صحيفة المثقف

الحكامة في المجتمع المغربي

المهدي بسطيلي(بين الفاعل المحلي وسياسات التدبير بالمدينة المغربية)

"حدد الدستور الجديد 2011 معالم نظام الحكم بالمغرب بتوصيفه بالملكية الدستورية الديمقراطية البرلمانية والاجتماعية التي تتأسس على فصل السلط وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، ومبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، مع التأكيد على أن التنظيم الترابي للملكة تنظيم المركزي قوم على الجهوية المتقدمة"[1]

لاشك أن الحديث عن التنمية هو حديث عن مخططات علمية عملية محكمة، تتقصى التنقيب عن استراتيجيات وفرص تقويم المجتمع بعيدا عن الخطابات الشفوية الرنانة، وذلك استجابة لمبدأ الحكامة الرشيدة التي تتطلب تدخل مختلف الفاعلين في العملية التنموية، من مؤسسات رسمية، قطاع خاص، والفاعل المحلي الذي يعتبر شريكا أساسيا في هذا البناء.

ومما لاشك فيه يعتبر المجتمع المدني سبيلا مفتوح ومرحب به أمام الفاعلين المحليين في تقديم مقترحاتهم وآراءهم بقوة القانون، وذلك أن المخططات التنموية لابد أن تعتبر في الفاعل المحلي شريكا رئيسي لاحتكاكه أكثر بالمجال الترابي[2] .ولعل المسألة تطرح العديد من التساؤلات، حول فاعلية المجتمع المدني اليوم وماذا حضوره في نسج مخططات التنمية بالمجتمع المغربي وهو ما نحاول الحديث عنه في هذه الورقة، عبر رصد صيرورة العلاقة بين التنمية والمجتمع المدني والحكامة الترابية بالمجتمع المغربي.

ذلك أن تدبير الشأن العام بالمغرب شهد العديد من التطورات سواء على مستوى النهج أو المفاهيم على الأقل، فأضحى يعتمد بالأساس على البعد المحلي وعنصر القرب من المواطن،و إشراك المواطن في التدبير، وهكذا ظهرت جملة من المفاهيم تساير هذا التطور التدبيري، مثل الحكم التشاركي، الفاعل المحلي، ووحدة المدينة، وسياسة المدينة والحكم المحلي أو الجهوي،... مفاهيم تحيلنا طريقة خاصة في تدبير وتسيير الشأن العام، تتمحور بالأساس حول الفعل التشاركي لمختلف الفاعلين في المجتمع لوضع مخططات التنمية وتحقيق نجاعتها، وسعيا لوضع تشريح بسيط لهذه المستجدات التدبيريية لابد من وضع تشريح بسيط لأهم المفاهيم الممكنة للحديث عن الموضوع، من خلال طرح التساؤلات التالية:

ماهي الحكامة؟

هي مصطلح قديم من أصل إنجليزي، ومصدرها من الفعل الالتيني« gouvernance" «. أما المقاربة المؤسساتية للمفهوم فتستقي في الغالب التعريف المقدم في أدبيات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي :“ممارسة السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية في إدارة شؤون البلد على جميع المستويات"

ويتضمن الحكم الآليات والعمليات والمؤسسات المتطورة التي يعبر المواطنون والجماعات من خلالها عن مصالحهم وحاجاتهم، وتطلعاتهم، ويمارسون حقوقهم وواجباتهم القانونية، يعتمد المفهوم على المشاركة والشفافية والمساءلة وضمان العدالة في مجالات مختلفة من الحياة الاجتماعية والإنسانية[3] . ورغم غياب الاتفاق القطعي، حول تعريف موحد للحكامة حتى اليوم، إلا أنه من الممكن تحديد سمات الحقل الدلالي الواسع، الذي يغطيه وصف العمليات والروابط والتمفصلات التي تميز العلاقة بين مختلف الجهات الفاعلة المشاركة في صنع القرار، وبقدر ما أضحت المشاكل متعلقة بسوء التدبير أكثر من ارتباطها بنقص الموارد، تصبح الحكامة الرشيدة الشغل الشاغل في الخطابات العملية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، لمواجهة تحديات الندرة .

إن الحكامة اذن المدخل الوحيد لتبسيط التوجهات الإستراتيجية الكبرى للإدارة والتدبير، كما أنها في خضم عملية الشراكة، تهتم بعدم إقصاء أي عنصر، بمعنى استلهام كل الآراء والخبرات،الطاقات والإمكانيات البشرية المتاحةسعيا قي تحقيق غايات وأهداف، كعناصر تدخل ضمن فهم الحكامة الرشيدة، وهذه الأهداف والغايات يمكن تسطيرها وإجمالها في: التنظيم الجيد، وتوزيع المسؤوليات، وكذا الكفاءة في إسناد المسؤوليات،وأخيرا دعم المؤسسات وتأهيلها وتوفير التكوين العلمي المناسب لأن ذلك يكون في صلب الحكامة أساسا.

يأتي الحديث عن الحكامة في المغرب من خلال دستور 2011 بعد الاحتجاجات التي عرفها الشارع المغربي في ما سمي بأحداث 20 فبراير، واعتبر هذا الحدث بغض النظر عن الجهات أو الفئة التي أخدت الريادة فيه، كاشفا عن سوء تدبير لقطاعات الدولة، في سياق مركزية مجحفة كرست الحيف والتهميش على مناطق معينة بالمغرب وخاصة تلك البعيدة عن المركز، وبالتالي جاء دستور المملكة لتدارك الأمر ومقاربة المسألة التدبيرية بنصوص قانونية أساسية يعترف بها الدستور أولا قبل كل شيء، ووجهت الدعوة لاستدعاء الحكامة كصيغة للتدبير الفعال في مؤسسات الدولة، والاعتراف بها كمدخل لبوادر الإصلاح ووضع مخططات التنمية بالمغرب[4]، وتجذر الإشارة أن التقسيم الجهوي أعطى للجهات صلاحيات موسعة في تدبير مصالحها الخاصة عبر وصاية الدولة طبعا، ونص على تدبير تتشارك فيه تلات جهات على الأقل من قطاع خاص ومؤسسات الدولة الرسمية، والفاعل المحلي، الذي يعبر بشكل مباشر عن حاجيات الاندماج المجالي الذي يعايشه وذلك في سياق توازنات مع البنية الثقافية، لكن الأمر في الحقيقة لازال يواجه العديد من التحديات خاصة على مستوى التنزيل الموضوعي لنص القانوني الذي يتضمن هذه المقتضيات التي تحدثنا عنها، وعدم وضوح الدور والرأي أمام الشركاء في العملية التدبيرية التي تترجم بشكل مباشر الحاجة لطرح سؤال الفاعل المحلي. أي فاعل محلي نملك؟

أي فاعل محلي نملك؟

إنه السؤال الذي نطرحه باستمرار بالمجتمع المغربي، هل نملك فاعل محلي؟ بل أي فاعل نحتاج أصلا، وهو ما أسميته قبلا بغياب وضوح الدور، فهل نحقق الاستجابة لفهمنا البسيط ونحدد أهم مواصفات هذا الفاعل، في الفرد المكون علميا نظريا وميدانيا، حامل للمعارف الأساسية المنوطة بسؤال التدبير، والمتمرس ميدانيا عبر التكوين الرصين، ولعل هذا الجواب البسيط قد ينفي وجود فاعل حقيقي داخل نسق التدبير المحلي بالخصوص، ونطرح سؤال. ماهي المؤهلات العلمية للمنتخبين المحليين بالجماعات المحلية على مختلف بقاع المملكة؟ بل ماهي المستويات الأكاديمية التي يحظى بها البرلمايين اليوم؟ وهي حقائق مخجلة إذ نسب كبيرة لا تتوفر على شهادة الباكالوريا حتى، إن الأمر ضمني وجائز اذ يحيل على شروط ولوج حقل النخب السياسية الذي لا يعترف إلا بالرأسمال الرمزي والمادي في كثير من الأحيان ولا يعترف بغير ذلك[5]

في حقيقة الأمر حتى سياقات الحديث عن المجمع المدني بالمغرب تحتاج لغربلة موضوعية، تستحضر النص الدستوري في المجال، وخاصة منها الجمعيات النشيطة على الأقل، والعمل على هيكلة هذا الحقل عبر تكوينات رصينة تضعهم في الصورة المرجوة اليوم في مغرب الغد، وتمكنهم من منطقيات اشتغال رصينة تبعدهم عن كل الحسابات السياسوية الضيقة، التي تشكل دائما العائق في التنمية.[6]

أي حكامة في ساياسات التدبير بالمدن المغربية؟

تعني سياسة المدينة

"انخراط الدولة بثقلها في تخطيط وتدبير المدينة وتحديد ماهيتها وحدودها بغية توفير إطار عيش ملائم للساكنة الحضرية يكفل لها حقها في المدينة، بالإضافة إلى اعتماد مقاربة أفقية، في إطار رؤية شمولية مندمجة وتعاقدية تعتمد على مبادئ الحكامة الجيدة والتشاور، يتدخل في صنعها مختلف الفرقاء السياسيين والتقنيين المتواجدين في نسيج حضري معين، من دولة وجماعات ترابية ومجتمع مدني وقطاع خاص، من أجل التوافق حول مشروع حضري، يجعل من المدينة فضاء لإنتاج الثروة وتحقيق النمو، وللتضامن الاجتماعي والتوازن بين مختلف الفئات الاجتماعية من خلال العدالة الاجتماعية وبين الأحياء المكونة لهذه المدن عبر الاهتمام بالمرافق والخدمات العمومية والتنقلات الحضرية. "[7]

أعطى التطورالسريع لنسب التمدين التي اخترقت المدن المغربية منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم، والمتمثل في النمو الاقتصادي والسكاني وارتفاع كثافة المدن، إلى بروز العديد من التحديات والمشكلات،لامست الأصعدة المجالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.وعلى مستوى الاندماج الترابي، ارتفع النمو السكاني الداخلي للمدن، عبرالتدفق الهائل لسكان البوادي نحو هذه المدن منذ الاستعمار الفرنسي، وذلك إن صح القول كان مخططا لها من طرف المعمر الفرنسي، من خلال تقسيمات مجالية يسهل ضبطها، إلى بروز أنواع جديدة من السكن، كالسكن العشوائي أو الغير اللائق، ومدن الصفيح.[8]

. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد أدى ضعف البنيات التحتية من طرق ومناطق صناعية وغيرها إلى تراجع الاقتصاد المهيكل لفائدة الاقتصاد غير المهيكل، بالإضافة إلى الاتجاه إلى الاستثمار في الفلاحة  المعاشية التي اتخذتها الدولة خيارا استراتجي، مما أصبح يحتم على القائمين على المدن تطوير رؤى جديدة للتنمية تسمح بانبثاق مشاريع للاقتصاد المحلي، تمكن من استقطاب الاستثمار وإنتاج الثروة.

وذلك في سياق مفاده أن الاهتمام بالمجالات القروية وهيكلتها، سيكون سبيل للحد من الهجرة الداخلية وضبط نسب التمدين التي باتت في ارتفاع مستمر،فيما بالإضافة إلى تحديات الجانب الاجتماعي، المتمثلة في ظهور أحزمة الفقر والبطالة والجريمة والأمية والاقتصاد غير المهيكل. وبالتالي أصبحت هذه الأحزمة تعاني الهشاشة والفقر والاقصاء الاجتماعي، مما يهدد بانفجارات اجتماعية، وتحديات حقيقية أما المدينة المغربية.

لمواجهة هذه التحديات والمشكلات، بادرت السلطات العمومية إلى تبني سياسات عمومية لفائدة الطبقات الهشة والفقيرة، تهدف إلى محاربة الهشاشة وتطوير الاقتصاد الاجتماعي، وتوفير السكن، وتقديم خدمات الصحة والتعليم والكهربة والماء الشروب وغيرها من الخدمات الاجتماعية. وقد تميزت هذه السياسات في مرحلة أولى باعتماد مقاربات قطاعية إضافة إلى برامج ذات صبغة وطنية كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، كما تم على صعيد الجماعات الترابية خلق المجموعات الحضرية لتتولى تجميع وتنسيق الجهود المبذولة في تدبير وتنمية المدن، ثم تم تعويضها فيما بعد بنظام وحدة المدينة الذي ساهم في إضفاء صبغة وحدوية على المدن الكبرى المغربية وتمكين أجهزتها التقريرية من تتبع ومراقبة تراب المدن وتتبع المشاريع.

غير أن هذه المقاربات، وإن أدت إلى تحقيق بعض النتائج الايجابية، فقد افتقرت إلى التنسيق والتكامل، وبالتالي افتقدت إلى الفعالية والنجاعة الكفيلة بالقضاء على الفقر والتهميش والهشاشة والبطالة وغيرها من الآفات الاجتماعية والاقتصادية والمجالية والبيئية التي تعاني منها جل المدن المغربية خاصة وأنها ظلت باستمرار تسائل وجود الفاعل الملي والتدبير الحكماتي في نسج هذه المخططات، والقطع مع البنيات التقليدية السابقة والتي تظل راسخة بقوة حتى في المجال[9].

إن التاريخ المجحف الذي عانت منه المدينة المغربية جعل منها مشوهة الصورة، بين هوية التقليد والتحديث، نتيجة مباشرة لغياب الهيكلة الحقيقة لبناء المدينة المغربية، ولعل الدراسة التي سبق أن أحلنا عليها والتي قام بها' السوسيولوجي المغربي عبد الرحمان رشيق' تبين ذلك إذ تجد مدينتين داخل مدينة (المدينة القديمة، المدينة الجديدة) ويعود هذا البناء إلى مخططات الاستعمار، في عزل الفرنسيين عن المغاربة في تلك الفترة، في سياق حماية التقليد الذي يسهل في ضبط المغاربة. لكن الخطير في الأمر أن هذا البناء العشوائي استمر لعقود من الزمن ووجدت الدولة نفسها عاجزة عن الإصلاح، أمام ضعف الإمكانيات، كما أن البناء المجالي للمدن المغربية، في كثير من اللحظات كان بناءا اعتباطيا اذ تجد مجالات فلاحية بامتياز أصبحت تسمى مدينة فقط مع استقدام معالم الصناعة، لكن بغياب نوع من المراقبة والهيكلة لهذا الاستحداث، وهو في نظري ما عجل بظهور العديد من المشاكل الاجتماعية للأفراد أمام صعوبة الاندماج مع المجال والبحث عن الهوية .

إن التدبير الحكماتي الذي نتحدث عنه اليوم يسائل مخططات البناء بالدينة المغربية، ويحيل على حقائق خطيرة المتمثلة في العزوف عن النص القانوني والاتجاه نحو تدبير عشوائي للمجال، وتغييب مخططات البحث العلمي التي لا سبيل للبناء في غيابها.

إن إعداد التراب والتنمية والتهيئة... هي مفاهيم تعني ضرورة التنظيم والتدبير، وذلك حسب الإمكانات المتاحة في المجتمع بالتنسيق مع المعطيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، تهدف إلى إزالة الفروقات الاجتماعية وإلى تحقيق العدالة في عملية توزيع الموارد والخيرات واستثمارها في تحقيق التنمية، وهذا هو عمق وجوهر التدبير الحكماتي، لذلك لا يمكن أن نتوقع نجاح إصلاح وتغيير إيجابي لا ينطلق من عمق هذه المحددات فالتاريخ يحكم أن لا نجاح لإصلاح لا يستنبت في المجتمع.

  

المهدي بسطيلي- طالب باحث بسلك الماستر( ماستر سوسيولوجيا التنمية المحلية، جامعة ابن طفيل القنيطرة)

...................

[1] الفصل الأول من الدستور المغربي

[2] سعيد عبد الشفيق، الحكامة المحلية ورهانات التنمية بالمغرب،رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، سنة 2007، جامعة محمد الخامس السويسي،الرباط.

[3] براهيم فريد عاكوم، إدارة الحكم والعولمة، وجهة نظر اقتصادية، أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 0222،ص 55.

[4]

[5] عبد اإلله بلقزيز، وآخرين، ضمن ندوة المرصد الوطني لحقوق الناخب،) بتعاون مع كلية العلوم القانونية واالقتصادية واالجتماعية أكدال – الرباط، ( بعنوان: الديمقراطية التمثيلية تكامل أم تنافس؟ الخميس 23 يناير 2014

[6] لعيرج عودة،دور الفاعل المحلي في تجسيد حكامة المدن .

[7] أنور بوهلال، سياسة المدينة كاستراتيجية للتدبير التعاقدي بين الجماعة والدولة، كلية الحقوق مكناس

[8] عبد الرحمان رشيق، دراسة ميداينة،السياسيات العمرانية والعلاقات الاجتماعية بالمغرب

[9] المهدي بنمير " المدينة المغربية أي تدبير للتنمية الحضرية؟" سلسلة اللامركزية والجماعات المحلية (1) مطبعة دار وليلي للطباعة والنشر مراكش، الطبعة الأولى، 2005

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم