صحيفة المثقف

قصة الأبجدية (2): أبجديّة أوغاريت

محمد فتحي عبدالعالصدفة قادت إلی الاكتشاف:

كان اصطدام محراث فلاح في منطقة رأس شمرة (موطن انتشار نبتة ذات رائحة عطرة تعرف بالشمرة ) بسقف مدفن أثري عام 1928 إيذانا بأنفتاح العالم ولأول مرة علي أقدم نظام كتابي مسماري (سميت بالمسمارية حيث الكتابة علي ألواح من طين تغمس الكتابة فيها غمساً بواسطة قلم من قصب فيشكل الغمس في الرقيم الطيني مثلثاً يشبه رأس المسمار) أبجدي ذات نظام قواعدي متكامل في العالم القديم ليطير الخبر إلی باريس ليكلف عالم الآثار الفرنسي (كلود شيفر) بسرعة التنقيب في هذه المنطقة .

خصائص اللغة الأوغاريتية:

وكلمة أوغاريت مشتقة من أوغارو أي الحقل في اللغة الأكادية العراقية القديمة؛ و بعد مجهود شاق من العلماء فُكّت رموز اللغة الأوغاريتيّة والموجودة علي رقيم فخاري حجمه صغير للغايه فطوله 5.1سم وعرضه 3.1 سم ويعود الفضل للعالم «شارل فيرولو» في نشر النصوص الاولى من هذه اللغة وكذلك «ادوار دورم» الذي تمكن من فك الرموز الكتابيّة لها. وتتضمن هذه الأبجدية ثلاثين حرفاً مرتبة تبعا لترتيب الحروف الكنعانية الخطية والآرامية والأبجدية العربية وتقرأ من اليسار إلى اليمين كالأكادية. ويفصل بين الكلمات حرف مسماري عمودي وتتضمن حروف الأبجدية ثلاثة ألفات وحرف السين يكتب بشكلين إلا أنها لا تتضمن حرف الضاد وكان استخدامها في الكتابة بمثابة اختصار لإشارات كانت تصل ما بين ستمائة الي ثمانمائة  اشارة في الكتابة المسمارية المقطعيّة مما جعل هذه الأبجدية من مآثر قصة الحضارة الأنسانية فالقدرة على اختزال الإشارات بهذه الطريقة ينم عن مستوى معرفيّ راقٍ ومتحضر للغاية لذلك فليس من المستغرب أن نجد العالم (جورج بيروت) يشيد بها أمام الأكاديمية الفرنسية عام 1950م قائلا (لا شك أننا لن نعرف أبداً اسم مخترع الأبجدية، ولكننا نعرف الآن أنه فينيقي أو بشكل أعم سوري، ويمكننا القول أن شعباً أنجز مثل هذه المعجزة يستحق عرفاننا بالجميل، وله الحق بمكان متميز في تاريخ العالم).

وفيما يري البعض أن اللغة الاوغاريتية تأثرت بالكتابة السينائية التي انتقلت إلی بلاد الشام يري البعض أنها تجربة محلية متفردة ...

وكانت مهنة الكاتب في هذه العصور مهنة مقدّسة تُطلَب فيها معاونة الآلهة لاداء هذا العمل وهو ما يظهر جليا في نص من رأس شمرا لمصلي يتضرع للآلهة من أجل عنايتها بكاتب جديد، ويقول النص: “للقضيّة التي أستعطفك من أجلها، لا تُظهر في عظمتك عدم الاهتمام بهذا التلميذ الفتيّ الجالس أمامك… أي سرّ أكشف له، العدّ، المحاسبة. أي حل أكشف له الكتابة السريّة، أكشف له القصب المبريّ والجلد، الدهن والفخّار… إذاً من كل ما يتصل بفن الكتابة، لا تهمل شيئاً”.

والخصائص النحوية للغة الأوغاريتية شديد الشبه باللغة العربية حيث يوجد بها نوعين من الضمائر (مذكر ومؤنث)، فضلا عن الحالات الإعرابية الثلاث للأسماء والنعوت (مرفوع ومنصوب ومجرور)، وثلاث حالات للإسم (مفرد، ومثنى، وجمع)، كما أن تترتيب الجملة هو ( فعل- فاعل- مفعول به).

أول أنشودة ونوتة موسيقية في العالم:

بيد أن استخدام الرموز الأوغاريتية لم يقتصر على الكتابة وحسب بل تخطاها إلى استخدام رموزها "في تسجيل سلم موسيقي فقد عثر علي رقيم مدوّن على احدي وجهيه أبيات شعرية ، وعلى الوجه الثاني دوّنت النوته الموسيقية لهذه الأنشودة الاقدم في العالم والإسبق من سلم فيثاغورس .

جاء التفسير الأول لهذه الأنشودة المكتوبة باللغة الحورية بمفردات أوغاريتية بفضل جهود العالم الأثري الفرنسي "عمانوئيل لاروش "، وتتحدث الأنشودة الحزينة عن زواج إله القمر (يرخ) من الآلهة (نيكال) والذي لم يسفر عن إنجاب فشعرت نيكال أنها ارتكبت اثما في حياتها تعاقب بسببه فراحت تتضرع إلي الآلهة وتقول كلماتها المدونة بأسلوب السلم السباعي الموسيقي :

(سأرمي عند قدمي الحق "أو قدمي عرشك المقّدس" خاتم رصاص

سوف أتطهر؟ وأتغير من الخطيئة

لم تعد الخطايا تغطيها ولا حاجة أكثر إلى تغييرها

قلبي مطمئن بعد أن أوفيتُ نذري

سوف تعزني مولاتي

ستجعلني عزيزًا على قلبها، فنذري سيغطي ذنوبي، وسيحل زيت السمسم بدلًا مني

في حضرتك اسمحي لي

إنك تجعلين العاقر خصيبة، والحبوب تعلو صعودًا

إنها الزوجة التي ستحمل الأطفال إلى أبيهم.. هي التي إلى حدّ الآن لم تعط أطفالًا تحملهم.)

استغرقت المحاولات العالمية لفك رموز هذه الأنشودة إلى ما يربو علي العشرين عاما كما حاول العديد عزفها ويعتبر عزف الموسيقي (زياد عجان) لها بتنويط (راؤول فيتالي) بإصبع واحد علي البيانو في ذكری اكتشاف أوغاريت عام 1979 من المحاولات الناجحة وفي عام 2008 قدمها الموسيقي (مالك جندلي) بعنوان (أصداء من اوغاريت) مضيفا إليها الإيقاع والتوزيع مع الاوركسترا الفلهارمونية الروسية ...

وهكذا قدمت أوغاريت للحضارة الإنسانية الأبجدية جنبا إلي جنب التدوين الموسيقي.

 

د.محمد فتحي عبد العال

كاتب وباحث مصري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم