صحيفة المثقف

مقدمات نظرية لدراسة الحرب الأهلية الطائفية في العراق (2-5)

يوسف محسن2003- 2017

هل أن البريطانيين قد وحدوا على نحو مصطنع مناطق وولايات متباينة و مجموعات دينية، وعرقية، وعشائرية في ظل دولة لم تتطور الى أمة؟ الى أي حد كان الصراع الطائفي، والحكم السلطوي، نتيجتين للانماط البنيوية السياسية حددت تاريخ العراق منذ التأسيس الأول؟ التساؤل الذي يطرح عن ماهية الإشكالات البنيوية التي أعاقت تطور أمة عراقية منذ تأسيس الدولة الوطنية الحديثة العام 1921 على يد البريطانيين ؟ ماهي العوامل التي أدت إلى بروز االطائفية بوصفها العامل البنيوي في السياسة العراقية؟ فضلاً عن ذلك أن المجتمعات العراقية شبه منفصلة عن بعضها, سواء كان ذلك على الصعيد الجغرافي، أو الاقتصادي، أو البنى المجتمعية والتكوينات، والتنظيم المؤسساتي، وعلى الرغم من السياسات الادماجية التي مورست منذ التكوين الأول للدولة الوطنية (التعليم الموحد، والإعلام، والاقتصاد ،والتجنيد) ولكن لم تتشكل هوية أو أمة, حيث أن المجتمع العراقي يتشكل على الأنموذج الانقسامي, فالتمايزات الدينية، والمذهبية، والطائفية متجذرة في البنى الاجتماعية، وسوسيولوجيا تاريخ الجماعات.

عقم الدولة وعصيان الولادة

يطرح حنا بطاطو فرضية في غاية الأهمية إذ يقول: إن التوجهات القومية للدولة في حقبة ما قبل البعث استطاعت أن تتعايش مع الولاءات القديمة (الولاءات الطائفية، والقومية، والدينية) آنذاك واخذت تعمل على تآكل وتفتيت تلك الولاءات، هذه الفرضية أثبتت عقمها في تاريخية الدولة العراقية الحديثة عبر اصطدامها مع مفهوم العصرنة وإعادة بناء الأمة - الدولة، سواء كان ذلك في حقبة الجمهوريات، أوالدولة الفاشية البدوية الصدامية، وقد تحولت مجموعة الهويات العراقية الى تركيبات سرمدية متجوهرة، وحقل صراعات دورية، وصدام بسبب انهيار المشروع الليبرالي العقلاني ونمو الأصوليّات الدينية، والنزاعات الطائفية ورافق هذا الفشل انبعاث الهويات الفرعية، لا سيما هويات  الجماعات الدينية  وهو يمثل هزيمة للدولة، حيث جرى الدمج القسري بين الدين/ السياسة وتحول السياسة إلى حقل مقدس والامتثال الى دين الطائفة عبر إنشاء بنية مؤسساتية ذات نزعة عسكرية محاربة داخل الطائفية السلفية (الشيعية والسنيّة) وبسبب غياب التصورات الهرمية داخل بنية المجتمع العراقي، برزت المجموعات السلفية الجهادية الطائفية، سواء كانت السلفية الجهادية الشيعية او السلفية الجهادية السنّية،  وأصبحت محور العلاقات والهيمنة وإعادة إنتاج التمايزات الثقافية وتشكيل نسخ الحقيقة عبر مجال القوى والممارسة الانتوغرافية والمعتقدات الدينية.

طوائف وقوميات مقدسة

البنية الاجتماعيّة العراقية  تكوّنتْ من طوائف (communities) متمركزة على ذاتها، وكل منها يمتلك معاييره وتقاليده الخاصةَ به، وكل مجموعة طائفية تمتلك ميثولوجيّتَها الخاصةَ بها ما جعل العراق معرضاً للنزاع الدائم، ولكونه بلداً مركباً حديثاً كان محتوماً أن تدمره الضغوطُ المحلّيّةُ، حتى اصبح النظام السياسي، نظاماً طائفياً يستند إلى الطائفية بوصفها مؤسسة سياسيّة، وتجري عملية  مأسسة وندماج بجهاز الدولة، من أجل إنتاج مخيّلةٍ تاريخيّةٍ.

مشاريع وهمية وبناءات مثيولوجية

وقد شكل المجال الثقافي العراقي مجالاً واسعاً لإنتاج وإعادة إنتاج تراكمات الرأسمال السلفي الطائفي داخل الطوائف (سنّي/ شيعي) عبر إحلال مشاريع وهمية ثقافوية وبناءات مثيولوجية يتأسس لاهوتها السياسي على نظام مستند لتأويل العالم كنموذج نهائي، نظام مغلق يتسلح دائماً بأدوات المناعة ضد قرارات الواقع الاجتماعي وتصورات مغلقة، ويعود هذا ظهور (الطائفية السنيّة والشيعية السلفيتين) إلى أسباب متعددة.

أولأ: وجود مخزون تاريخي ضخم قائم على تمثيلات تاريخية ودينية، او يتم اختراعها في حالة اختفائها وانغلاق هذه الجماعات على بنية معرفية إضافة الى وجود ايديولوجيات خلافية.

ثانياً: أزمة الهوية التي تعصف بالمجتمعات المتحولة تاريخياً، ووقوع المجتمع العراقي بين هويتين التباسيتين هوية سياسية لم تتبلور، وهوية دينية متكونة ومتبلورة قادرة على إعادة إنتاج نظام الفروقات والخلافات .

ثالثاً: توظيف الرأسمال الرمزي للجماعات الدينية (الأفكار والعقائد والتقاليد) التي تشكل محركاً للتوترات المستديمة واحتكار الحقيقة السياسية، والدينية والتحول الذي يصاحب بنية الطوائف الدينية من هويات فرعية إلى مؤسسات دينية متكاملة.

رابعاً: إن كل جماعة دينية (شيعية/ سنّية) أخذت تشكل سردياتها الانثروبولوجية المتكاملة وكتلة المفاهيم والمقولات.

ذاكرة طائفية تنازعية

المعضلة السياسية التي يواجهها العراق أكثر تعقيداً فالخلافات بين السنّة من جهة، والشيعة من جهة أخرى بشأن ماهيّة الدولة العراقية لا تقلّ أهمية عن الخلافات اللاهوتية مع أن الطائفية لا تعكس الفروقات الدينية بين الجماعات فقط، وانما كانت دائماً متصلة بالسلطة، والموارد والهيمنة، ويمكن اكتشاف جذور النزاع في المخيال الديني والسياسي، حيث يستند المخيال السنّي والمخيال الشيعي إلى التاريخ لكونهما تبلورا عبر نموذجين متباينين, المخيال السنّي يتشكل عبر أنموذج البطل الذي يركز على الانجازات الحضارية الكبرى، ويتغاضى عن السلطوية والوحشية التي اتسمت بها الدولة الإسلامية الكلاسيكية, أما المخيال الشيعي فهو ينتج نموذج الشهيد من أجل بقاء جذوة فكر الامامة حية، لكون الشيعة شكلوا دائماً الاقلية المقصية والمهمشة في تاريخ العالم الاسلامي.

وهنا من الصعب أن نتناول التاريخ العراقي وتبدل تشكيلاته بالقطيعة عن تاريخ الجماعات الطائفية وصراعها على الدولة السياسية والسرديات الإسلامية الكلاسيكية (الإمام/الأمير) التي تعد احدى الديناميكيات البنيوية الداخلية لتطور الحدث السياسي اليومي، عبر المتخيل الطائفي السلفي الجهادي، الذي هو أداة رئيسة في تعيين الهويات والتمثيلات الثقافية، وأخذت نسقاً بنيوياً وجماعياً يؤسس على الاجتماع الثقافي العصباني.

فالخطاب السلفي الطائفي (اقصد هنا السلفية الجهادية الشيعية، والسلفية الجهادية السنّية) في العراق أسس مشروعيته بواسطة إنتاج تصنيفات تاريخية، وثقافية، ودينية مندمجة بالأرضية الاجتماعية، والسياسية،  والاقتصادية مبلوراً نموذجاً بنيوياً تركيبياً تبادلياً داخل حقل الثقافات التداولية الشعبوية وهي إنتاج إفرازات التحديدات المادية للمجتمع العراقي، ونظام البنى الذي يشكل الحاضن الأول للثقافة وتاريخ التمركزات الطائفية.

تفجير القبة العسكرية

لذا فإنّ صدام الهويات الطائفية العراقية بعد تفجيرات القبة العسكرية العام 2006، يؤشر إلى سيادة الرؤية اللاعقلانية الإقصائية التي تسعى إلى تقويض التنويعات الدينية لصالح خطاب ميتافيزيقي يستند إلى الاستبعاد التيولوجي المتبادل في التصنيف ويحمي الجماعات السياسية من عمليات الاعتراض عليها بإضافة كاريزما مقدسة، تحتوي في داخلها عناصر الصراع السياسي، والديني بشأن الثروات/ السلطة الرمزية/السلطة المادية، ونتيجة للتركيبات الديموغرافية للمجتمع العراقي تبلورت مجموعة مكونات تتمركز حول هويات (اثنية، قومية، دينية) وهي صياغات لتمثيلات (الحيز السياسي) داخل هشاشة التكوينات العراقية إذ اعتمد (النسق المقدس) كحقل شائك ومعقد. فهوية الجماعات الشيعية، نتاج للقوى الثقافية والدينية والاضطهاد التاريخي والشعائري والإقصاء عن الأنظمة الفكرية الإسلاميّة، إضافة إلى تراكم منظومة الرأسمال الرمزي والتي تبلورت عبر حقل التاريخ، فهي تمثل هوية جوهرية، تفتقد للتشكيلات الاندماجية بسبب الصراعات بشأن (المواقع والهيمنة في السوق الرمزية) هذه الهوية تقوم على مخزونات ضخمة من الاستيهامات الذاتية والجماعية والوعي الاغترابي والتمزق وبالعودة إلى الظهور الدوري لشخصيات ورموز كارزمية في وعي الفاعلين الاجتماعيين السياسيين، تتشكل عبر بنية مؤسساتية يقودها طاقم ديني قادر على إنتاج وعي معين للإتباع في حين لم تتشكل هوية الجماعات السنّية إلا تحت وطأة الصراعات السياسية الحديثة، لذا سادت الرؤية اللاعقلانية وتخلفت سردياتها السياسية والأيديولوجية والدينية لصالح خطاب ميتافيزيقي ذي بنية إقصائية، اضافة إلى افتقارها إلى بنية صلبة، حيث إن هذا الصدام بين الهويات داخل المكون العراقي (صدام الهويات السلفية) صياغات سياسية مخترعة لاحداث التفكك والاضمحلال في حقل التاريخ، بعد الحادث الأميركي، نجد أن هناك سياسات اقصاية وايديولوجيات تحريضية واضطهاد ممنهج المجتمعات السنّية/ المجتمعات الشيعية في العراق تبادلياّ، فضلاً عن الذاكرة النزاعية والاختلاف والتمايز بينهما في الاعتقاد والفقه والرؤية المتشكلة في العالم الإسلامي.

ايديولوجيات طائفية

إن الدين السياسي الطائفي يعد شكلا إيديولوجيا- سياسيا، يشتق زخمة الجوهري من الأجوبة التي يعطيها على الأسئلة الوجودية للجماعات بشأن الشروط الإنسانية ومعنى الحياة وتحليله للأصول التاريخية والنظام الطبيعي والحوادث والوجود الموضوعي للجماعات والأفراد داخل حقل التاريخ، وتتضح قضيتان عامتان تتصلان بتحديد بنية الدين السياسي الطائفي .

القضية الأولى: تاريخية أي شكل أيديولوجي (الطائفية احد الأشكال) من البروز والتمفصل مع ايديولوجيات أخرى.

القضية الثانية: مادية كل أيديولوجية / أيديولوجيات، تعمل في رحم مادي من التأكيدات والاجراءات وهذا الرحم يحدد علاقاتها في ما بينها حيث إن نشاطها محاصر بالمعنى ولكل أيديولوجية نوع من الوجود المادي، إذن أن وظيفة الدين الطائفي الايديولوجية, منح المجتمع (أفراداً أو جماعات) هوية, تقدم لهم سردية، تحدد مكانتهم في حقل التاريخ، فهي تعتمد على مواد خام, أسمنت, مواد بناء, من الاحداث  والمؤسسات المرجعية والشخصيات الكارزمية, تركز على اللحظة الدينامية للحدث الأول المؤسس للجماعة. ويمثّل الدين السياسي الطائفي احد المتغيرات الأساسية في المجتمع البشري، وخاصة في المجتمعات المتعددة الطوائف يبرز هذا المتغير كأحد معايير التباين بين الجماعات، إذ أن التنوع الطائفي في المجتمع لا يكتسب أهمية سياسية إلا إذا تداخل في عمليات تنافس أو تنازع أو صراع في مجالات القيم، أو الثروة أو السلطة وهنا يبرز الفرق بين مفهومين للطائفية السياسية:

المفهوم الأول: يشير إلى التنوع السوسيولوجي في المعتقدات والممارسات الدينية.

المفهوم الثاني: استخدام الطائفية لممارسات سياسية واقتصادية وثقافية لأغراض الهيمنة ويحتوي هذا المفهوم على سلسلة من التصنيفات المعرفية والمؤسساتية وأنظمة القيم.

تبادل المواقع السياسية

فالموقع الديني السياسي للجماعات الشيعية اخذ صفة معارضة مستديمة لجماعات سنّية مركزية تأقلمت مع تخطيطات هوية الدولة القومية ووظفت المكتشفات الأيديولوجية في التجربة التاريخية، هذه الوضعية التاريخية فرضت على الجماعات الشيعية البحث عن تعويضات خارج التاريخ الواقعي العياني والذي هو ليس مجال تاريخ الشيعي ( أفرداً أو جماعات) أو وجوده الموضوعي وإنما هو تاريخ جماعات افتراضية أخذت تحذف عناصر هذا التاريخ وتحيله إلى دلالات ومعنى وميثولوجيات وسلطة أسطورة وفي صيغ مستديمة بهذا النسق المزخرف حيث استطاعت الطائفة الشيعية إيجاد مخرج تعويضي معبر عن رفض الدولة والانسحاب الكلي من المشاركة السياسية خوفاً على قداسة الأسطورة من الدنس الأيديولوجي فضلاً عن ذلك كانت الطائفة  الشيعية تعاني من الطرد المستمر خارج التاريخ امتداداً من عصر الفقهاء حتى عصر الفتاوى المعاصرة والأحاديث السياسية التي تتخذ مفهوم الروافض والولاءات المزدوجة السياسية والدينية موضوعاً لها، وقد عبرت عن ضرب من النزعات الراديكالية لكونها مهمّشة خارج حقل الممارسات التاريخية.

نصل الى تأطيرات معرفية لمفهوم الشيعي/ السنّي فقد تشكلت هذه الجماعات عبر التاريخية الإسلاميّة كجماعات سياسية أولا: لها أنظمتها الفقهية ومعتقداتها الخاصة وتمايزاتها في شبكة الرموز والكاريزمات والتفرعات اللاهوتية، والصور الدينية، والمنظومات المقدسة الأساسية والمقولات الأيديولوجية المطلقة، وكذلك تقوم المؤسسة الطائفية السلفية الجهادية سواء كانت الشيعية أو السنّية على نسق من التعارضات الثنائية التي ترسخ الفصل والافتراق الجذري بين الطوائف وهي تعتمد على إعادة إنتاج التشققات باستمرار وتقيم منظومة أيديولوجية مغلقة ونظاماً صارماً من قواعد وآليات التكفير والمقدس والمدنس ومقولات وبناءات فقهية، وفكرية، وإشكاليات في تاريخ الطوائف، ما جعل الطائفية السلفية الجهادية الشيعية والسنّية، تشكل إحدى الأدوات الاستيهامية في بناء الهوية داخل التكوينات المجتمعية للطائفية لتأسيس سلطة سياسية وتحديدات الذات واحتكار المجال التيولوجي والأنظمة الدلالية ما بعد الحدث الامريكي.

بنيات ثقافية متغيرة

البنية الثقافية الدينية الشيعية ساعدت هي الأخرى على تهشيم العلائق مع المجتمع السنّي عبر اتخاذها موقف العداء المستمر والتقليدي للسلطة السنّية الذي يتأسس على مقولة دينية تاريخية تستند إلى رفض الطاعة للحاكم الغاصب، حيث يعد الأئمة المعصومين في الفكر الشيعي هم الاشخاص القابلون للطاعة، ولم يتمكن الشيعة إلا في وقت قريب من الوصول إلى تصور سياسي ينهي التناقض الموجود بين غياب الإمام المعصوم وضرورة وجود تصور عن الدولة تفرضه الحاجة التاريخية.

خطابات سلفية متضادة

الخطاب السلفي  الطائفي (السنّي او الشيعي) في العراق أسس مشروعيته على إنتاج تصنيفات تاريخية وثقافية ودينية مندمجة بالأرضية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مبلوراً نموذجاً بنيوياً تركيبياً تبادلياً داخل حقل الثقافات التداولية الشعبوية وهي إنتاج إفرازات التحديدات المادية للمجتمع العراقي ونظام البنى الذي يشكل الحاضن الأول للثقافة وتاريخ التمركزات البيطرياركية. بواسطة التحليل المادي للانتاجات الدينية الطائفية والتي تمثل (الانساق الثقافية)

اخفاء الخطاب الطائفي

يبين رونين زيدل منذ تأسيس الدولة العراقية، حتى في ظل حكم العثمانيين. تمتع السنّة بمكانة مهيمنة واغلبية عددية في جميع مؤسسات الدولة. ومن ناحية أخرى كانوا أقلية وهم يعرفون ذلك، ولذا، إنطوى الانخراط في خطاب طائفي على خطورة، وشكل خطراً على هيمنتهم السياسية. وتعين عليهم تبني وفرض خطاب غير طائفي بديل تغلغل، من خلال سيطرتهم على وزارة المعارف، تغلغلاً عميقاً في صميم الوطنية العراقية. ويتضمن الإطار السنّوي (نسبة إلى السنّة) تديناً معيناً. ولذا كان السنّة العلمانيون أو التراثيون، في الحكومة وخارجها أقل نزوعا إلى إعطاء تعبير رسمي عن طائفيتهم عما عليه الأمر مع حزب سنّي ديني، على شاكلة الأخوان المسلمين، بل حتى أنهم اعتادوا طى صياغة رسالتهم الطائفية بعبارات تمويهية.

 

يوسف محسن

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم