صحيفة المثقف

حوّاء ليست من ضلع آدم وما ملكت أيمانكم لسن سباياكم

قراءة في مطلع سورة النساء

إذا فهمنا أنّ التقوى هي صيانة النفس؛ فإنّ آلة الصيانة الأولى هي المعرفة، أيعقلُ أن يطلبَ منا صيانة اجتماعنا الإنسانيّ تأسيساً على معرفةٍ أقلُّ ما يقالُ فيها إنها مشبوهة! لكونها لا تؤدّي إلا إلى خلل فظيعٍ في العلاقات الاجتماعية، وبالتالي إلى عطالةٍ حضاريّة مدمّرة!

يشكّل الفهم السائدُ للعلاقة المنسجمةِ مع التقوى حرجاً كبيراً لكلِّ مسلمٍ مؤمنٍ بالقرآنِ الكريمِ كتاباً نهائياً من الله إلى الناس كافة، بلسانٍ عربيّ مبين، إذْ يرى في ما تنص عليه الاتفاقيّات الدولية المتعلقة بحقوق المرأة والطفل[1]، وشرعةُ حقوق الإنسان[2] ، ما هو أقرب للتقوى؛ لما تدعو إليه من حقوقٍ في العيش الكريم، والاستقلال، والحريّة التي تجعل الفرد مسؤولاً، بغض النظر عن جنسه ولونه.

بناء عليه؛ إما أن يكون كتاب الله يخاطب عالماً لم يعد موجوداً وليس لكلّ زمانٍ ومكان، وإمّا أن تكون الفهومُ التي وصلتنا هي التاريخيّة وينبغي أن نكون في حلٍّ من الالتزام بمقتضياتها!

استجلاءً لذلك، عمدنا إلى الآيات الكريمات المعنيّة بهذا الشأن، وتعاملنا معها بالتحليل للوقوف على مدلولاتها وفق منهجيةٍ تحليليةٍ ترقب الأسلوب والتركيب النحوي والصرفي وتتوخى الدقةَ ما استطعنا إلى ذلك سبيلا بحثاً عن الدلالة الممكنة بحسب زعمنا، ولا ندعي أنها نهائية بل هي ما نستطيعه، إذْ  يسهل عند البعض أن يتخذَ موقفاً بإزاء هذه القضية، فيقول هذا الكتاب من تأليف محمّد "ص"، ولا يكلف نفسه الاطلاع على هذا الكتاب، ولا ينبغي له التحليل ولا التعليل ولا التأويل، وعتاده من الدراية باللسان العربيّ المبين أنه يرفع المضاف إليه والمفعول، ويزعم أنّ معرفة الصرف والنحو غير ذات أهمية في تحصيل المعنى.... كما يزعم البعض أنّ الأوامر والنواهي في القرآن الكريم هي لعرب زمن التنزّل، ولا دليل من لدنه على صحة ما يقول ولا على بطلان سواه، إلا بعض نتفٍ من الحكايات والسير والمغازي، غير المحققة علمياً.

لا نريد أن نفند آراء هؤلاء وهؤلاء لنرد عليها، ولا نرد على الفقهاء والمفسرين، بل نريد أن نمارس المنهجية التي نعتقد بصوابية مندرجاتها بغض النظر عن النتيجة التي نتوصّل إليها.

إذن؛ ما المعرفة العلمية التي يريدنا النص أن نؤسس عليها تقوانا؟ وما هي مظاهر التقوى؟ وما هي مظاهر عدمها؟. ما علاقة التقوى وعدمها بالأمن الاجتماعي والخلل الاجتماعي؟

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[3].

عندما يتعلق الأمر بالاجتماع الإنساني، يأتي التنبيه بواسطة النداء "يا أيها الناس" ومفردة الناس تنطوي على الرجال والنساء، والصغار والكبار، ومن مختلف الألوان والأعراق. وإنْ كان لهذا الأسلوب في التنبيه من دلالة، فهي في أنه يهيّء لإعلان شرعة تريدُ الاجتماع الإنسانيَّ على نحوٍ مخصوص؛ وإلاّ، فلماذا مناداة الناس!؟ أما القول بأن المقصودَ بالناس أهل مكة، أو العرب، فهذا لا يغيّر في المطلوب شيئاً.

الآية تعقّب على النداء هذا بالأمر "اتقوا ربكم" والتقوى هي تحصين الذات، وإذ يقع فعل التقوى على "ربّكم" فهذا يمنح الفعل معنى مأخوذاً من الأبعاد الدلاليّة العديدة للربوبيّة، فهي العناية والرعاية والتربية والهداية وما يمكن أن ينتمي إلى هذا الحقل. والناس ناس لأنهم في هذه الأرض مربوبون، أي في عناية ورعاية وتربية وهداية... ومفردة الناس لا تطلق على مفرد، وجذرُها "أ، ن، س" "وهو ظهورُ الشيء، وكلُّ شيءٍ خالَفَ طريقة التوحُّش"[4]، ما يعني أن مفردة الناس تُطلق على الجماعةِ المؤتلفة، فيكون ائتلافها عقداً اجتماعياً يحمي حقوق الأفراد المكوِّنة لهذا الاجتماع، وهو مظهر الربوبية في حياتهم. وإذْ يكون التنبيه بـ"يا أيها الناس" لإلقاء الأمر عليهم بتقوى الرب "اتقوا ربَّكم"؛ فهذا يعني أن خللا حاصلا يهدد الأمن الاجتماعي أو العقد الاجتماعي، ومردُّ هذا الخلل هو في فقدان التقوى، أي السلوك اليوميّ المخالف لما تقتضيه الربوبيّة. فما هو هذا الخلل؟ وكيف يتجلّى في النص؟

تتّصف مفردةُ " ربّــ " المضافة إلى ضمير المخاطبين"ـكم" بالاسم الموصول "الذي"؛ فهو أداة نحوية من شأنها هنا توجيهُ الأذهان لفهم الربوبيّةِ من زاويةٍ مخصوصة، فتأتي صلة الموصول "خلقَكم" لتحدد هذه الزاوية المخصوصة.

وقع فعْل الخلْق على المخاطبين في أول الآية "يا أيّها الناس"، وقد وصل أثر هذا الفعل إلى مركّبٍ وصفي "نفسٍ واحدةٍ" بواسطة حرف الجرّ " من ". وحرف الجرّ هذا مُختلَف بشأنِ معناه؛ فهو عند الغالبية من المفسرين حرف ابتداء الغاية لتكون هذه النفس الواحدة مبتدأ الوجود الإنسانيّ السلاليّ، وتدلّ مفردة النفس هنا بحسبهم على "آدم" أبي البشر[5]. ويشير هؤلاء المفسرون إلى قلة تقول بأنّ "من" بيانيّة أي إنها تبيِّن نوع المادة التي خلق منها الناس. والغرض من هذا البيان نفهمه من خلال فهمنا الحمولة الدلاليّة للأمر"اتقوا ربكم"؛ إذْ لا يمكن لأمر أن يُطلب تنفيذه في الوقت الذي يُنفَّذ فيه، بل يطلب تنفيذه عندما لا يكون معمولاً به في الناس. وأن يبيّن علةَ وجوب التنفيذ في بيان كون الناس من أصلٍ واحد، أو مادّة واحدة، أقوى من أن يكونوا سلالةً أو سلالات؛ وهذا يحيل على سلوك يوميٍّ للناس يعارض ما يقتضيه خلقُهم من أصل واحد، فإنّهم يجورُ بعضُهم على بعض تبعاً لمواقف ضمنيّة فاسدة؛ فالمطالبة بتقوى الرب الذي خلقهم من نفس واحدة ترمي إلى دفع الجور بالتزام قواعد سلوكية ذهنيّة وحركية مؤسّسَة على حقيقة أنهم من أصل واحد. والسلاليّةُ لا تخدم هذه الفكرة لأنّها تنطوي على التفريع، والتفريع يحيل على الاختلاف الذي هو حق بين الناس؛ فهم مختلفون ألوانا وأحجاما، هيئاتٍ وألسنا، نساء ورجالا، صغاراً وكبارا...إلخ؛ وهذا لا يقتضي أمرَ الناس بالتقوى؛ لأنّ الاختلاف ليس فساداً، ولا ينبغي أن يكون سبباً للفساد في الأرض.

إذن، النفس الواحدة، هي المكوّن الواحد لكل الناس المشمولين بـ"ـكم" المخاطبين، هي الحقيقة الأولى، و في اللسان "النَّفْس عين الشيء وكُنْهُه وجَوْهَره"[6]، ما يستدعي أن نفهم اختراع الناس كان من جوهر واحد، ومن الجوهر نفسه كان قرينُه؛ فالنص يواصل بيان الأمر بالتقوى فيظهر الربوبية للناس ليسلكوا بما تقتضيه معرفتُهم ـــــــ إضافةً إلى خلْقِهم من نفس واحدة ــــــ أنه خلَق منها زوجها، والزوج بحسب ابن سيدة في لسان العرب " الفَرْدُ الذي له قَرِينٌ"[7]، فالزوج قرين زوجه أو هي لزوجها قرين[8]. ولازمُ هذا البيان في سياق التنبيه على ضرورة تقوى الرب؛ هو في أنّ خللاً ما في العلاقة بين الزوج وزوجه مؤسّساً على اعتبارٍ يغالط الحقيقة التي تقول بأنّهما من نفس واحدة، من جوهر واحد؛ فلا اختلاف بينهما في الرتبة إنما في الهويّة. وإن كان لا بدّ لأحدهما من أن يكون سيداً فلا يكون مردّ ذلك إلى كونه رجلاً، أو إلى كونها امرأة، فالتقوى تقتضي أن يكون مردُّ ذلك التفاضل إلى الحقّ، وإلى الحقّ وحده.

بالنظر إلى ترتيب الأفعال في صلة الموصول، نلاحظ أن فعل الخلق واقعاً على المخاطبين﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ قد سبق فعل الخلق واقعاً على زوجها ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، ويعطف عليه فعل البثّ واقعاً على الرجال والنساء ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾.

عندما يؤتى بالاسم الموصول "الذي " وصفاً لربكم؛ فذاك لغرضٍ محدد، وهو بيان ما يوجب فعل التقوى، والذي يوجب فعل التقوى هو الخلل القائم في سلوك الناس لاعتبار جهلهم حقيقةَ خلقِهم أو تجاهلها؛ فيأتي الفعل خلقكم من نفس واحدة هو المضاد الحيوي لهذا السلوك الذي يشي بأن بعض الخلق من جوهر مختلفٍ عن الآخر أو من حقيقةٍ أخرى غير الحقيقة التي خُلِقَ منها الآخر. ونفهم عندها أن مقاصد الآية ليست في بيان الترتيب الواقعي للخلق، بل في بيان ما يُلزم بالتقوى؛ لوقف التمييز ضد الآخر المختلف. وجاء فعل الخلق الثاني لا ليدل على حصوله بعد الفعل خلقكم، بل لبيان الحقيقة التي انطوى عليها الفعل خلقكم، وهي أن الفرد وقرينه من نفس واحدة، وحرف العطف "الواو" ليس للترتيب إنما هو للجمع مطلقاً. وإلى ذلك أشار ابن مالك في الألفية[9]:

واعْطِفْ بِواوٍ سَابِقًا أَوْ لاَحِقَا        فِي الْحُكْمِ أَوْ مُصَاحِبًا مُوافِقَا

وغاية الجمع هنا كما سبق وأشرنا هي في إبراز ضرورة التقوى مؤسّسةً على هذه المعلومة المهمة.

ويواصل النص المراكَمة، فيعطف الفعل "بثّ" على الفعل "خلق" بوصفه مظهراً آخر لإيجاد الناس، يقتضي الربوبيّة أيضا، فالمبثوث هو الرجال والنساء، وما هذا التفصيل هنا إلا بمقتضى خللٍ ما في العلاقة بين الرجال والنساء، وهذا الخلل كما تبيّنَ لنا مبنيّ على معلوماتٍ خاطئة تفيد بأنّ الرجل أعلى رتبة من المرأة، وهذا لا يتفق مع التنبيه "يا أيها الناس"، فهل الناس هم الذكور فقط؟! ولا يتفق مع الطلب الذي يأمر بتقوى الرب الذي خلق من نفس واحدة، ولا يتفق مع حقيقة أنّ الزوجين من جوهر واحد؛ وأن يعطف الفعل "بثّ" على فعل الخلق فذاك لبيان حقيقة الانتشار الإنسانيّ وتفرقه واختلافه، وأن يكون المبثوث رجالاً ونساء، فذاك تسييق للنظر في مقاصد الآية الرامية إلى تعديل العلاقة بينهما، وتصويبها بتأثير من معرفة الحقيقة التي لا تميز بينهما تميييزا في الرتبة وإن تفرّقا في الهويّة. فالبث كما يقول ابن فارس:"الباء والثاء أصلٌ واحد، وهو تفريق الشيء وإظهاره"[10] .

أمّا لماذا تقدّم الرجال بالذكر على النساء، فهذا تقديم المُلقي على المتلقّي في آليات البث الطبيعية، وهذه ليست فضيلةً للرجل، ولا نقيصة للمرأة؛ بل هي الطبيعة كذلك، إذْ لا ينزل المطر إلا بالتقاء غمامتين إحداهما سالبة والأخرى موجبة، فأيّ الغمامتين أرقى وأعظم!!! .

وأن يفرّق بين الرجال والنساء بمفردة "كثيراً" فذاك إمعان في التفريق بين عنصري النفس الواحدة، حفاظاً على هوية الرجل مختلفةً عن هويّةِ المرأة، والعكس. أمّا لماذا تقدّم ذكر الرجال على ذكر النساء ؛ فذاك لا يمنح الرجال مرتبة متقدّمة ولا النساء مرتبةً متأخرة؛ فالواو كما مرّ معنا لا علاقة لها بالترتيب. ومع ذلك نرى أن الذي يقتضي ذلك في هذه الآية الكريمة وفي سائر القرآن الكريم، هو طبيعة اللغة العربيّة بوصفها مسكن العرب ومظهر مواقفهم الذكورية، والله جلّ وعلا يخاطب الناس بحسب تقاليدهم القولية.

مفردة "كثيراً"  ليست وصفاً للرجال كما يحلو للبعض[11] أن يفهم، بل هي وصف للمصدر المحذوف "بثّاً"، وما حذفه إلا علامةً على عدم مقصوديته، بوصفه حدثاً مطلقاً غير مقيد بزمن، في الوقت الذي ينوب فيه الوصف "كثيراً " عنه، للدلالة على النماءالعددي[12]، وهو المقصود هنا. وتأخيره إلى ما بعد ذكر الرجال المبثوثين، أوْهَم بأنه وصفٌ للرجال،  وهذا لا يستقيم والوظيفة الدلاليّة الملحوظة هنا؛ إذ لو تقدم "كثيرا" وقال :" بثّ منهما كثيرا رجالا ونساء" لتغيّرت الدلالة وشطّت إلى غير مقصود الآية، فيكون الغرض إذّاك تأكيد البثّ ونمائه عدديا، وليس هذا ما يفيد تسويغاً للتقوى المطلوبة، بل المطلوب بيان المبثوث، وهم الرجال والنساء، لأن التقوى هي الاحتراز مما يغوي به التسلّط و الطغيان؛ لكون الفرق بالهوية بين الزوجين، قد يوهم بفرق في الرتبة الإنسانية.

ويؤكّد النص طلب التقوى مرّةً أخرى وذلك بإسناده أمراً مطلوباً إلى الناس المكنّى عنهم بواو الجماعة "واتقوا"؛ إلا أنه المرّةَ هذه يقع بهذا الفعل على لفظ الجلالة العلَم" الله" ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾.

عندما ينبه النص الناس بأسلوب النداء، ويلقي عليهم أمراً بالتقوى، ويقع بتقواهم على ربّ الناس؛ فإننا بذلك فهِمنا أن النص يَعتمد نمطا إيعازياً/ برهانياً يرجع فيه إلى مفردةٍ تكتظّ دلالاتها للإضاءة على مقتضى الأمر بالتقوى. مفردة "رب" تشير إلى العلاقة مع المربوبين، وهي هنا، علاقة خلق وتفريع ونشر، وكلها منّة يلقيها النص على الناس ليعدّلوا سلوكهم البينيّ، إذن؛ اتقوا ربكم، تعني اتقوه باعتبار علاقته بكم، وقد ذكر المفسرون أنّ معنى اتقوا هو احذروا، وهذا المعنى لا يفيد في هذا السياق، بل هو يقدّم لنا الرب، ويقدّم لنا الله على أنّه ممتلئٌ بشهوة التعذيب والانتقام، وحاشا للرحمن أن يكون كذلك. بل معنى اتقوا ربكم، أو اتقوا الله أي اتخذوا ربكم أو الله وقاية لكم، وهذا ما عنينا به تحصين النفس من مغويات الجور. وقلنا إنّ هناك خللاً في العلاقة البينية تتنافى مع الخلق والتفريع والبث كما وردت من رب الناس. فاتقوا ربكم يعني إصلاح ذات بينكم بهذه المرجعية المعرفيّة.

أمّا اتقوا الله، فـــهي بما هي عليه من دعوة إلى تحصين النفس دلالة على أنّ علاقتكم بالله لا تستقيم وسلوككم البينيّ فيه هذا الخلل، فاتخذوا الله وقاية لكم في علاقاتكم وفي معاملاتكم. الله إلهكم بإرادتكم، أنتم اخترتم واقتنعتم، وينبغي أن تكونوا قد التزمتم بما يقتضيه خياركم وقناعتكم.

ووقوع التقوى على الرب أو على الله، فهو لاعتبارين، الأول مرتبط بالربوبية وهي علاقة الخالق بمخلوقاته، والثاني مرتبط بالإيمان. فالرب ربكم سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا. أما الله فهو ليس إلهكم إلا إذا آمنتم بألوهيته. لذلك يطالب النصُّ الناسَ بالسلوك في علاقاتهم ومعاملاتهم ومواقفهم الضمنية والعلنية، باعتبار الربوبية، وباعتبار الألوهة. يعني أنتم مسؤولون عن الحياة المستقيمة، المؤسَّسة على قاعدة الأصل الواحد لكل بني البشر، سواء كنتم مؤمنين أو غير مؤمنين.

وتأتي مفردةُ "الأرحام" منصوبةً على الأرجح، لتعيّنَ موطن السلوك المستقيم الذي تغيَّته هذه الآيةٌ الكريمة، فعطف الأرحام على لفظ الجلالةِ؛ لتدل على أنّ تقوى الله جلّ وعلا تكون بالسلوك المستقيم مع الأرحام. فـ"اتقوا " واقعاً على الأرحام  تعني أن اتخذوا الأرحام وقايةً لكم من السقوط في الخلل والزلل المنافي للاستقامة المرجوّة في السلوك من جرّاء الإيمان بالله، وذاك منعكَسٌ جيّدٌ لتقوى الله الذي تساءلون به.

﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، بمنظارٍ تداولي ننظر إلى الضرورة التي استدعت التأكيد بـ:"إنّ"، لنرى أنّها في الخلل الحاصل في العلاقات الاجتماعية وبخاصة مع الأرحام، فهي لا تقف على ما تقتضيه تقوى الله، ولا تلتزم ما يمليه الإيمان بالله الذي تساءلون به، فالتأكيد هنا لإزالة الغفلة عن ربوبية الله لخلقه، وقد تمثلت هنا في العلامة "رقيباً" يقول ابن فارس: "الراء والقاف والباء أصلٌ واحدٌ مطّرد، يدلّ على انتصابٍ لمراعاةِ شيءٍ. من ذلك الرَّقِيب"[13]

وفي اللسان"راعَيْتُ الأَمرَ: نَظَرْت إلامَ يصير"[14]. وهذا يجعلنا نفهمُ دلالة إدخالِ "كان" هنا ؛ فهي لإثبات استمرار الرقابة على الإنسان، إذ  تختص كان بمرادفة " لم يزل " كثيراً، أي: أنها تأتي دالة على الدوام، وإن كان الأصل فيها أن يدل على حصول ما دخلت عليه فيما مضى، مع انقطاعه عند قوم، ... أو سكوتها عن الانقطاع وعدمه عند آخرين"[15] ويطرأ سؤال هنا في علّة العدول عن "لم يزل" إلى "كان" لنجدَ أنّ الأصل في "كان" هو الدلالة على حصول ما دخلت عليه فيما مضى، وليس هذا أصلاً فيما دخلت عليه "لم يزل"، والحاجة إلى إثبات الدوام سابقاً وحاضراً ومستقبلاً تقصِّرُ"لم يزل" عن حقها، وأنّ "كان"  تلبي هذه الحاجة؛ فكان استخدام "كان" لإثبات الدلالة المرجوة.

 وعليه، يكون التأكيد بـ"إنّ" من جهة، وماضوية "كان" من جهة ثانية، لا تطلب مجرد التصديق بالرقابة الإلهية للإنسان، بل تنكر غفلةَ الناس عن حقوق الأرحام، وهذا تعظيمٌ لفداحة الخلل في العلاقات الاجتماعية التي نبهت إليها الآيةُ الكريمةُ في مستهلّها.

مظاهر الخلل

استضعاف اليتامى

﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾[16]

اتقوا ربكم، اتقوا الله، والأرحام، وآتوا اليتامى....

من مظاهر التقوى في الحياة الاجتماعية السليمة أن يأخذ كل ذي حق حقه. وعلى ما يبدو من ملفوظ الآية الكريمة، أن هذه الحياةَ كانت تضج بخلل فظيع يطول الفئات الضعيفةَ في المجتمع، ويأتي على رأس هؤلاء اليتامى والنساء،  "عجز اليتامى عن الدفاع، وعن تحصيل حقهم في الميراث، جعل الورثة الكبار يأكلون اموالهم وحقوقهم، ولا يؤدون لهم نصيباً في الإرث"[17].

ويعطف النص على تقوى الله أمراً ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ فالتشريع بما يخص الضعفاء يبدأ برفع الحيف عن اليتامى، وأكثر المفسرين يقولون إن الإيتاء هو الإعطاء، غير أنّ المراقب لاستخدام مفردة إيتاء في القرآن الكريم يجدها قد وردت واقعةً على الزكاة اثنتي عشرة مرّة، ما يشي بأنها تختص بالفرض والواجب وأن يكون الإيتاء علامة على رفع الحيف ففي ذلك إشارةٌ مهمة لحجم المسؤولية فالإيتاء في الغالب واجب وأثبت للمفعول بينما العطاء تفضُّل وأقل إثباتا للمفعول[18]. وبالنظر إلى الصيغة "آتوا" نجدها تختلف عن صيغة "أعطوا" بالمدّ في أولها ليكون الإيتاء مختلفاً عن الإعطاء بالإمهال، فالإيتاء لا يعفي الوليّ من ولايته، بينما الإعطاء ـ لكونه من دون إمهال ـ يعفي الولي من ولايته إذا ما تم أداء الفعل. والحرص القرآني على أن تكون رعاية اليتيم والقيام على شؤونه والإنفاق عليه من ماله من مظاهر التقوى في المجتمع؛ استخدم فعل الإيتاء بدلاً من الإعطاء .

ومن مظاهر التقوى أيضاً ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾  من يتبدّل الخبيث بالطيّب! أيعقلُ أن يكون امرؤ بكامل قواه العقليّة يُقدم على ترك الطيب من المعاملات، أو الأفكار أو الممتلكات....؛ لصالح الخبيث منها؟!

الجواب الطبيعيّ عن هذه التساؤلات هو :"لا". إذن لماذا هذا النهي هنا؟

ألا يعني أن السياق الذي ورد فيه الأمر بإيتاء اليتامى أموالَهم، هو نفسه السياق الذي تحصل فيه مسوّغاتُ هذا النهي؟

تأسيساً على الآية الأولى التي نبهت الناس إلى ضرورة التقوى، يمكننا أن نفهم الخلل الفظيع الذي ينتاب الحياة الاجتماعية، وكبراءُ المجتمع يحسبون أنهم في عيشةٍ راضية، هم لا يحسبون أنهم بحرمان اليتامى من أموالهم إنما يقومون بعمل خبيث، بل هم في سلوكهم مع اليتامى إنما يأخذون ما يمكّنهم من دفع الأخطار عنهم، فاليتيم لا يرث لأنه لا يستطيع أن يحمل السيف، ولئن فعلوا فإنما هم يهدرون أسباب المنعة، لذا؛ لا يرون في سلوكهم هذا إلا ما يعزز مكانتهم حيث تدعو الحاجة.

إذن؛ يرى الشارع أن الأمن الاجتماعي يتحقق بأن تؤدّى الحقوق إلى أصحابها، وعندما يُنزل عدم إيتاء اليتامى أموالهم منزلةَ الخبيث فذاك لأن الناس ينفرون من الخبث ويقبلون على الطيّب، وإذا لم يكن لهذا الأسلوب من فائدة سوى تحريض المتلقّي على سلوكه فهذه مزيةٌ تكفي؛ فلها تداعيات كبيرة في التأسيس المتين لمنهج يبدأ بتشكيل قواعد أو معاييير في النفس يرجع إليها المتلقّي لتقويم سلوكه.

الطلب بالنهي هنا أقوى من الطلب بالأمر، وهو يؤدّي هذا المعنى تماماً، فتعطيل فعل التبدّل مسنداً إلى واو الجماعة" الناس" مطلوبٌ لضمان حياة اجتماعية سليمة، والمفعول الواقع عليه فعل التبدّل معطّلاً، هو "الخبيث" في علاقته مع "الطيّب"، وطبيعةُ هذه العلاقة كما يدلُّ هذا المركّب، هي اتخاذُ الخبيث طيباً والطيب خبيثاً. فالطلب هنا بهذه الصيغة يفيد تعطيل هذا السلوك، كما يفيد اعتماد رائز يتعيّن بموجبه الخبيث والطيّب، وقد سبق طلبه "اتقوا". وهذا ما لا يفيده الطلب بصيغة الأمر.

ويعطف النص على هذا النهي نهياً آخر ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾

مع أنّ النهي عن التبدّل مسيّقٌ في سياق إيتاء اليتامى أموالهم؛ إلا أنّه بلفظه يتجاوز هذه الخصوصيّة ولا يهملها، فالخبيث عام وكذلك الطيب؛ والنهي عن إحلال الخبيث محلّ الطيب يفيد العموم إلى الخصوص. وعليه، يأتي المعطوف هنا ليزيل توهما قد تنشره الجملة السابقة، مفاده أن الكلام عام ولا يخص اليتامى، فالنهي عن أكل أموالهم يفيد التخصيص. و إنزال عدم إيتاء اليتامى أموالَهم، منزلةَ الطعام الذي يحتاجُ إليه، فذاك لتحريض المتلقّي على نفسه التي تزيّن له هذا السلوك بزينة الحاجة الغرائزية حتى ليبدو أن الامتثال لطلب الانتهاء شبه مستحيل. وفي هذا ترويض للإنسان على مواجهة الرغبات في عرضها أولا على معيار الخبث والطيب، وثانياً على معيار الحاجة وعدمها. إنه تأسيس لسلوك يوفر الأمن الاجتماعي اعتماداً على سلطان ثقافيّ يستهدف العادات والتقاليد والأعراف و....

"لا تأكلوا أموالهم"، نهيٌ يعمُّ "الناس" وهذا مطلوب، غير أنّ "إلى أموالكم" تخصص أصحاب الأموال من الأوصياء، فهؤلاء تحدّثهم أنفسهم بزيادة ثرواتهم ولو كان على حساب الضعفاء، ويجدون مبررات كثيرةً لذلك، كما درجت العادةُ إلى زمن التنزّل؛ أن لا يورَّث اليتيم والولد الصغير، والنساء، بحجةِ عدم قدرتهم على حماية القبيلة أو العشيرة أو القرية[19]، لذلك لم تقف الآية عند أكل الأموال، بل أوصلت أثر أموال اليتامى إلى أموال الأوصياء بواسطة حرف الجر"إلى"؛ إذْ يفيد هذا الحرف في أصل معناه انتهاء الغاية بمقابل "من"، ولكونه هنا رابطاً بين أموال اليتامى وأموال الأوصياء؛ فذاك ليدل على الجشع والطمع، وأن يقال إلى بمعنى ظرف المصاحبة "مع"، فذاك مردود إذْ لو كان "مع" يفي بالغرض؛ فليس هناك من ضرورةٍ تملي العدولَ عنه. قد يكون اللبس في ذلك من كون "مع" يفيد المصاحبة، والمصاحبة هي الملازمة والمرافقة، بينما "إلى" يفيد الضم أي جمع الشيء إلى الشيء، فلو أن الآية استخدمت "مع" لما تناسب معناه مع فعل الأكل الذي يشير إلى جشع الأوصياء وطمعهم؛ إذْ ليس لزاماً أن يكون مال اليتامى مع مال الأوصياء علامة سوء نية، بينما الأكل لا مندوحة له عن ذلك، وهذا ما اقتضى إيراد "إلى".

واختتام الآية الكريمة بالتأكيد ﴿إنّه كان حوباً كبيراً﴾ مناسبٌ لمقتَضيات أوامر الآية ونواهيها "آتوا/ لا تتبدّلوا / لا تأكلوا"، كل هذه العلامات في صيغها وسياقاتها تدل على خلل فظيع يجعل العلاقات الاجتماعية لا تُنتج إلا ظلماً واستتباعا، وتعِد بفشلٍ حضاريّ كبير. وهذا ما يؤكّده المركّب الخبري ﴿إنّه كان حوباً كبيراً﴾.

لماذا اختار مفردة حوب حكماً على فعلهم؟ فالحُوب هو الإثم بحسب المفسرين[20]، وهو في "اللسان":"الهلاك، والحزن، والوحشة، والوجع"[21] وهو في "المقاييس" : الإثم والحاجة والمسكنة[22].تأسيساً على ما سبق يمكن أن نلاحظَ قصور مفردة "إثم" بإزاء الخلل الاجتماعي الناجم عن غياب التقوى، فالأبعاد المعجمية لمفردة "حوب" تشير إلى فظاعة الواقع؛ لذا، لن يكتفيَ النص بدلالة الإثم فقط، بل يجد في الحوب إثماً وزيادة، نفهمها من السياق، ومن خلال الأبعاد المعجمية المذكورة، فلفظة إثم قد تطلق على الخمر والميسر، وتعطف على العدوان..... بينما لفظة حوب لم تطلق في القرآن الكريم إلا في هذا السياق. ما يعني أنه الحكم الملائم الذي يقتضيه غياب التقوى.

وتأتي "كان" بين معمولي "إنّ" زيادةً في التأكيد لما تفيده من الاستمراريّة؛ إذْ يستفادُ منها في الدلالةِ على سوء هذا الخلل الاجتماعي ماضيا وإلى الأبد.

استضعاف النساء

﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾[23].

تعيدنا هذه الآية الكريمةُ إلى التحقيق في المخاطبين بهذه الآيات من أول سورة النساء.

"يا أيها الناس"، تحتمل أن يكون المعنيُّ بـ" يا أيها الناس" من عايشوا تنزُّل هذه الآية في المحيط القريب جداً، كما تحتمل أن يكون الناس الناس قاطبة في كل مكان وفي كل زمان. ومن المرجح أن يكون المعايشون المحايثون هم المعنيين، لأغراض تتعلق بمفاسدهم ومحاسنهم، بهدف تخليق أمةٍ تستند في تطلعاتها وسلوكاتها على أسس معرفيّة يقينية، تمكّنهم من التقوى. وعليه يكون الضمير في الأفعال التالية:"اتقوا"، "خلقكم"، "تساءلون" "آتوا" "ولا تتبدّلوا" "ولا تأكلوا" كناية عن المستهدف المباشر بالخطاب، وهم المطالبون بالتقوى بوصفهم النواة الأولى للأمة المرجوة. وكذلك الضمائر في "عليكم" و"أموالكم" و"أموالهم. ولا يعني قولنا هذا أن المعرفة المؤسِّسة ينعدم مفعولها بانقضاء العصر، بل يعني أنّني يجب أن أعرفها حتى أتمكن من الفهم، وبالتالي أفهم مقاصد الخطاب تأسيساً عليها.

إذا فهمنا (آتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا، ولا تأكلوا)، أنها مطالب يتوجه بها الخطاب إلى الأولياء والأوصياء، بهدف رفع الجور عن اليتامى المستضعفين، فهذا يعني أن الآية الثالثة من السورة نفسها إذْ تبدأ بـ" وإن خفتم" فالمخاطبون هنا هم أولياء اليتامى والأوصياء أنفسهم؛ فمن هم هؤلاء؟ أليسوا الجدّ العمّ والخال والأخ الأكبر وربما الصديق ..... والقاضي؟

ويستوقنا في هذا الأسلوب تعدية الإقساط إلى اليتامى بواسطة الحرف "في"، وهذا ما يجعل اليتامى ظرفاً مجازياً يتحقق فيه فعل الإقساط، ولذلك أهمية بيانية كبيرة، إذْ نلحظ من جرائها تحيّز الفعل وفاعله داخل اليتامى، ما يعني أنه من الأرحام أو ما بمنزلتهم. ولو أنّ النص عدَل عن "في" إلى أي أداة أخرى لعدل المعنى . وأن يكون المسندُ إليه في فعل الشرط هم من الأرحام فذاك يرقى  بالخطاب إلى مرقاة أخلاقية تبلغ حدّ الإلزام في الضمان الاجتماعي، على هذا النحو أو سواه.

لماذا الخوف من عدم الإقساط في اليتامى؟ طالما أنهم هؤلاء؟ أيكون مصدر الخوف أمراً له علاقة بالنساء وموقعهن في المجتمع فتأتي إباحة النكاح منهن نوعاً من التحصين في الظروف العصيبة؟ بخاصة وأنّ أكثر اليتمِ يكونُ من الحروب، وعليه فإنّ واجبات المجتمع تصبح كبيرة تجاه اليتامى والأرامل؟؟؟

ما هو هذا الأمر المتعلّقُ بالنساء؟

تُخلّف الحروب عدداً كبيراً من اليتامى، وهؤلاء هم أبناء رفاق الدرب المريرة والعسيرة، ومن يبقى حياً من جرّائها، ينظر في الأمر ويعرضه على نفسه، إذ كان من المحتمل أن يكون هو القتيل، وأبناؤه اليتامى؛ ويريد الآن تحت تأثير هذا الشعور أن يرعى أبناء رفيقه، أن يمسح رؤوسهم بكفه، أن يجلب لهم الهدايا، أتراه ينجو من ألسنة الناس لو تردد بين هذا البيت و ذاك  وذلك، ولا رجل في البيت، أليس في ذلك طعنٌ بكرامة المرأة واستخفافٌ بشرفها وعفتها؟ لذا؛ جاء جواب الشرط "إن خفتم"، "فانكحوا" .

أعتقد أن عدم الإقساط عائدٌ إلى عدم القدرة على القيام بالواجب، وهذا سبب وجيه للخوف، مع أنّه لن يصيب كلَّ من يتولى شؤونهم، لذا؛ استخدم أداة الشرط "إنْ" وهي أداة تفيد الاحتمال، وذاك لأنّ الخوف من عدم الإقساط هذا، لا يحصل مع الجدِّ مثلاً، أو خال اليتامى، بل غالبا ما يحصل مع الأخ عمّ اليتامى، أو الرفيق، أو الجار؛ فيأتي الأمر بالنكاح مثنى وثلاث ورباع، ليس أمراً موجها إلى شخصٍ بعينه في هذا السياق، بل هو أمرُ إباحةٍ شرطُه الخوفُ من عدم الإقساط مع اليتامى، إذ ينزع الحجّةَ من الرجل الذي يتذرّع بأنه متزوج ما قد يحولُ دون الإقساط؛ فيقدّمُ النصُ أصنافا من الرجال الغيارى على مجتمعهم، فصنفٌ منهم مقتدرٌ على الزواج باثنتين، وصنفٌ بثلاث، وصنف يتزوج بأربع، وبتقديري يمكن أن يكون هناك أصناف تتزوج بأكثر وأكثر، فالنص لا يضع حداً بأسلوبه هذا، وصنف يخاف الجَور فليكتف بواحدة، أو ما ملكت يمينه، أي ما يستطيعه. إذْ لا يمكن أن يكون الأمر أربع زوجات أو واحدة، ثلاث زوجات أو واحدة، زوجتين أو واحدة، بل الممكن ما يمكنكم القيام به.

وتستوقفنا في هذه الآية الكريمة "ما طاب لكم" فـ"ما" هذه، مصدرية زمانية، وما كان بإمكاني الموافقة على مزاعم تقول بأنها لغير العاقل، وأنّ النصّ بهذا الأسلوب قد أنزل النساء منزلة غير العاقل! ولم أدر السبب الذي يقتضي هذا الإنزال!

قلنا "ما" مصدرية زمانية، أي فانكحوا مدةَ طيب النكاح لكم من النساء، وهذا الأسلوب لا يبدو تشريعاً للنكاح بقدر ما هو تكليف بمهمةٍ تتحرّز بالنكاح وهي كفالة اليتيم، وتوصيل أثر النكاح إلى النساء بواسطة حرف الجر "من" فذاك لبيان النوع الذي يطيب النكاح منه وهو النساء وليس إناث اليتامى فهؤلاء لسن نساء بل هن بنات قاصرات،لا يملكن أنفسهن، بالتالي لا يحق للولي أن يتزوج منهن بحجة الرعاية والاهتمام. في هذه الحال كيف يكون شأن الذكور من اليتامى؟ ألا يحتاجون رعاية واهتماما؟ هل تحلُّ مشكلة يتمهم بزواج أخواتهم القاصرات؟أم أن النصّ يستبعدهم فلا ينظر في شؤونهم؟ فلتتواضع العقليّةُ الذكوريّة قليلا حتى تتمكن من حسن القراءة. ما كان ينقص المفسرين والفقهاء شيء من الذكاء ـ والأمر لا يحتاج ذكاء حاداً ـ ؛ بل كان ينقصهم الخروج على السائد من القيم الذكورية التي جعلتهم لا يتوقعون أن للمرأة حقاً، وأنّ للطفل حقا، وربما هذا لم يكن ممكناً في ذلك الزمن لشدة تمكن الذكورية من الحياة ومصادرتها بالكامل.

ويأتي التعداد لا ليضع حداً للزيجات، كأنْ يقال كان العربُ قبل هذه الآية يجمع كل رجلٍ تحته عدداً غير متناهٍ من النساء؛ فجاءت هذه الآية لتضع الرقم أربعة هو الحدّ الأقصى؛ بل جاء التعداد ليضع مخرجاً للتحرّج مما يُتوهم أنه عائقٌ يحول دون الإقساط في اليتامى. والأسلوب الذي ورد فيه التعداد لا يشي بأنّ "رباع" هو ما يجب أن يقف عنده الرجل، فلو أنه قال انكحوا اربعاً وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، كنا حسبنا الأربع حداً نهائياً، أمّا انكحوا مثنى، وثلاث، ورباع، فتعني أنّ العدد مفتوح على ما ملكت أيمانكم، أي ما ملكت قدراتكم على العدل. إذْ يرى جمال زعيتر أن اليد اليمنى"ترمز إلى الخير والقوة والحياة"[24] فلكونها ترمز إلى القوة لا يعني أنها ترمز إلى استباحة استرقاق النساء. وقد درجت العادة في القراءة أن يحصروا دلالة ملك اليمين في النساء المملوكات بسبب السبي أو نظام الاسترقاق. ولا أدري كيف يمكن أن نبعد عنا الخوف من عدم العدل بنكاح السبايا أو الإماء! والأنكى أنهم يقولون بأنك لست مطالباً بالعدل مع هذا الصنف من البشر! أيكون هذا من عند الله، الذي يقول "خلقكم من نفس واحدة" !!!!!.

خلاصة

لم يكن الهدف من وراء هذه القراءة المتواضعة، تسفيه ما درج عليه الفقه الإسلاميّ بمختلف مذاهبه، بقدر ما كان بحثاً في القرآن الكريم عما يعزز الانتماء إلى العصر على أسس ترتكز على السرديّة الإسلاميّة التي شكلت العقل العربيّ على مدى قرون من جهة، ومنهجيات التحليل المعاصر من جهة ثانية. وما تبيّن لنا بتوسلنا القراءة المنهجيّة الحديثة، وبتأثير من إلحاح العولمة وتطاولها على الخصوصية، ليس نهائيا ولا يدّعي ذلك، ولا ينبغي له.

وقد خلصنا في نهاية بحثنا إلى جملة خلاصات هي:

إن الأوامر والنواهي في مطلع سورة النساء ارتكزت على تثبيت حقيقة مفادها أن الناس من نفس واحدة، سواء كانوا بيضاً أو سودا، يتامى أو أرامل نساء ورجالا.

الأمر الأولي الضروري الذي لا مندوحة عنه هو التقوى، وهي صيانة النفس بوصفها نفساً تتعرّض على الدوام للإغواء بالظلم بمختلف أشكاله.

لا يمكن أن يكون أمن اجتماعي إلا بالتقوى، ومظاهر فقدانها في المجتمع كثيرة إلا أنها في مطلع هذه السورة لها مظهران:

أكل مال اليتامى

استضعاف النساء واستتباعهن للرجل .

الأمر بالتقوى هو أمر بإعطاء كل ذي حق حقه،

الآية الثالثة لا تنطوي على دعوة للنكاح بأربع بل هي دعوة للإقساط مع اليتامى، وإباحة النكاح بأربع تأتي في سياق حفظ حق اليتامى وكرامة الأرامل.

وعليه لا تكون المرأة ملك يمين الرجل بمعنى الأَمة ـ على الأقل في هذه الآية الكريمة ـ بل فهمنا أن ما ملكت أيمانكم تعني ما هو مقدور عليه من عدد الزيجات. حتى لا تكون الحقيقة التي تأسس عليها هذا الحكم بلا فائدة، إذ ما معنى أن ينبهنا النص إلى كوننا جميعا من نفس واحدة ثم يحط من قدر النساء بإزاء الرجال!

وأخيراً تبيّن لنا أن "أو ما ملكت أيمانكم" بحسب أهل التفسير والفقهاء والرواة، لا قيمة لها في حل مشكلة الخوف من عدم الإقساط مع اليتامى.

أرجو أن لا يكون ما نقوله ثقيلاً إلا أنه هو ما بدا لي بحسب قدراتي.

 والله من وراء القصد.

 

د. سعد كمّـوني

...............................

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

ابن فارس، أحمد، مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر بيروت، 1979.

ابن كثير، عماد الدين اسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة للنشر، الرياض، 1999.

ابن مالك، محمد بن عبد الله الأندلسي، متن ألفية ابن مالك، ضبطها وعلّق عليها عبد اللطيف بن محمد الخطيب، ط1، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، الكويت، 2006.

ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأفريقي المصري، لسان العرب، دار صادر، بيروت،د.ت.

اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة؛ الوثيقة ذات الرقم *0360793* الأمم المتحدة، 18/12/ 1979.

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بموجب القرار 217000، باريس في 10/12/1984.

البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، تحقيق محمد عبد الرحمن المرعشي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1424هـ.

جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلّي، تفسير الجلالين، تحقيق فخر الدين قباوة، مكتبة لبنان ـ ناشرون، 2006.

جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الساقي، ط4، بيروت 2001.

الجويني، عبد الملك، البرهان في أصول الفقه، تحقيق:عبد العظيم محمود الديب، ط4، دار الوفاء، المنصورة، مصر، 1418هـ.

الرازي، فخر الدين، التفسير الكبير/ مفاتيح الغيب، ط1، دار الفكر، بيروت، 1981،

زعيتر،جمال حسين، الجسد رموز ودلالات،دار العودة، بيروت، 2014.

السمرقندي، نصر بن محمد بن أحمد، بحر العلوم، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993.

السيوطي، جلال الدين، همع الهوامع في شرح جمع الجوامع من النحو والصرف، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1998.

الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن،تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة، 2001.

الفيروز ابادي، مجد الدين، محمد بن يعقوب ، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، تحقيق محمد علي النجار، وزارة الأوقاف ، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، ط3، 1996.

الماوردي،علي بن محمد بن حبيب، النكت والعيون، دار الكتب العلمية، ومؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، د.ت.. 

 .....................

هوامش

[1]  ) تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية والممارسات الأخرى القائمة على فكرة دونية أو تفوّق أحد الجنسين أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة) الجزء الأول، المادة الخامسة، الفقرة أ من اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة؛ الوثيقة ذات الرقم *0360793* الأمم المتحدة، 18/12/ 1979.

[2]  الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بموجب القرار 217000، باريس في 10/12/1984.

[3]  القرآن الكريم، النساء، 4: 1.

[4]  ابن فارس، أحمد، مقاييس اللغة، مادة "أنس"

[5]  السمرقندي، نصر بن محمد بن أحمد، بحر العلوم، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993، 1/ 328. الماوردي،علي بن محمد بن حبيب، النكت والعيون، دار الكتب العلمية، ومؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، د.ت، 1/ 446 . ابن كثير، عماد الدين اسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة للنشر، الرياض، 1999. 2/ 207.الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ط2، دار ابن تيمية، القاهرة، د.ت. 7/ 515 . ......

[6]  ابن منظور، لسان العرب، مادة "نفس"

[7]  ابن منظور، لسان العرب، مادة "زوج"

[8]  الفيروز ابادي، محمد بن يعقوب ، بصائر ذوي التمييز، تحقيق محمد علي النجار،وزارة الأوقاف ، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1996، ط3، 3/ 142.

[9]  ابن مالك، محمد بن عبد الله الأندلسي، متن ألفية ابن مالك، المكتبة الشعبية، لبنان، د.ت. ص37.

[10]  ابن فارس، أحمد، مقاييس اللغة، مادة" بثث".

[11]  الرازي، فخر الدين، التفسير الكبير، ط1، المطبعة البهية المصرية، القاهرة، 1938، 9 /162.. البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، دار إحياء التراث العربي، بيروت،د.ت.،2/ 58. جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلّي، تفسير الجلالين، تحقيق فخر الدين قباوة،مكتبة لبنان ـ ناشرون، 2006، ص258.

[12]  ابن منظور، لسان العرب، مادة" كثر".

[13]  ابن فارس، أحمد، مقاييس اللغة، مادة "رقب".

[14]  ابن منظور، لسان العرب، مادة "رعى"

[15]  السيوطي، جلال الدين، همع الهوامع، 1/ 437.

[16]  القرآن الكريم، النساء، 4: 2.

[17]  جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 5 /567.

[18]  الجويني، عبد الملك، البرهان في أصول الفقه، تحقيق:عبد العظيم محمود الديب، ط4، دار الوفاء، المنصورة، مصر، 1418هـ.1/ 161.

[19]  راجع جواد علي، م.س. ص.ن.

[20]  الطبري،، القرطبي، الرازي، .......

[21]  وَالْحُوبُ: الْهَلَاكُ ؛ وَقَالَ الْهُذَلِيُّ؛وَكُلُّ حِصْنٍ، وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ يَوْمًا سَتُدْرِكُهُ النَّكْرَاءُ وَالْحُوبُ؛أَيْ يَهْلِكُ. وَالْحَوْبُ وَالْحُوبُ: الْحُزْنُ؛ وَقِيلَ: الْوَحْشَةُ ؛ قَالَ الشَّاعِرُ؛ إِنَّ طَرِيقَ مِثْقَبٍ لَحُوبُ أَيْ وَعْثٌ صَعْبٌ. وَقِيلَ فِي قَوْلِ أَبِي دُوَادٍ الْإِيَادِيِّ؛يَوْمًا سَتُدْرِكُهُ النَّكْرَاءُ وَالْحُوبُ أَيِ الْوَحْشَةُ ؛ وَبِهِ فَسَّرَ الْهَرَوِيُّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى طَلَاقِ أُمِّ أَيُّوبَ: " إِنَّ طَلَاقَ أُمِّ أَيُّوبَ لَحُوبٌ ". التَّفْسِيرُ عَنْ شَمِرٍ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَيْ: لَوَحْشَةٌ أَوْ إِثْمٌ. وَإِنَّمَا أَثَّمَهُ بِطَلَاقِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مُصْلِحَةً لَهُ فِي دِينِهِ. وَالْحُوبُ: الْوَجَع . ابن منظور، لسان العرب، مادة "حوب".

[22]  الْحَاءُ وَالْوَاوُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَتَشَعَّبُ إِلَى إِثْمٍ، أَوْ حَاجَةٍ أَوْ مَسْكَنَةٍ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ. فَالْحُوبُ وَالْحَوْبُ: الْإِثْمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] ابن فارس، المقاييس في اللغة، مادة "حوب".

[23]  القرآن الكريم، النساء، 4: 3.

[24]  زعيتر،جمال حسين، الجسد رموز ودلالات، ص.369.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم