صحيفة المثقف

العراقيون بجامعة موسكو في الستينات ومصائرهم (1)

ضياء نافعهذا موضوع واسع وكبير جدا، ولا يمكن لشخص واحد ان يرسم كل ابعاده وجوانبة. لا توجد لديّ ارقام محددة عن اعدادنا، لكننا كنّا أكثر من مئة طالب في بداية ستينات القرن العشرين، موزعين في معظم كليّات جامعة موسكو، بين طلبة دراسات أولية ودراسات عليا. طالما تحدثت مع زملائي العراقيين حول هذا الموضوع، وحاولت ان اقنعهم، ان يكتب كل واحد من الذين درسوا في اي جامعة سوفيتية آنذاك عن زملائه العراقيين الذين درسوا معه ومصائرهم بعد التخرج، وحاولت ان اثبت لهم، ان كتابة تلك الوقائع تعني كتابة التاريخ العراقي المعاصر الحقيقي بحذافيره، ولكن الذين كانوا يتقبلون هذه الفكرة نظريا لم ينفذوها عمليا (وهم الاغلبية)، اما الذين لم يتقبلوها (وهم الاقليّة)، فانهم كانوا يحاولون السخرية منها او، في كل الاحوال، التقليل من اهميتها وجوهرها، ولازالت أتذكر جملة قالها لي احد هؤلاء مرّة ساخرا – (شنو الفائدة اذا نكتب جاسم درس بفلان كليّة؟)، فقلت له، ان جاسم عراقي ولد في العام الفلاني بمدينة عراقية واكمل المدرسة الثانوية الفلانية او الكلية الفلانية ووصل الى الاتحاد السوفيتي في السنة الفلانية وتخصص في العلم الفلاني ورجع الى العراق وعمل في مجال تخصصه او لم يستطع ان يعمل نتيجة الاسباب الفلانية، واضطر ان يترك العراق ...الخ، وان كل هذه الوقائع الخاصة بجاسم العراقي هذا تعني تاريخ العراق الحقيقي، التاريخ الذي نفتقده لحد الآن، لانه تاريخ الناس العراقيين الاعتياديين في مسيرة الحياة الاعتيادية في العراق، وليس تاريخ الزعيم فلان والقائد فستان .

الموضوع كبير كما أشرنا في البداية، ولكني قررت ان ابدأ به، اذ ربما تدفع هذه السطور بعض الزملاء الى اكمالها، او اضافة تعليقات توضيحية حولها، او توسيعها وتعميقها، او تصحيحها، اذ ربما تكون هناك جوانب غير دقيقية لم أعد أتذكرها تفصيلا، فاني الان على مشارف العقد الثامن من عمري .

ابدأ من الكليّات التي كان فيها اعداد صغيرة من الطلبة، مثل كليّة الفلسفة . كان هناك طالب دراسات اولية هو سليمان اللوس، وطالبان في الدراسة العليا هما المرحوم عبد الرزاق مسلم والمرحوم توفيق رشدي، وعند كل واحد من تلك الاسماء يجب عليّ حتما ان اتوقف قليلا . انهم – قبل كل شئ – يشكّلون باقة ورد فريدة ورائعة، او (شدّة ورد !) بلهجتنا العراقية الجميلة، فسليمان اللوس مسيحي وعبد الرزاق مسلم صابئي وتوفيق رشدي كردي، ولكننا لم نكن ننظر اليهم آنذاك هكذا، بل ولم نكن حتى نعرف، ان سليمان مسيحي، او عبد الرزاق صابئي، ولكننا كنا نعرف فقط ان توفيق كردي . كل واحد من هؤلاء (الفلاسفة !) يمتلك قصة تستحق ان نرويها للاجيال العراقية اللاحقة . لقد تحول اثنان منهما الى (شهداء!)، وهما المرحوم الدكتور عبد الرزاق مسلم والمرحوم الدكتور توفيق رشدي . واحد استشهد داخل العراق، والآخر استشهد خارج العراق . الشهيد عبد الرزاق تم قتله في مدينة البصرة من قبل اجهزة السلطة البعثية العراقية باطلاق النار عليه في الشارع، والشهيد توفيق تم قتله في مدينة عدن في اليمن من قبل اجهزة السلطة البعثية العراقية وباطلاق النار عليه في الشارع ايضا، وكلاهما كانا أساتذة في الجامعة آنذاك . وهكذا اصبح الفيلسوف د.عبد الرزاق مسلم (التدريسي في جامعة البصرة)، والفيلسوف د.توفيق رشدي (التدريسي في جامعة عدن) ضمن اسماء شهداء العراق (وما اكثرهم مع الاسف)، اولا، وضمن قائمة الشهداء العراقيين من خريجي الجامعات الروسية، ثانيا، فما اعظم هذا (اللقب!) الذي حصلا عليه وتميّزا به، وما أقساه وما افظعه، وما أشدّ الألآم والاحزان والدموع، التي تثيرها كل هذه الاحداث المأساوية الرهيبة في قلوب الاهل والاصدقاء والزملاء، عندما يتذكرون الدماء الطاهرة وهي تسيل وتتدفق في الشوارع من اجسادهما نتيجة غدر السلطة واجرامها ومفاهيمها الوحشية الرهيبة ضد الرأي الآخر والاجتهاد الآخر ليس الا . وكم يؤلمني ان أشير هنا، الى اننا – نحن خريجي الجامعات الروسية – لم نقم باي رد فعل يشجب هذا العمل الاجرامي منذ تنفيذه ولحد الان، حتى حينما تسنّى لنا ذلك، واقصد بالطبع عندما تم تأسيس الجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية في بغداد، رغم اني أتذكر ردود الفعل الايجابية لزملائي في الجمعية (واخص بالذكر رئيس الجمعية آنذاك الزميل المهندس ضياء العكيلي) حول مقترحي باعادة نشر كتاب عبد الرزاق مسلم حول المصطلحات الفلسفية من قبل الجمعية تكريما لذكراه، ولكننا لم نستطع حتى تحقيق ذلك المقترح البسيط مع الاسف الشديد .

أمّا سليمان اللوس، الذي أنهى الدراسة في كلية الفلسفة بنجاح، فقد كتب لي (عندما كنت ادرس في جامعة باريس)، انه يخطط ان يكمل دراسته في جامعة باريس ايضا، وقد استقبلته هناك، واستطاع ان يلتحق بجامعة باريس فعلا وكانت اطروحته للدكتوراه عن الفيلسوف الروسي بيرديايف، وغالبا ما كنّا نلتقي في المكتبة السلافية العامة في باريس، حيث كنّا نطلع على المصادر الروسية المتنوعة، كل في مجال اختصاصه . انسجم سليمان بوتيرة الحياة الباريسية، وتعلّم اللغة الفرنسية بعمق، وهكذا اصبح يتقن الانكليزية والروسية والفرنسية، وكان واحدا من أبرز المثقفين العراقيين الذين التقيت بهم عمقا وموضوعية . عدت انا الى العراق بعد انهاء دراستي، وبقي سليمان هناك، واستمرت المراسلات بيننا، ولكنها انقطعت مع الاسف نتيجة لمسيرة حياتنا، هو في باريس وانا في بغداد، ثم انقطعت كل اخباره . وذهبت مرة الى محل اخيه في شارع الكفاح، وسألته عن سليمان، ولكن اخيه رفض حتى الاقرار ان لديه اخ في باريس، وحاولت ان اذكّره، باني كنت عندهم مرة، وكيف استقبلني هو ووالده باعتباري صديق ابنهم سليمان، ولكنه أصرّ على موقفه، وقد فهمت طبعا، انه كان يخشى الكلام عن ذلك في اجواء الاوضاع العراقية الامنية آنذاك، فاضطررت ان اتركه احتراما لرغبته . حاول اصدقاء سليمان ان يعرفوا اخباره ايضا، ولكن دون جدوى مع الاسف . لو ساهم سليمان اللوس في الحياة الثقافية العراقية لكان له الان مكانة مرموقة في هذا المجال، ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن ...

الرحمة والخلود لكما، ايها الشهيد د. عبد الرزاق مسلم والشهيد د. توفيق رشدي، واتمنى ان يكون سليمان اللوس بصحة وعافية، واود ان ابعث له تحية اعتزاز واحترام وتقدير  ... 

 

 أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم