صحيفة المثقف

الحاكميّة وإشكالية السلطة السياسية والتشريع عند سيد قطب

بدر الدين شيخ رشيداعتبار السلطة السياسية من أصول الدين:

ربط سيد قطب السلطة السياسية بمبدأ ألوهية الله في العالم، فالسلطة والتوحيد كلاهما توأمان متلاحمان لا ينفصل أحدها عن الآخر، فبعثة الأنبياء من منظور سيد قطب كانت تنطلق من مبدأ «نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ورده كله إلي الله»، إلا أن علاقة السلطة السياسية، بمبدأ الألوهية عند سيد قطب لا تعدو أن تكون في معنى التحرر الإنسانيّ من جميع أنواع القيود البشرية؛ لأن التوحيد معناه الحقيقيّ هو التحرر المطلق من كل عبودية الأوهام، والنظم والأوضاع، فهو إعلان لميلاد التحرر البشري الكامل الشامل .

ويؤكد سيد قطب أن أهم مبادئ الحاكميّة هي تحرير الإنسان من ربقة عبودية غيره من جنس البشر، وهذا يفيد بأن الحاكميّة ليست معناها إلغاء دور الإنسان في ممارسة السلطة بل هو تمهيد لإصلاح الأرضية التي تمكّن للإنسان أن يمارس فيها السلطة السياسية، وهذا التحرر عند سيد قطب يبدأ من تحرير الضمير البشري من عناء التخبط في شتى الأوهام والأساطير إلى جمال العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة حقيقتها الكبيرة التي تمثلها العقيدة الإسلامية .

كما يؤكد سيد قطب أن تحرير الإنسان يتم عند ما يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، وحينئذ يتم ميلاده  الحقيقي؛ لأن الناس يتساوون جميعاً أمام رب الناس .

وفي هذا المبدأ -أي تحرر الإنسان- يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره؛ وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحمّله تبعة عمله وحساب نفسه، وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني، التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب متعسفة ونظم مذلة، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله، أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها، غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها، فإما أن يعتنق مذهب الدولة، وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب؛ لأن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان، فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء، ومع حرية الاعتقاد يأتي حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة، وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة، والإسلام هو الذي ينادي بأن لا اكراه في الدين، وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين .

ومن هنا، يقرر سيد قطب أن إعلان ربوبية الله للعالمين هي بذاتها إعلان تحرير الإنسان، تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله، تحريره من شرع البشر، ومن هوى البشر، ومن تقاليد البشر، ومن حكم البشر ؛ لأن الإسلام حين يجعل الشريعة لله وحده، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويعلن تحرير الإنسان، بل يعلن  ميلاد الإنسان، فالإنسان لا يولد، ولا يوجد، إلا حيث تتحرر رقبته من حكم إنسان مثله، وإلا حين يتساوى في هذا الشأن مع الناس جميعاً أمام رب الناس .

إشكالية  التشريع  بين السلطة و الأمة:

إن التشريع للأمة في كل ما يتصل بحياة الإنسان من الأمور السياسة والاجتماعية والاقتصادية، فالسلطة السياسة فرع عن الأمة في تنفيد، أو في مماسة السلطة السياسية، حسب الصلاحيات المخولة من الدستور الذي تم تقريره أو استفتاؤه من الأمة، وبهذا، تكون الأمة المصدر الأساسي للتشريع في كل ما يتصل بشؤون حياة الأمة.

الفرق بين الشريعة والتشريع:

كثير من الباحثين يخلطون بين الشريعة والتشريع بحيث يحصرون كليهما في ذات الله، وبالتالي يحكمون من يتناول التشريع في القضايا المستجدة، بأنه تدخّل في حق الله، ومن ثم  يسمون عليه بالكفر أو بالفسق، وهؤلاء لم يفرقوا بين الشريعة والتشريع، فالشريعة كما يقول سيد قطب هي من صنع الله ومصدرها القرآن والسنة ، أما التشريع، فهو تفعيل بمعنى التقنين، وهو يأخذ مفهوم الاجتهاد في المسائل المستجدة، يقول سيد قطب:«إن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية، ويسيرها، ويطهرها ويطلقها تنمو وترتفع معاً».

ولهذا، فالشريعة هي الأصول المستمدة من القانون، أما التشريع  فهو الفروع المتعلقة باجتهاد الأمة لتعالج قضاياها، وعلى هذا الأساس،  فالشريعة من وحي إلهي، أما التشريع فهو اجتهاد بشري.

فالتشريع في الغالب يطلق على ما يتصل باجتهاد الحاكم أو السلطة التشريعية، أو ما يتصل باجتهاد الفقهاء في الفقه الإسلاميّ، ولا فرق بينهما، إلا من حيث تعلقهما، فالفقه هو مجرد استنباط، أما التشريع فهو اجتهاد مع التطبيق، كما في عصر الخلفاء الراشدين، فاجتهاداتهم لم تكن مجرد فقه، بل إضافة إلى ذلك كانت تشريعا ملزما في زمنه، بخلاف ما بعد الخلفاء  الراشدين، بينما الفقه قد اقتصر على الاجتهاد النظري من غير تطبيق وذلك، للفصل  بين السلطة والفقه، ولذا، أصبح الفقه الإسلامي مجرد نظرية  مدونة في بطون الكتب.

إذن، فالتشريع الإسلامي هو من وظائف الأمة من خلال استقاء مصادره الأصليّة من كتاب وسنة، وباليالي فهو حركة ممتدة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا الأساس، فجعل سيد قطب التشريع من خصائص الألوهية لا دليل فيه، بل التشريع أيضا من حق الأمة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ترك للأمة الكتاب والسنة، وفتح لهم باب الاجتهاد، ففي حديث  معاذ بن جبل  رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بم تقضي) ؟ قال: بكتاب الله. قال: (فإن لم تجد في كتاب الله )؟ قال: (بسنة رسول الله) .قال:( فإن لم تجد في سنة رسول الله) ؟ قال: أجتهد رأيي، فقال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى به رسوله) .

وربما نحمل التشريع الذي جعل سيد قطب من خصائص الألوهية التشريع الابتدائي، فهو الذي لا يشاركه أحد من الخلق، وهو يأخذ معنى الشريعة بمفهومها الوحيّ؛ لأنها  نزلت منه سبحانه وتعالى، أما التشريع الذي بمعنى التقنين، فهو من حق الأمة عن طريق الاجتهاد والاستنباط من الشريعة من خلال القواعد المقررة في الأصول.

ويدل ما قررنا  على أن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يقال  له عصر الرسالة، كما يطلق عليه أيضا عصر التشريع، لكن الأخير لم ينقطع بخلاف الأول؛ لأنه متعلق بالوحي وبالتالي انقطع، أما التشريع فهو لم ينقطع، وذلك لتعلقه بالحوادث، وهو موكول إلى الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول بالأمة بدل المجتهدين من علماء الدين؛ لأن الأمة تشمل بالمجتهدين من جهة، ومن جهة أخرى، فالتشريع لا يقتصر على الأحكام الشرعية المتعلقة المجتهد، بل يَعٌمُّ على جميع ما يتعلق بالحياة، والانسان، والكون، إذن، فالتشريع هو شىء يتعلق بالتطور فلا ينقطع إلى أبد الدهرر.

ومن هنا، يقرر الشيخ رشيد رضا تشريع الأمة من خلال الاستنباط والاجتهاد، وهذا التشريع يختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الناس الدينية والمدنية، حيث يرى أنه لا يقوم أمر حكومة مدنية بدون تشريع، ولا ترتقي أمة في معارج العمران بدون حكومة يكفل نظامها تشريع عادل، يناسب حالتها التي وضعها فيها تاريخها الماضي، كما لايصلح لأمة من الأمم شرع أمة أخرى مخالفة لها في مقوماتها ومشخصاتها وتاريخها.

كما يرد الشيخ رشيد رضا على من يرى أن التشريع من أبجديات الإفرنج، وأن الإسلام لا تشريع فيه للبشر؛ معلّلين في ذلك؛ بأن شريعته مستمدة من القرآن والسنة، وأن الأحكام المدنية والسياسية فيه قليلة محدودة، والزيادة فيها على ما في القرآن قليلة، ومناسبة لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة ولا سيما زماننا هذا، وأن الاجماع والاجتهاد على استنادهما إلى الكتاب والسنة، قد انقطعا وأقفلت أبوابهما باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية،  وأن هذا هو السبب في تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية ، واضطرار الحكومتين المدنيتين الوحيدتين التركية والمصرية إلى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة الإسلامية تقليدا ثم تشريعا.

علاوة على ذلك، يرى الشيخ رشيد رضا، أن ذلك جهل عن أصول الشريعة الإسلامية وأساس التشريع فيها، بحيث أن التشريع يتعلق بنظام الإدارة، والقضاء، والسياسة، والجباية، وتدبير الحرب مما لا دخل للتعبد والزلفى إلى الله ، ولهذا، ثبت أن «للإسلام تشريعا مأذونا به من الله تعالى، وأنه مفوض إلى الأمة يقره أهل العلم، والرأي، والزعامة فيها بالشورى بينهم« . ، ويعلل الشيخ محمد الغزالي بذلك أنّ«دائرة النص محدودة الأبعاد، ومن ثم قام القياس والاستنباط والاستحسان، وقام النظر الحر فى شئوون الدنيا، واستطاع المسلمون بالارشاد الإلهى أن يشرعوا لأنفسهم على امتداد الزمان والمكان» .

نماذج من التشريع في عهد الخلفاء الراشدين:

الأول: في عهد أبي بكر رضي الله عنه:

قد  حدث نماذج من التشريع في عهد  أبي بكر الصديق رضي الله عنه أهمها: قضية  اسقاط سهم مؤلفة القلوب، فعمر هو الذي اجتهد في إيقافها في عهد أبي بكر رضي الله عنه، و ذلك، لما رأى أن علة  تشريعها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم  قد انتهت، وهي تقوية ضعف المؤمنين،  والجبر عليهم، فلما تقوت شوكة المسلمين رأى أنه لا حاجة إذن، في إعطاء سهم مؤلفة القلوب لرؤساء العشائر .

والمستفاد من فعل عمر هو التشريع فيما تقتضيه المصلحة مع وجود النص، وهذا التشريع ليس له عصمة بل يمكن أن ينقض باجتهاد آخر يأتي بعده؛ «لأنه مجرد رأي بشري في شريعة الله ليس جزءا من الشريعة الثابتة الصادرة من الله» ، وعلى هذا الأساس، ذهب جماعة من العلماء  إلى أن سهمهم باق، وعللوا ذلك بأن الإمام ربما احتاج  إلى أن يتألف  قلوب الناس  في الإسلام، وإنما قطعهم عمر بن الخطاب لما رأى من اعزاز الدين، قال يونس بن يزيد:سألت  محمد بن مسلم الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخ ذلك ، كذلك، يقول الإمام الرازي: والصحيح أن هذا الحكم غير منسوخ، وأن للإمام أن يتألف قوماً على هذا الوصف ويدفع إليهم سهم المؤلفة؛ لأنه لا دليل على نسخه البتة .

الثاني: في عهد عمر رضي الله عنه:

ومن  أهم ما وقع في عهد عمر بن الخطاب من التشريع هو إيقاع الطلاق الثلاث، وهو بخلاف ما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنه ، كما أنه أوقف تقسيم الأراضي المفتوحة، بل تركها لأصحابها لئلا يتحول الفاتحون إلى إقطاعيين، وبالتالي، ضرب على أصحابها الخراج لكى تكون مادة للمسلمين .

الثالث: في عهد عثمان رضي الله عنه:

وهناك نماذج كثيرة من التشريع اجتهد فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه منها: زيادة الآذان الأول من يوم الجمعة، وذلك لما توسعت المدينة وكثر الناس زاد عثمان الآذان الأول، كما أنه أكمل الصلوات الرباعية للحجاج في منى، ولما سأله عبد الرحمن بن عوف: ألم تصل في هذا المكان مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر ركعتين وصليتها أنت ركعتين؟.. قال عثمان: هذا رأي رأيته .

الرابع: في عهد علي رضي الله عنه:

ومن أهم ما اجتهد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه في عهده، هو التسوية في العطاء بين الناس السابقين واللاحقين، الغني والفقير، العبد والشريف، نقضا على اجتهاد عمر بن  الخطاب، القائم على المفاضلة في العطاء بين الناس، واحياء لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في العطاء ، وقد طبقها أيضا أبو بكر رضي الله عنه في عهد خلافته التسوية في العطاء بين الصحاية وغيرهم من المسلمين.

 

د. بدر الدين شيخ رشيد إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم