صحيفة المثقف

التلفاز المصري ونظرية المؤامرة

محمود محمد عليلقد كشف الاستعمار الصهيوني البغيض أن الشعوب ستسعي إلي التقدم، وإلي التنمية الشاملة، وإلي تحقيق معدلات من الغني، وعرف أن سبيلها إلي ذلك هو العلم والإخلاص، وعرف أن اصطياد الخونة، والجواسيس، والعملاء، هو سبيله إلي تدمير الدول الأخري، ولهذا وضعت الدولة الاستعمارية، أهدافاً أساسية لاستبدال الغزو المسلح بالتسلل الجرثومي للداخل، وعرف أن استخدام منهج التفتيت لتقسيم الدول الأخرى إلي أجزاء، وإلي أقسام، وإلي دويلات، واستخدام التشتيت للعلماء ولأبناء الدول الأخري، واصطياد الخونة والجواسيس والعلماء لحرب الاقتتال بين أفراد الوطن الواحد سوف يحقق لها هدفها، وهو سرقة هذه الأموال، وسرقة الشعوب، وسرقة مواردها، وإمكانياتها، والفوز بغنيمة كاملة، إنها حرب المؤامرة الكبرى، والتي خطط لها الاستعمار الصهيوني، وقام باستخدام الخونة والجواسيس للتمهيد لها .

وقد لخصت سلسلة وثائقية أذاعها التلفزيون المصري الرسمي (علي قناتيه الأولي والفضائية) هذه الرواية علي نحو تفصيلي، باستخدام عناوين من نوعية " المؤامرة الشيطانية"، الأيدي الخبيثة"، " قطار الربيع العربي والسائق الخفي"، واستخدم معدو هذه السلسلة ديباجة تتحدث عن رغبة قوي الهيمنة العالمية عبر التاريخ في السيطرة علي هذه المنطقة من العالم، ووضعوا الأحداث التي شهدتها البلاد منذ نشوب ثورات الربيع العربي في إطار من الملاحم التاريخية، مفترضين أن المنطقة تخضع حالياً لهجمات مشابهة لما تعرضت له من قبل علي يد الهكسوس، والفرس، والرومان، والمغول، والصليبين، وقوى الاستعمار الحديث، وافترض معدو الحلقات أن مصير المنطقة رهن بيد مصر، إذ " لم تتمكن قوي الشر العالمية في الماضي من بسط سيطرتها علي المنطقة، إلا عندما كانت مصر في أضعف أحوالها، ولكن متي استردت وعيها واستيقظت، وفشلت المؤامرات واندحر الأعداء"

الخط الناظم لهذه السردية يتمثل في ذلك التصور الشمولي للتاريخ، والذي يرويه بوصفه قصة واحدة كبري، في إطار من الإحساس المتضخم بالقومية التي تبالغ في تصور حجم التأثير الذي يمكن أن تمارسه دولة واحدة في إطار التاريخ العالمي. ففي إطار هذا الطرح تم تصوير مصر علي "أنها الدولة المقدر لها دحر قوي الشر وإعادة مسار التاريخ إلي وضعه الصحيح، فهي قادرة علي إلهام جيرانها من العرب والعالم، قيم الحق والخير، ومساعدتهم في التغلب علي المؤامرة الشيطانية ضد الحضارة والمدنية"  .

أما عن عناصر هذه المؤامرة إذ تشمل: "الماسونيين من أصحاب الخطط السرية للسيطرة علي العالم، ومنظري الحرب الكبرى لإسقاط كل الأديان وعبدة الشيطان، والنورانيين الساعين إلي تكوين الحكومة العالمية، كما تتنوع أسماء أبطال محور الشر المتآمرين، إذ تشمل كل من نيتشه، وهتلر، وكيسنجر، وبرنارد لويس، وكذا تتعدد المذاهب السياسية والايديولوجيات، لتضم كلاً من الفاشية، والنازية، والشيوعية".

استخدم معدو السلسلة حبكة ضعيفة الإحكام للربط بين كافة هذه المفردات والعناصر، فالماسونية العالمية خططت للإطاحة بحكم القياصرة في روسيا تمهيداً للشيوعية، التي أنيط بها تحطيم الحكومات والمعتقدات الروحية، ثم جري التخطيط علي نحو ما للحرب العالمية الثانية للقضاء علي النازية، وتمكنت الصهيونية بنفس الطريقة الغامضة، حيث تم التخطيط للحرب الكونية التي عرفت بالحرب الباردة، والتي مكنت المارد الأحمر من الصعود، قبل أن يتم تصويره كخطر علي العالم العربي، وعند نقطة معينة تم تحجيم المارد الأحمر، خوفاً من انضمام دول جديدة له، "وكان رجل هذه الخطوة هو " جورباتشوف". وأخيراً تحققت للغرب الهيمنة الصريحة، بخروج أمريكا من عزلتها وقيادتها للعالم، ولتنفيذ هذا الغرض تم إنشاء " منظمة الثقافة العالمية الحرة"، التي تقوم علي القيم الأخلاقية والثقافة وتغيير السلوك، ونشر قيم السوق الاستهلاكي، ونشر الفنون والآداب الغربية لاختراق الشعوب، وقد تضمنت منظمة الثقافة العالمية في عضويتها- وفقاً للسلسلة الوثائقية- كلاً من هنري كيسنجر، ورونالد ريجان، وبرتراندرسل" .

وتفترض السلسلة أنه بعد تراجع الهجمة الاستعمارية العالمية، انتقلت الدول الاستعمارية إلي آليات جديدة، للسيطرة علي الدول ذات الموارد المادية والاستراتيجية، وفي مقدمتها الدول العربية، وتستعرض الحلقات في هذا الإطار" الوثيقة الخطيرة" المنسوبة إلي المستشرق "برنارد لويس" لتفتيت العالم العربي إلي " دويلات علي أسس العرق والدين، وتقسيم مصر إلي خمس دويلات، وجعل إسرائيل هي السيد المطاع، كما تفضح الحلقات المتعاونين مع برنارد لويس، مثل "صامويل هانتجتون"، و"فرانسيس فوكوياما"، و"رجب طيب أردوغان"، ودولة قطر وقناة الجزيرة " .

أما عن أدوات المؤامرة فمتعددة، فهناك الإنترنت واليوتيوب الذي يمثل الإعلام الجديد، وهناك أيضاً القائمون علي مواقع التواصل الاجتماعي، القادرون علي حشد الشباب، "وهناك مؤسسات المجتمع المدني، وفي مقدمتها المعهد الديمقراطي، والمعهد الجمهوري، ومعهد كارينجي، وفريدوم هاوس، وغيرها. ولا تنسي الحلقات أن تشير علي استحياء إلي دور الأنظمة العربية المستبدة التي ساهمت في تردي الأوضاع المعيشية، وانتشار البطالة، والجهل، وقمع الحريات، وهو ما أدي إلي سقوط بعضها، مثل أنظمة ليبيا واليمن" .

وفي محاولتها الإجابة عن سؤال: هل  كان وراء الثورات أشخاص طبيعيون أو جهات ما ؟، تفترض الحلقات أن مواقع التواصل الاجتماعي، كانت إحدي أدوات الحرب النفسية التي أدت لنشوب، مثل هذه الثورات. وتخص بالذكر صفحة " كلنا خالد سعيد" التي لعبت دوراً كبيراً في الحشد والترويج لثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، مع التأكيد علي أن أحد أفراد جماعة الإخوان المسلمين كان هو المؤسس لهذه الصفحة، كما تشير لموقع رصد، الذي تصفه بأنه " مارس كل أنواع التضليل، واستخدام لقطات مفبركة، لقتلي وجرحي ومصابين من اليمن، وغزة، والمغرب، لتهييج الجمهور، ومحاولة شيطنة أجهزة الدولة، والإيقاع بين الدولة والشعب" .

وبشكل عام يتفق منظرو حروب الجيل الرابع مع الطرح الذي يعتقد بتراجع "الدولة القومية"، وخصوصاً  في إطار منظومة دول العالم الثالث، أو أنظمة ما بعد الاستعمار . ومن بين الأسباب التي تُطرح لتفسير ذلك التخصص تختار النظرية ذلك المتعلق يتعثر التحديث في العديد من هذه الدول، الأمر الذي أفرز "عدداً من الأنظمة الفاشلة التي لم تستطع أن تفي بمتطلبات وشروط الدولة الحديثة، وخصوصاً ما يتعلق بشرط المواطنة، فهذه الأنظمة لم تنجح في أن تقدم لشعوبها من الحقوق والامتيازات ما تستحوذ به علي ولائهم السياسي، ولم تنجح في جعل رابطة المواطنة تعلو علي غيرها من الروابط، ما أدي إلي تراجع الولاء السياسي للأفراد إلي الدوائر الأولية ( ما قبل السياسة)، مثل الدوائر الدينية، والعرقية، والعشائرية. وهكذا لم تعد المواطنة هي قوة الجذب المركزي، كما كان الحال إبان نشأة دولة ما بعد الاستقلال، وإنما أصبحت ثمة مراكز جذب أخري، تتمثل في الدين والعرق والعشيرة" .

ومما سهل من عمليات " الجذب" في مواجهة عمليات " الطرد" تنامي وسائل الاتصال وتبادل المعلومات بين الأفراد بعيداً عن أعين الأنظمة، بحيث أصبح "في مقدور الأفراد أن يجدوا المتشابهين معهم مهما تناءت بهم السبل، ليشكلوا معاً تكوينات لا تخضع لسلطة الدولة ولا لسيادتها، بل ويمارس (بعضها) العنف ضد الدولة، في إطار فواعل جديدة من غير الدول، تزاحم الدول في صلاحيتها وتوجه لها تهديداً عسكرياً ووجودياً في بعض الأحيان" .

وعلي هذا الأساس تفترض النظرية أن الدولة الحديثة قد فقدت – ضمن ما فقدت – احتكارها لقرار الحرب، وأصبحت مضطرة للدخول في مواجهات، أو حروب ضد تكوينات غير نظامية، منتشرة عبر العالم، تستخدم إلي جانب " قوة السلاح"، وسائل " القوة الناعمة، وعلي رأسها المعلومات، وتتمتع بالمقدرة علي شن حروب،" لا تستهدف من خلالها هزيمة خصومها عسكرياً، ولكن تحطيم إرادتهم السياسية، وإقناعهم بعدم جدوي الاستمرار في مواجهة هذه التكوينات المقاتلة، وهو ما تحقق فعلياً في العديد من الحالات" .

ففي الوقت الذي لم تتمكن فيه أي دولة عادية من أن تحارب، فضلاً عن أن توقع الهزيمة بأي من الدول الكبرى في إطار النظام الدولي المعاصر، فإنه من خلال هذا النوع من الحروب ذاق عدد من هذه الدول الهزيمة علي يد جماعات أضعف منها بالمقاييس التقليدية للقوة، فتعرضت أمريكا للهزيمة (وفقاً لتعريف النظرية لمفهوم الهزيمة) في كل من فيتنام، ولبنان، والصومال، وأفغانستان، والعراق. كما تعرضت القوات الفرنسية للهزيمة في كل من فيتنام، والجزائر، وتعرض الروس للهزيمة في أفغانستان، ثم لانكسارات خطيرة في الشيشان. الأمر الذي يعكس وفقاً للنظرية تغيراً في علاقات القوة، وفي الطريقة التي بات "يُنظر من خلالها إلي كيفية إحراز النصر، ففي كل هذه الأمثلة تمكن الطرف الأضعف، من إجبار الطرف الأقوى علي العدول عن هدفه، وإقناعه (قسراً) بعدم جدوي الاستمرار في محاولة تحقيقه، وفيما لا يمثل هذا انتصاراً وفقاً للمعني التقليدي، فإنه علي الأقل يمثل غلبة لكفة الطرف الذي تبني هذا النوع من الاستراتيجيات" .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم