صحيفة المثقف

السياسات في عالم متغير..

احمد بابانا العلوييرى الفيلسوف أبو الوليد ابن رشد (ت 595ه/1198م)  في كتاب جوامع السياسة إن فساد المدن (أو الدول) يعود إلى سيادة رئاسات غير حكيمة تغلبت عليها القوة القاهرة التي تنشد جمع المال والأبهة والصيت والإسراف في النفقة..

ومن سمات الدولة التي تسود فيها سياسة غير حكيمة وغير عادلة.. الزيغ، الذي هو سبب الجور، وتسلط أصناف من الناس على  مراتب لا تليق بها... الأمر الذي يؤدي إلى سياسة التسلط التي تنقض تماما السياسة الفاضلة... والتسلط أو الاستبداد يقف سدا منيعا أمام التحول الإيجابي والتدبير  المدني  للاجتماع الإنساني والعمران الحضاري، أي التحول إلى مدينة فاضلة ومزدهرة يسودها العدل والحكمة..

الخلاصة أن ابن رشد يحدد خصائص المدينة الفاضلة  وأحوالها وفقا لمبادئ الحكيمين أفلاطون وأرسطو .

وجملة القول أن التدبير المدني إما تتمخض عنه سياسة فاضلة أوسياسات ضالة أو منحرفة...

وأهم خاصية تتسم بها الدولة الفاضلة أو الحكومة الصالحة العقلانية في تدبير أحوالها وشؤونها  والعمل علىى تحقيق المنفعة العامة لجميع أفراد المجتمع...

فالدولة تحرس القانون، وتصلح العقول وتقوم الأفكار وتهذب الطبائع، وتحتاج الدولة للقيام بهذه المهمة إلى قيادة حكماء مجردين من الهوى، والرغبات وشواغل الثروة وهموم الأسرة...

ويرى أرسطو أن الحكم مجرد وظيفة وخبرة  وأسلوب لتدبير شؤون الدولة والمجتمع.

ولا نكاد نجد فيلسوفا أو مفكرا ذا شأن  إلا وضع  نظرية في السياسة وأصول الحكم... ومسألة الحكم من المسائل الرئيسية التي تنتقل بها الحلول من عصر إلى عصر.. وعلم السياسة الذي يعنى بهذه المسألة يدرسها من الزاوية العملية، باعتبار أن السياسة فن وعلم، وتدبير يعبر عن قدرة المجتمعات الإنسانية على تشكيل مؤسساتها وتجديد حياتها السياسة بوضع القواعد التي تشرك المجتمع في تدبير حكم والتأثير فيه ..

قامت الطبقة الوسطى بدور رائد في تحديث نظم الحكم وطرق التدبير والتمثيل السياسي...

لقد دخلت على مفهوم  السياسة عناصر جديدة مثل مفهوم الأمة ومفهوم السيادة مما أعطى للسياسة بعدا جديدا مختلفا عن التصورات التي كانت رائجة في أدبيات الفلسفة السياسية الكلاسيكية، مما أدى إلى بلورة  لأنماط اجتماعية تعكس درجات التطور التي عرفتها المجتمعات الإنسانية في العصور الحديثة..

إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحدد أهدافه ويرسم مستقبله..، والغاية من الحرية  تحقيق إرادة سياسية تؤسس للفعل السياسي باعتباره عملا مرتبطا بالنشاط البشري فلا وجود  لحياة إنسانية خارج دائرة السياسة فكل ما يصدر من النشاط عن المجتمعات يؤدي إلى عيش مشترك بقيمه ونظمه يعتبر من جوهر السياسة، وكل ما يصدر عن الافراد والمجتمعات من أفعال وأعمال قصد التحكم يشكل قاعدة للاجتماع والسياسة...

السياسة تعبير عن القوة، والقوة هي القدرة على أحداث تغيير في شيء آخر ، وهي الإمكان القائم في شيء للانتقال إلى شيء آخر... وبالتالي فالقوة إما أن تكون  فاعلة او مننفعلة، إلا أن ظهور فكرة العقد الاجتماعي الذي انبثقت عنه سيادة الأمة جعل للحكم قواعد وأصول يقوم  عليها، وتتحدد في سلطة اتخاذ القرار وسلطة وضع القوانين وسلطة  الضبط والمراقبة...

وأدى تنظيم الحياة العامة إلى إقامة التوازن  بين الجماعات والافراد وتوجيه النشاط الاجتماعي لتحقيق المصالح العامة...

فالقوة الفاعلة تتجسد في الدولة التي تحقق مصالح المجتمع الحيوية وأهدافه  العليا ووحدته الثقافية والحضارية والإقليمية...

فالدولة الحديثة تقوم على الخبرة في التنظيم والتدبير للشؤون العامة، وتربية المجتمع على مزاولة الشؤون العامة  أجيالا متعاقبة حتى تصبح  رعاية المصالح العامة عادة...

إن الدولة الحديثة قامت على أساس مبادئ الحق والعدل والمساواة والحرية، نتيجة انتقال السيادة إلى الأمة تباشرها عبر الإرادات الحرة المتساوية للأفراد والجماعات  ومن هذا المفهوم انبثقت فكرة الديمقراطية القائمة على التعاقد والتوافق والمشاركة.. ضمن مجتمع  سياسي منظم يتميز بالتعدد والتنوع.

فالدولة ترسخ المنهج العقلاني الذي يضع القواعد والضوابط وينظم المؤسسة ويضع قانون الإطار لهذا التنوع المتعدد الأشكال...

إن المتأمل لجدلية التاريخ والسياسة، لا بد أنه مدرك لحقائق الحكم ومشكلاته المتجددة، في كل عصر سواء تعلق الأمر بمشكلة الحكم المطلق أو حكم الأغلبية أو مشكلة الثروة والطبقات الحاكمة وتداول السلطةأو مشكلة انتخاب ومشكلة الحقوق ومشكلة الملكية وغيرها من المشكلات التي يعالجها الفكر السياسي وتعنى بها مذاهب البحث والاستقراء وأمانة العلم فيما تقرره من حلول بالقياس إلى التجارب الماضية والحاضرة.

ومن هذا المنطلق يجب أن ننظر إلى السياسة باعتبارها تدبير مدني وتدافع يهدف إلى تحقيق توازن في المصالح، من خلال  ترسيخ الفضائل التي اكتسبها الأفراد  بالمرانة الطويلة على الحياة السياسية، مما يعني المشاركة والمساهمة  بفعالية في السلطة السياسية، والمشاركة بهذا المعنى هي نقيض للممارسة الفردية للسلطة، ومن ثم فإن ما هو " سياسي" يتعارض مع ما هو "استبدادي" فالمشاركة السياسية تعبير عن ضرورة السياسة باعتبارها تضفي الشرعية على اتجاهين في العمل السياسي: السياسة الراشدة، والسياسة الفاسدة أوالمنحرفة...

فالسياسة الراشدة تسعى إلى تحقيق الخير العام لأنها تعكس وتعبر عن إرادة الناس ومطامحهم وشعورهم عبر العصور، ومنها  ينبثق رجل السياسة القادر  على إدارة الشؤون العامة  سواء بالعمل أو الخطاب او التشريع...

أما السياسة المنحرفة فهي التي تكرس السيادة الأحادية لفرد أوجماعةوالاستفراد بالحكم..

وتخدم الغايات الخاصة للاستبداد، والرغبة الشاملة في الهيمنة والسيطرة بحيث تضفي صفة اللامساواة على كل ممارساتها وتوجيهاتها...

إن الفكر السياسي الحديث ركز اهتمامه على السياسة الفعلية وبحث عن أفضل السياسات، لأن مهمة السياسة العليا  للدولة التحكم في النظام الاجتماعي..

لقد أدت الحداثة السياسية إلى صياغة تصور واقعي للنظام الاجتماعي ... وتمخضت عنها الحقوق الفردية التي مهدت لقيام النظام الليبرالي.

لقد أدى التطور الذي عرفه  الفكر  الحديث إلى تغيير جذري  في  بنية العقل السياسي، فتحولت السياسة إلى شأن علمي، يمكن اختزالها وحصرها في مسائل تبحث في تقنية السلطة  والحكم، أو في قواعد الحياة الاجتماعية وأعرافها..

ونتيجة لهيمنة الاقتصاد على مجالات الحياة الاجتماعية الحديثة فقد تحولت إلى  مجرد سوق تمرر فيه المصالح والمنافع وفقا لقوانين السوق...

لم تعد السياسة المحرك  للحياة الاجتماعية بعد أن أفرغت من غاياتها ومثل  الصلاح وامانة الحكم والإصلاح...

إن العولمة التي اكتسحت العالم واحتكرت الشركات الكبرى والمركبات الصناعية والتجارية والمالية والخدماتية، واستحوذت على مراكز القرار في البورصة وفي الإنتاج والتوزيع والتسويق والمضاربات المالية، الأمر الذي أدى إلى تقلص دور الدولة، بحيث لم يعد هناك مركز سياسي استراتيجي يمتلك رؤية مستقبلية  تمكنه من وضع مشروع مجتمعي  محدد المعالم والغايات يساس بالحكمة ويحكم بالعدل...

والذي لا خلاف فيه، أن الحكمة تجمع بين الفضائل  الأخلاقية التي ترقى بالشخصية الإنسانية في الاستعداد لتحمل المسؤولية واحتمال التبعية ومحاسبة النفس.. ففضائل الأخلاق مصدر قوة أرفع من القوة الآلية...

ولا صحة بغير قوة ضابطة أيا كان حكم الاجتماع..، والعدل يحقق المساواة "بسيادة القانون" الذي يجمع بين الفضائل الأخلاقية والمنفعة  الاجتماعية .

ومسك الختام  أن كل مذهب في السياسة  باطل  إذا أغفل سعة الآفاق التي نعلمها أوالتي نجهلها..

لأن العالم لا يستقيم على فكرة واحدة أونظام واحد...

والفكرة تجد وطنها في كل مكان يوجد فيه عقل إنسان، وانتقال الأفكار جائز بين العقول على تباعد الأمكنة والأزمنة ..

لقد تأسست الدولة على تقديس الحرية الإنسانية بحيث تكون هذه الحرية هي أساس الدولة الفكري وقانونها  الأعلى..

فرسالة الفكر هي إرساء قواعد الحرية والدفاع عن مبادئها وقيمها..

وتاريخ الإنسانية هو تاريخ الحرية لأنها الغاية التي تسعى إليها من أجل تحقيق الرقي والتحضر والتقدم..

 

أحمد بابانا العلوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم