صحيفة المثقف

عن العلمانية اتحدث

حيدر جواد السهلانيمصطلح العلمانية ترجمة لكلمة (Secularism) ويعد جون هوليك (1817- 1906) اول من نحت المصطلح عام (1851)، والعلمانية في العربية مشتقة من مفردة العالم، ومن يقول انها اشتقت من العلم ويراد بها أن العلم هو من يسير أمور الناس السياسية والاجتماعية والدينية.وعرفت العلمانية بأكثر من تعريف ومن التعاريف الاكثر شيوعآ (هي فصل الدين عن الدولة)، وعرفتها دائرة المعارف البريطانية (حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيوية بدلآ من الاهتمام بالشؤون الاخروية، وهي تعتبر جزءآ من النزعة الانسانية التي سادت عصر النهضه الداعية لأعلاء شأن الانسان) ويعرفها بيتر بريغر (1929- 2017) (العملية التي يتم بواسطتها نزع وفصل قطاعات المجتمع من سيطرة الرموز والمؤسسات الدينية) وعرفها محمد حسين فضل الله (العلمانية تعتبر الدين حالة روحية لاعلاقة لها بالحياة) وعرفها محمد البهي (هي نظام من المبادئ والتطبيقات، وترفض كل صوره من صور الايمان الديني) وعرفها محمد عمارة (مصطلح العلمانية فأنه عني ويعني اولئك الذين رفضوا تدخل الكنيسة اوسيطرتها، ورفضوا ايضا تدخل اللاهوت المسيحي ومعاييره في شؤون الدولة ومؤسساتها وفكرها الدنيوي). (1) وعرفها محمد احمد خلف الله (العلمانية حركة فصل السلطة السياسية والتنفيذية عن السلطة الدينية، وليست فصل الدين عن الدولة) (2)

العلمانية هي نظام حكم طرح بديلآ عن حكم الدين الذي كان سائدآ في الغرب، وهو احد الانظمة التي طرحت للتخلص من حكم الدين الجائر في وقتها، والحقيقة ان العلمانية دفعت الكثيرمن الدماء والثورات، (ولانتناسا موقف غاليلو عندما قال بحركة الارض، اذ كانت هذه الفكرة تتعارض مع مايؤمن بها المسيحي في الكنيسة، اذ كان يؤمن بأن الارض مسطحة وهي مركز الكون، فتعرض غاليلو الى محاكمة وفي نهاية المحاكمة اقره قصرآ بأن الارض لاتدور، وعندما خرج من المحكمة ضرب الارض بساقه وقال مع ذلك هي تدور، وحادثة العالم جوردانو برونو (1548- 1600) وحرقة لانه خالف معتقدات ماتؤمن به الكنيسة، ويقام له اليوم تمثال في مكان حرقه، ومن الطرافه الكاهن اورجل الدين بالمسيحية عند اختراع التلسكوب، لم يكن ينظر بالتلسكوب خوفآ من ان تتبدد الحقائق التي آمن بها)

العلمانية هي مجموعة من المعتقدات التي تشير الى أنه لايجوز أن يشارك الدين في المجالات السياسية، وهي النظام الذي يرفض كافة الاشكال الدينية من خلال فصل المسائل السياسية عن الدين، اذ كانت الكنيسة لها السيطرة على الدولة، وكانت الغالبية العظمى من الروم، وكانوا على درجة كبيرة من الضحالة الفكرية نتيجة للخضوع المستمر لسلطة الكنيسة، وفي عهد حكم الكنيسة ساد كثير من الانغلاق الفكري والتخلف سائر في انحائها، وقد تمثل هذا الحكم بممارسة الكنيسة في حق الفرد والاسرة بصورة مباشرة، اما في حقل المجتمع والمؤسسة السياسية فكانت تمارس سلطتها بشكل مباشر من خلال شبكة العلاقات القائمة بين نظام الاقطاع وهو مايمثل السلطة السياسية والمدنية واجهزتها الادارية، وبين الجهاز الكنسي من جهة اخرى، حيث كان للكنيسة في حقل المجتمع ومؤسساته السياسية الدور الكبير. (3) ومن اهم الاسباب التي أدت الى ظهور العلمانية، هو طغيان الكنيسة في كافة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، اذ كانت تسيطر على جميع مفاصل الدولة، فكانت تبيع الاراضي وتعطي صكوك الغفران بمبالغ كثيرة ويبعون المناصب في الدولة، ومن الاسباب ايضآ هو انحراف المسيحية، اذ اعطوا الحق فقط لرجل الدين ان يفسر الانجيل ولايجوز ايضا ترجمته ( علمآ ان هذا التعاليم الجائرة ادت ليس فقط لثورة المفكرين على الكنيسة، لكن من الكنيسة من ظهر ونادى باصلاحها مثل مارتن لوثر (1483- 1546) الذي قام بحركة اصلاح في الكنيسة وقد ظهرت على يده البروتستانتية، كرد فعل على الكنيسة وقام بترجمة الكتاب المقدس الانجيل ورأى ان الحصول على الخلاص أو غفران الخطايا هو هديه مجانية ونعمة من الله من خلال الايمان بيسوع المسيح، ورفض السلطة التعليمية للكنيسة الكاثوليكية، وكانت المدارس تسمى السكولائية Scolastique اي فلسفة المدرسة وتطلق على فلسفة المدارس الكاتدرائية في العصر الوسيط، واعطى لكل امرئ الحق في التفسير، والكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للمعرفة المختصة بأمور الايمان وعارض سلطة الكهنوت، وسمح للقس ان يتزوج) ومن الاسباب ايضا تطور العلم ومعارضته من قبل الكنيسة، اذ كانت الكنيسة تعارض العلم، لأن الكنيسة قد تبنت الكثير من النظريات العلمية القديمة وربطتها مع الدين، واعطت للنظرية صبغة دينية فلا يجوز معارضة النظرية، لذلك أنشأت الكنيسة محاكم التفتيش (من أشهر من وقف في محاكم التفتيش غاليلو وبرونو، اما كوبرنيكوس (1473- 1543) صاحب كتاب (حركات الاجرام السماوية) فلم ينشر كتابه الا بعد وفاته)

تعددت الاسباب والتعاريف في نشأة العلمانية، فمنهم من راى أن لها جذور مع الفلسفة اليونانية، ومنهم من راى أنها تعود الى القرن الثالث عشرالميلادي، لكن الاكيد أن ثمرة العلمانية حصلت تدريجيآ من القرن السابع عشروتعالت الصيحات بعد الثورة الفرنسية (1789) . وقد دعا جون لوك (1632- 1704) الدولة الى التسامح، وعلى الدولة أن تتسامح مع جميع اشكال الاعتقادات الدينية، وراى توماس جيفرسون (1743- 1826) أن الاكراه في مسائل الدين، أو السلوك الاجتماعي هو خطيئة واستبداد، وأن الحقيقة تسود اذا ماسمح للناس بالاحتفاظ بأرائهم وحرية تصرفهم، ويذهب سبينوزا (1632- 1677) الذي راى بالدين يحول قوانين الدولة الى مجرد قوانين تأديبية، وأن الدولة هي كيان متطور وتحتاج دومآ للتطور والتحديث عكس شريعة ثابته موحاة. وكان المصطلح في البداية لايتسم بأي نوع من انواع الشمول، اذ تمت الاشارة الى علمنة بعض ممتلكات الكنيسة (أي نقلها الى سلطات غير دينية)، ومن ثم اتسع المفهوم في الخطاب السياسي والاجتماعي والفلسفي الغربي، فعرفت العلمانية الايمان بأمكانية اصلاح حال الانسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقظية الايمان سواء بالقبول او الرفض (4) وقد مرت العلمانية بعدة مراحل، مرحلة العلمانية المعتدلة وهي تدعو الى أن تكون سلطة الدولة معتدلة، ومرحلة العلمانية المادية وظهرت في القرن التاسع عشر واعتمدت على الغاء كلي للدين وليس فصل الدين عن الدولة، واعتبار الاشياء المحسوسة هي الموجود بشكل حقيقي

ومن اهم خصائص العلمانية، هو الفصل بين الدين والدولة، والمساواة بين الجميع سواء كان رجل دين أو غير ذلك، والحرية الدينية للأشخاص سواء اختار الالتزام بالدين أو التحرر منه، الاعتماد على الديمقراطية والانصاف بين المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الديني، وايضآ حرية التعبير عن الرأي.

العلمانية مفهوم سياسي اجتماعي، نشأ ابان عصر النهضة والتنوير في اوربا، عارض ظاهرة سيطرة الكنيسة على الدولة وهيمنتها على المجتمع، وراى أن من شأن الدين أن يعني بتنظيم العلاقة بين البشر وربهم، ونادى بفصل الدين عن الدولة. ومع ذلك يرى بعض الغربيون، ان العلمانية لم تشبع رغبات الانسان الغربي، فعادوا يحتمون بالدين مرة اخرى بعد ان جرفتهم العلمانية بعيدآ عنه، أن جعل الدين امرآ اخرويآ مقطوع الصلة بالواقع، ادى الى تفسخ المجتمعات وحلول الامراض وكثرة اللقطاء والمخدرات الايدز، ادت العلمانية الى ظهور النازية والفاشية والى عمليات ابادة في البوسنه. (5)

ويبدو لنا ان العلمانية هي ليست فصل الدين عن الدولة، بدليل أنهم يعتمدون في القضاء واداء القسم للرئيس، لكن انظمة الحكم في الغرب هي انظمة مهنية (تكنوقراط) قانونية، اما في مجتمعاتنا العربية وبعد تطور الغرب عن العرب ظهرت عدة تيارات لمعالجة الوضع المتأخر عن الغرب (من اهم المشاكل التي طرحت في الفكر العربي هي مشكلة الاصالة والمعاصرة) منها، التيار السلفي الذي ينادي بالرجوع الى السلف الصالح لكي نتماشا ونتطور مثل الغرب، والتيار التوفيقي الذي يرى علينا أن ناخذ من الماضي والحاضر، والتيار التقدمي التحرري والذي يرى بأن علينا التخلص من الماضي، وقد يرى البعض بأن العلمانية حققت انجازات عظيمة في اوربا الحديثة، ذلك أن فصل الدين عن الدولة والالتجاء الى القانون كان من شأنه تعزيز سلطة الدولة من ناحية، واشاعة التسامح بين اصحاب العقائد المختلفة، وقيام المجتمع المدني المستقل، وتحقيق حرية الافراد بعيدآعن سلطان الدين ومؤسساته من ناحية ثانية، هذه التجليات العلمانية مكنت من اوربا أن تعيش في اجواء صحية، معتبرين العلمانية (ملة) مطهرةمن كل شائبة ومنزه عن كل غلط، وذهب البعض الى حد اعتبار أن الجمود والشر كامن في الثقافة الاسلامية، بينما الخيروكل الخير موروث في العلمانية التي تتسم بالتسامح.ومن يرى في العلمانية هي تهتم بالامور الدنيوية، وتبتعد عن الدين، وهي تعني المادية بكل اشكالها. ويبدو أن سبب مزامنة العلمانية للالحاد، ورؤية كثير من المفكرين الغربين والعرب هي من جاءت بالالحاد، لأنها دعت للتخلص من الكنيسة وصورت الدين على أنه الحل الاسوء في تمشية الامور السياسية والاجتماعية، لذلك نلاحظ بعد حركة العلمانية ظهر الكثير من الفلاسفة يجهر بالقول والفعل بالالحاد، ويبدو أن المفكرون تصوروا أن الدين هو ماموجود بالكنيسة وهذا خطأ، مثلما نتصور اليوم في عالمنا العربي أن العلمانية هي الحل الانجع في حل مشاكلنا، لأننا اخطأنا في تصور الدين الاسلامي هو ماموجود من مذاهب وطوائف تتقاتل فيما بينها، علينا مراجعة الدين الاسلامي ونرى كيف الرسول (ص) اتخذ من قوله تعالى (لكم دينكم ولي ديني) شعار للعيش بسلام مع كل الطوائف. وفي الحقيقة أن مصطلح العلمانية خضع لعمليات تشويه ليس في الفكر العربي فقط لكن في الغرب ايضآ، اذ خضع للتأويل والتفسير والاتساع، في بادئ الامر نشأت العلمانية للحد من سلطة الكنيسة الجائرة في وقتها، ولم يدعو الى اقصاء الدين، بل راى انه من اهم مصادر التشريع لقانون الدولة، اضافه الى الحرية والمساواة بين جميع الطوائف، وفي الحقيقة هذا موجود عندنا، اذ نحن نطبق جزء من العلمانية بما تعرف بالمعتدلة، لكن في مجتمعاتنا العربية يوجد لدينا حب التعالي ونرى في انفسنا اسيادآ (قديمآ ابن خلدون فسر عدم اهتمام العرب كثيرآ بالعلم، اذ معلوم ان اكثر العلماء هم من غير العرب، اذ يرى ابن خلدون بعد استلام السلطة بعد الرسول والسيطرة على العالم اهتم العرب بأمور السيادة، وهذه الحقيقة التي يرفضه كثيرمن مفكرينا، وان كان العلماء ليس عربآ الا انهم يحملون الثقافة العربية ولعل رأيهم صحيح) وايضا لاتوجد لدينا ثقافة التنازل للمصلحة العامة، اذ نرى كثيرآ ما يحترق الشعب ويموت الالف ولم يقدم الوزير او الرئيس على الاستقالة، واخير وأن كنت اؤمن بأن العلمانية موجوده بجزئها المعتدل في مجتمعنا، وان الرسول (ص) طرح هذا المفهوم قبل تسميته ومعرفته، اذ عاش وساواة بين المسلمين وغيرهم (ولاننسى أن جار الرسول (ص) كان يهوديآ وقصته مع اليهودي معروفة للجميع) لكن المشكلة ليست في العلمانية تطبق او لاتطبق، المشكلة هي القانون يحتاج الى التطبيق وكيف نطبقه، ونحن الروح البدوية متجذرة فينا (البدو كانوا يؤمنون بأن الرجل الحق هو من يأخذ حقه بيده، لذلك كانوا يسمون الاعمال بالمهنة (أي المهانة) وكانوا يؤمنون بأن السؤال عيب ولو أين الطريق) مثل ماراى رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده سابقآ عندما رأوا في الديمقراطية هي الحل لكن لابد من ان يروض لها المجتمع لاتأتيه دفعة واحدة (علينا ان نروض مجتمعاتنا على التنازل والتسامح وحب القانون)

 

حيدر جواد السهلاني

......................

الهوامش

1- ينظر انعام احمد قدوح: العلمانية في الاسلام، ص10- 18.

2- ينظر عبدالوهاب المسيري وعزيز العظمة: العلمانية تحت المجهر، ص63.

3- ينظر انعام احمد قدوح: العلمانية في الاسلام، ص20.

4- ينظر عبدالوهاب المسيري وعزيز العظمة: العلمانية تحت المجهر، ص11- 12.

5- ينظر فهمي هويدي: المفترون (خطاب التطرف العلماني في الميزان)، ص243- 244.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم