولة في فهم اللعبة السياسية بالمغرب

المهدي بسطيلي"نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديموقراطية برلمانية واجتماعية.يقوم النظام الدستوري للملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديموقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة. تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الاسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديموقراطي"

المصدر الفصل الأول من الدستور 'أحكام عامة'

لا يمكن لأحد أن ينكر أن المغرب منحدر من القبيلة، بل إن القوة العلمية التي لازالت تحظى بها العديد من الأبحاث العلمية، من هذا الباب في شق منها تأكيد على أن المغرب، هو اتحادية قبائل، مستدلين على ذلك بظهور مقومات القبيلة، واستمرارية تواجدها على مستويات عدة، خاصة منها المستوى السياسي. وقد ظلت أغلب الدراسات التي قاربت المسألة القبلية في المغرب، في نسق التاريخ والأنثروبولوجيا بشكل خاص، تحاول تفسير التحولات التي عاشها المجتمع المغربي، وما مدى صحة القول، باستمرارية البنية التقليدية أو تفككها، ونحيل هنا على رواد الطرح الإنقسامي، حيث شكلت الانقسامية كنظرية لقراءة الحياة السياسية بالمغرب .

وانطلاقا من التعريف الذي يضعونه للقبيلة، بأنها " نسق من التنظيم الاجتماعي يتضمن عدة جماعات محلية مثل البدنات والعشائر والمداشر تقطن إقليم معين يكثنفها شعور قوي بالتظامن الالي والوحدة"، ويمكن اعتبار التجديد الذي وضعه "افنس برتشارد" تلميذ مالينوفسكي للقبيلة، اقرب تعبير عن خصائص القبيلة الإفريقية التي استخلصه في دراسته لقبائل النوير بالسودان.

والقبيلة عند برتشارد هي الفاعل في النسق السياسي التي تحدد ملامحه الظروف الايكولوجية، والمعاشية هي التي تحدد أشكال العلاقات وأنواعها، ويرتكز هذا النسق على القرية كوحدة صغرى، يتم النفود السياسي داخلها حسب شبكة المصاهرات وهذه الشبكات تنقسم الى فروع قبلية، أولية، ثانوية، أما العلاقات بين مكونات النظام القبلي، فتقوم على الانصهار والانشطار.[1]وقد تم توظيف ملامح هذا التعريف، من طرف "ايلنست غيلنر" على قبائل الاطلس الكبير بالمغرب، ليجيب على سؤال، علاقة القبيلة كمؤسسة اجتماعية بالحياة السياسية .لقد وجد غيلنر أن النظام السياسي والاجتماعي لهذه القبائل، نظام يسوده الإنقسام، ويعني ذلك أن كل قبيلة تنقسم إلى فروع، تنقسم بدورها الى أجزاء، إلى أن تصل الى مستوى الوحدات العائلية، يدير شؤونها أمغار يتم انتخابه بالانتداب بين القبائل، كل سنة وآخر يدعى أمغار وينظر في جرائم الدم، والشرف، له هالة تحول دون التفكير في عزله من منصبه .[2]

إن تطبيق هذه النظرية، وخاصة على الحياة السياسية بالمغرب من طرف الباحث الأمريكي "جون واتربوري" في الفترة الحرجة من تاريخ المغرب، في أطروحته الشهيرة "أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية بالمغرب"، والتي عمل من خلاله على تأكيد استمرارية النمط الانقسامي في البنية السياسية للدولة المغربية، يزكي توظيفنا لمفهوم القبيلة في هذا السياق بالذات، لنطرح السؤال هنا، هل يمكن الحديث عن الدولة المغربية في منهى عن القبيلة ؟

آخذين بعين الاعتبار التعريف الذي يقدمه جون واتربوري أن" المغرب تحول الى اتحادية قبائل، تتحكم فيه أجزاء يحكمها الانصهار والانشطار ضمن إطار اللعبة السياسية خاضعة لأمير المؤمنين، الذي يعرف كيف يحدث انقساماتها بذكاء."

ينطلق رواد التصور الأنجلوسكسوني من اعتبار مفاده أن المجتمع المغربي منحدر من القبيلة، وذلك بسبب حضور الخصائص القبلية التي تحددها النظرية الإنقسامية، لكن ما علاقة المجتمعات القبلية بالسلطة السياسية؟

هو نفسه السؤال الذي وضعه 'النست غيلنر' على قبائل احنصال بالأطلس الكبير [3].وما يميز النظرية الانقسامية هو قابليتها للتمدد على يد الباحثين، حيث شكلت العين التي درس بها "جون واتروري" اللعبة السياسية بالمغرب، والتي توجت بأطروحته "الملكية والنخبة السياسية بالمغرب "حيث شكلت مرجعا إن لم نقل مصدرا أساسيا للباحثين المغاربة بمختلف تخصصاتهم في مجال الفكر السياسي والسوسيولوجيا السياسية [4].ركز واتربوري على النخبة السياسية المغربية، باعتبارها الفئة التي تتدخل في عملية توزيع منافع الدولة والمشاركة في القرارات، وقد حدد مكونات هذه النخبة من الأحزاب السياسية سواء أحزاب اليمين وأحزاب اليسار ثم الأسر الكبرى والقبائل والضباط والعلماء والشرفاء وغالبا ما يكون قادتها الموظفون السامون من الحكومة، وأكد أن أسلوب هذه النخبة ذا أساس انقسامي شبيه بالأسلوب الذي تحدثه القسمات الصغرى بالنظام القبلي محكومة بالانصهار والانشطار. ولعل ذلك ما يؤكده "عبد الله ساعف" [5]بأن النخبة المغربية تعتمد مسلكيات شبيهة بمسلكيات القبائل المنظمة طبقا للمبادئ الانقسامية. في حين عمل المخزن على استدماج الممارسات السياسية التقليدية بالحديثة، وتجلى ذلك بعد خروج المعمر الفرنسي، وتبنى قانون مخزني يشتغل على الطقوس الرمزية العتيقة، بالإضافة إلى القانون الدستوري الذي فرضته الحماية، إن هذا الاستدماج التقليدي الحداثي بدسترة الّإرث المخزني جعل التاريخ المغربي مرتبطا بتاريخ المؤسسة الملكية، وجعل الدستور المغربي يتشكل من طابق علوي يمثل روح الغرب، وآخر سفلي عميق يجسد عمق الموروث والروح العميقة وهذا ما سنستفيض في ذكره لاحقا. كما عملت المؤسسة الملكية على تأكيد تموقعها بوظيفة التحكيم ولعب دور 'الأكرامن' للتعالي عن كل الانقسامات داخل اللعبة السياسية، وتعزيز السلطة من خلال بث الخلافات بين الفرقاء ، وقد أكدت المؤسسة الملكية دائما تشبثها بمفاهيم البركة والشرف كجوهر وعمق الشرعية التي تبرر تواجدها.وقد أعلنت المؤسسة الملكية لرغبتها في كسب رهان العالم القروي كخزان للمشروعية الانتخابية عبر تدجين النخب وصناعة الأعيان الجدد [6].

إن النسق السياسي المغربي يعمل من خلال مزج التقليد والحداثة من أجل تعطيل المسار التاريخي لتقوية الجهاز المخزني بالدولة المغربية وذلك على حساب مسلسل الديموقراطية التي تعلنها الدولة ظاهريا في مؤسساتها فأصبحت الحياة السياسية بالمجتمع المغربي، بين إرثين: ″إرث العادات والتقاليد في علاقتها بالسلطة وطرق تدبيرها، وإرث الاستعمار في شكل بنيات تحتية وآليات معقدة غير ملائمة في الغالب لواقع البلاد وحاجياته″، ونتيجة لهذا ″الإرث المزدوج″، تحاول التوفيق بين المؤسسات التقليدية (الزوايا، القبائل، النظام المخزني، ...)، وبين القواعد الجديدة التي أصبحت تفرضها المؤسسات العصرية والنظام الاقتصادي الحديث وآليات التدبير الجديدة للأحزاب والنقابات .... دون المساس بما أسماه واتربوري ب ″الشخصية المغربية″.ترتبط الحياة السياسية بالمغرب اذن بثوابت ووظائف هي:

وظيفة سياسية تتجلى في التحكيم كوظيفة قديمة موقرة موجودة قبل الحماية، حيث إن "الشريف أو الوالي" هو الذي يمارس دور الحكم على العموم (التقديس) ، لكن نقلت وظيفة التحكيم للملك ولجان التحكيم التي تتدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب السياسية (خصوصا بعد انقسام الحركة الوطنية سنة 1937، والصراعات الداخلية التي عاشها حزب الاستقلال في الفترة ما بين 1956 و1958، والتي أفضت إلى انشقاقه سنة 1958)، [7]

دور سياسي يضطلع به زعيم: لا يمكن ضمان التوازن بالمجتمع المغربي ولا تغير موازين القوى، إلا بالانضمام لزعيم والالتفاف حول عقيدة، وهذا هو حال الأسلوب السياسي بالمغرب (مثال علال الفاسي بحزب الاستقلال، والمهدي بن بركة بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، رغم رفضه لهذا الأمر في البداية، لكنه استجاب في الأخير لذلك نزولا عند رغبة أتباعه) .

يتجلى الأمر إذن، في حرص الزعيم السياسي على تبني وممارسة مجموعة من العادات والتقاليد للمحافظة على أتباعه (النسب، الانتماء للقبيلة، المصاهرة، ...)

ولعل الأمر الغريب هو استمرارية محققة لهذه اللعبة السياسية، ألم تتحالف الأحزاب السياسية بشكل جماعي ضد حزب العدالة والتنمية لإضعافه حينما تقوى؟هو نفسه أسلوب القسمات القبلية الذي تحدثنا عنه سلفا، بالإضافة لاستمرارية العلاقة بين الشخص والمريد في أحزابنا السياسية لكل زعيم أتباع يناصرونه...

إن النسق السياسي المغربي ارتبط بشكل قوي بمحددات وثوابت لم يقطع معها وكأنها قوالب جاهزة لابد أن يلجها كل من دخل الحياة السياسة بالمغرب، وربما هذا هو المفسر الأساس لفشل الأحزاب السياسية المغربية، وارتباط وجودها بالحياة السياسية المغربية بشكل موسمي (الانتخابات) وتفقد نجاعتها على المدى البعيد...

نضع هذه الورقة كمحاولة للفهم وتحليل بسيط للنسق السياسي المغربي، ونتساءل من خلالها عن استمرارية النسق التقليدي وأسباب ذلك، سعيا لتقويم النموذج الديمقراطي بهذا الوطن العزيز وعقلنه الحياة السياسية .

"لابد من القطع مع كل أشكال التقليد"

 

بقلم: الهدي بسطيلي

طالب باحث سلك الماستر- المغرب

.........................

[1] Salah éden Med. Maroc. Tribus. makhzen et colons Ed l’ harmattan; paris ;1986

 [2] لأنتربولوجيا والتاريخ- حالة المغرب العربي مقال ليليا بنسالم -، عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق. دار توبقال، الدرا البيضاء، ¹1988

[3] التحليل الانقسامي للبنيات الاجتماعية في المغرب /حصيلة نقدية/ المستقبل العربي/ع75بتاريخ 1985

[4] سوسيولوجيا المغرب احمد الشراك /مرجع سابق

[5] D ; abdallah saaf /images politique du maroc/ed okadLrabat 1988P79

[6]المخزن في الثقافة السياسية المغربية /هند عروب /وجهة نظر 2003

[7] واتربوري، جون. أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية، ترجمة عبد الغني أبو العزم، عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق. مؤسسة الغني للنشر، الرباط، 2013 (الطبعة الثالثة) اسلوب النخبة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم