صحيفة المثقف

العراقيون بجامعة موسكو في الستينيات ومصائرهم (10)

ضياء نافعنتحدث في هذه الحلقة عن اثنين من العراقيين في كليّة الفيلولوجيا بجامعة موسكو . كلاهما ترك الدراسة فيها . اتوقف اولا عند اسم طالب الدراسات العليا المرحوم سليم غاوي عبد الجبار، الذي كان يحمل شهادة البكالوريوس من دار المعلمين العالية في اللغة العربية وآدابها . كان انسانا هادئا ومتواضعا وخلوقا، الا انه كان منعزلا بعض الشئ، وارتبط اسمه بيننا (نحن الطلبة العراقيين) باسم الناقد الروسي بيساريف، والذي كان سليم غاوي يخطط ان يكتب عنه اطروحته وكان يتحدث عن هذا الناقد الروسي دائما، لدرجة، ان بعض الطلبة كانوا يطلقون عليه اسم بيساريف في احاديثهم الضاحكة الخاصة جدا في اوساطهم، ولم يكن سليم يعرف بذلك طبعا. لم يتميّز سليم غاوي بمعرفته العميقة للغة الروسية، هذه المعرفة الضرورية جدا – بلا شك - لدراسة النقد الادبي الروسي وكتابة اطروحة دكتوراة حول واحد من اعلامه الكبار مثل دميتري ايفانوفيتش بيساريف (1840 -1868)، ولا اعرف سبب تركه الدراسة لاحقا، ولكني اظن، ان احدى هذه الاسباب حتما تكمن في انه فهم تلك الحقيقة العلمية والبسيطة في آن . ان الكتابة عن بيساريف (رغم ان هذا الناقد عاش 27 سنة فقط) تتطلب معرفة معمقة لمفاهيمه وآرائه حول بوشكين وليرمنتوف وغوغول وتورغينيف ودستويفسكي، ومعرفة معمقة لمسيرة النقد الادبي الروسي واعلامه من بيلينسكي وتشرنيشيفسكي ودبرالوبوف، وكل ذلك يتطلب طبعا معرفة معمقة باللغة الروسية، ويتطلب سنوات طويلة من الدراسة تكاد تصل – بالنسبة للاجنبي - الى ضعف المدة القانونية المحددة للدراسة . ولكن مع ذلك، يجب القول هنا، ان اختيار سليم غاوي لهذ الموضوع المهم والمتميّز في تاريخ النقد الادبي الروسي يعني ان غاوي كان يعرف بعض اوليات الموضوع، ويعني ايضا انه قرار شجاع وطموح جدا، ولكنه قرار غير واقعي، ولا يتناسب مع شخص اجنبي متخصص في اللغة العربية وآدابها ويريد ان يكتب اطروحة دكتوراة في النقد الادبي الروسي في جامعة موسكو .

حاولت ان ابحث عن معلومات اخرى حول سليم غاوي وانا اكتب هذه السطور عنه بعد اكثر من نصف قرن من آخر لقاء لي معه في جامعة موسكو آنذاك، ووجدت مقالة نقدية له نشرها في مجلة (الرسالة) الشهيرة عام 1952 بعنوان – (القيم الفنية للشعر المنطلق)، وما اجمل هذا العنوان وما أعمقه، اذ انه يحمل مصطلحات مبتكرة واصيلة حتى بالنسبة للقارئ المعاصر، ووجدت ايضا اشارة جميلة في مذكرات عبد الرزاق عبد الواحد حول سليم غاوي (الذي كان يدرس معه في قسم اللغة العربية في دار المعلمين العالية)، ويقول عبد الرزاق عبد الواحد  عنه – (كان لي ابن عم  اسمه سليم غاوي عبد الجبار ..كان معنا في القسم  ...انه مشروع ناقد يلفت النظر، لولا ان تشعبت به سبل الحياة..)، ويتحدث عبد الواحد في مذكراته تلك عن دراسة نقدية عميقة كتبها سليم غاوي عن شعر عبد الوهاب البياتي وألقاها امامه في (البرازيلية)، المقهى البغدادية الشهيرة في شارع الرشيد، وكل ذلك حدث في العراق الملكي قبل ثورة 14 تموز 1958 طبعا.

الاسم الثاني، الذي يستحق ان اتوقف عنده وبكل جدارة هو د. سعد الجادر، الاخ الاصغر للفنان التشكيلي العراقي الكبير المرحوم د. خالد الجادر، والذي يرتبط اسمه في تاريخ العراق المعاصر بتأسيس اكاديمية الفنون الجميلة وكان اول عميد لها، وأخ الآثاري العراقي المرحوم  د. وليد الجادر، الاستاذ في قسم الآثار بكلية الاداب في جامعة بغداد، والذي يرتبط اسمه باكتشافات آثارية عالمية مهمة في  تاريخ حضارات  وادي الرافدين، وابرزها طبعا مكتبة سوبار (انظر مقالتنا بعنوان – وليد الجادر ..عشرون عاما بعد الرحيل). سعد الجادر هو الابن البار لهذه العائلة العراقية  العريقة في دنيا الثقافة العراقية المعاصرة . كان طالبا متميّزا جدا في الصف الاول في كلية الفيلولوجيا بجامعة موسكو، وكان واحدا من ألمع العراقيين معرفة باللغة الروسية، ومتابعا دقيقا للحياة الثقافية الروسية حوله آنذاك . انتقل سعد للدراسة في معهد الهندسة المعمارية عندما دعت الملحقية الثقافية طلبة الدراسات الانسانية الى تبديل اختصاصاتهم (انظر الحلقة رقم 8 من هذه السلسلة)، وانهى الدراسة الاولية  ثم الدراسة العليا في هذا المعهد وبشكل متميز، وعمل في عدة دول باختصاصه الهندسي المعماري هذا، وأخذ يجمع التحف الفضيّة في تلك البلدان التي عمل فيها، وهكذا استطاع ان يجمع كمية هائلة منها، مستخدما كل طاقته وامواله، وتحولت هذه الهواية الفنية الى هدف حياتي له، وقام بتنظيم عدة معارض كبيرة في بلدان مختلفة لتلك التحف الفضية، وأثارت تلك المعارض ردود فعل عالمية، ثم أصدر كتابا ضخما باللغة الانكليزية عن هذه التحف الفضية الرائعة، ويضم هذا الكتاب صورا تفصيلية وتعليقات وشروحات عن تلك التحف . اعلن د. سعد تبرعه بكل هذه التحف الى المتحف العراقي في بغداد لعرضها الدائم في قاعة تحمل اسم الجادر، ووضع كل هذه الثروة الفنية الهائلة في بنك بالمانيا، ونشر وصيّة في موقع (ايلاف) يعلن فيها ذلك . لقد قرأت تلك الوصيّة وانا اكاد أبكي، وقلت بيني وبين نفسي لماذا لا تتبنى جمعية الفنانين العراقيين مثلا (او اي جهة عراقية اخرى ذات علاقة بالموضوع) هذا المقترح العملاق وتسعى الى تنفيذه ؟ ...   

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم