صحيفة المثقف

مناقشة إشكالية عصمة الإمام عند الأشاعرة

بدر الدين شيخ رشيدالدّارس في جدليّة العصمة من خلال رؤية كلاسيكي الأشاعرة، يجد أنها مرت بمراحل تطورت أخيراً إلى القول بعصمة أهل الحل والعقد. وعلى هذا فالخلاف بين الإماميّة والأشاعرة حول عصمة الإمام، ليس بالنفى الكيّ بالعصمة من جهة الأشاعرة. بل الخلاف يدور على من يتصف بالعصمة؟.

فالإماميّة من جانبها، ترى أن العصمة لازمة للأئمة الأثنى عشرية. ثم كل إمام جاء بعد الثاني عشر. بينما ترى الأشاعرة أن صفة العصمة يتمتّع بها أهل الحل والعقد، من أهل الإجماع. وعللوا نفي عصمة الإمام لصعوبة معرفة الإمام المعصوم الذى تقول به الإماميّة. ولهذا أحاولوا العصمة إلى أهل الحل والعقد من أهل الإجماع[1].

الإمام الأشعري[ت:324/935] لم يتطرق إشكالية العصمة، إلأ أن غاية ما أكد في كتابه:«الأبانة عن أصول الديانة» هو ثبوت خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضى الله عنهم على الترتيب[2].

رؤية الباقلاني في عصمة الإمام:

أما الإمام الباقلاني [ت:403ھ/1012م] ففي كتابه«التمهيد» فقد ناقش إشكالية العصمة، حيث أكد عدم عصمة الإمام، وأنه غير عالم بالغيب ولا بجميع الدين[3].

حاول الباقلاني أن يدرس إشكاليّة العصمة من ناحيتين:

من ناحية وظيفة الإمام. فقد ذكر أن وظيفة الإمام، تمثل فى إقامة شرع الله من الأحكامٍ، والحدود، وما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو وكيل ونائب عن الأمة، في جميع ما يتولاه من الأمور، فإذا طرأ عليه إنحراف فالأمة هي التي تسدّده وتقوّمه[4].

وقد يرد على الباقلاني من هذه الناحية إشكالان:

(الأول): ما هو مفهوم الأمة الذي تعيّن الإمام وتقوّمه إذا إنحرف؟.أهو مفهوم أهل الحل والعقد في عرف أهل الأصول؟ أم هو مجموع الأمة؟.

(الثاني): إشكالية تغيير الإمام إذا إنحرف، بحيث يرى الباقلاني أن الأمة هي التى تسدده وتقومه وتذكره وتنبهه، وتأخذ الحق منه. ثم إذا إقترف ما يوجب خلعه وإستبداله بدلته على غيره، وعلى هذا« فليس يحتاج منه أن يكون معصوما، كما لايحتاج أميره وقاضيه وجابي خراجه وصدقاته، وأصحاب مسائله وحَرَسِهِ، أن يكونوا معصومين؛ وهو لا يلي بنفسه شيئا أكثر مما يليه خلفاؤه من هذا الأمور»[5].

فإذا نظرنا إلى إشكال الأول، فيبعد إطلاق الأمة على مجموعها وعلى هذا، فالأقرب هو إطلاق الأمة في مفهوم أهل الحل والعقد المتصفين بالعصمة؛ لأن القول:بأن الإمام نائب عن الأمة(مجموع الأمة) ليس له أثر مقبول في الواقع، رغم أن بعض المعاصرين خرّجوا مفهوم النيابة عن الأمة بشكل لا يخلوا من التكلّف والإبهام[6].

أما إذا نظرنا إلى إشكال تغير الإمام من قبل الأمة إذا انحرف فهو أيضا صعب المنال، وذلك طبقا لتجربة الحكم في التاريخ الإسلاميّ.

فإذا أخذنا مثلا نماذج من تجرية الخلفاء الراشدين، نجد أن أبا بكر وعمر إستقر لهما الأمر، وذلك لما عُرِف منهما العدل والقسط والإستقامة في أمر الأمة. أما عند ما نقم المسلمون في أمر عثمان، فلم تستطع الأمة أن تغير الوضع بطريق سلميّ، بل نجد أن الأمر تفاقم إلى حد أن وصل قتل الإمام، مما فتح مصراعى باب الفتنة الكبرى.

وبناء على ذلك، فالقول بأن الامام ليس بمعصوم، وأن الأمة هي التي تراقبه وتصححه وتخْلعه إذا إنحرف، لايستقيم في نظرية الأشاعرة، إلا إذا كان الإمام ينصب من قبل الأمة، وهي صاحبة السلطة.

أما القول: بأن الإمام هو نائب عن الأمة، ثم يختار الإمام من قبل أهل الحل والعقد، ولو برجل واحد منهم، ولا يشترط له العصمة، وأن الأمة هي التى تسدده وتقومه، لا شك أنه أمر في غاية الصعوبة من حيث التطبيق، والتاريخ الإسلامي خير شاهد على ذلك.

لذا، فالأقرب في تحقيق مفهوم العصمة عند الأشاعرة هو توظيف مفهوم عصمة أهل الحل والعقد، في حالة إختيار الإمام. بحيث يُخْتَار الإمام من قبل أهل الحل والعقد، المتصفين بالعصمة. وعلى هذا، فلا مناص للقول بعصمة، الإمام وذلك لسببين:

(الأول): أن الإمام جزء من مرجعيّة أهل الإجماع الممثلين بالنيابة الحقيقية عن الله في حفظ الشريعة وتمثيل العدالة في المجتمع .

(ثانيا): أن الإمام إنما ينصب لحفظ الشريعة لا كونه نائبا عن الأمة، و من هذا المنظور يستقيم تعريف الإمامة من حيث النيابة عن الرسول في حفظ الدين وسياسة الدنيا.

إستدل الإمام الباقلاني عدم عصمة الإمام من جهة الإلزام، كما إستدل أيضا من جهة إعتراف الخلفاء الراشدين بأنهم كانوا غير معصومين.

أما حالة الإلزام، فيري أن الإمام غير معصوم، قياسا على الأمراء والقضاة، والعاملين بالخراج، والصدقات، والحراس، إذ«لا يلي الإمام بنفسه شيئا أكثر مما يليه خلفاؤه من هذا الأمر»[7].

أما حالة إعتراف خلفاء الراشدين بأنهم كانوا غير معصومين، فقد إستدل الباقلاني بعض عبارات الخلفاء مثل عبارة أبي بكر«أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم».وعبارة عمر«لولا علي لهلك عمر». وعبارة عثمان«أحلّتْهُماْ آيةٌ وحرَمتْهٌما آية». وعبارة عليّ« أجمع رأيي ورأى عمر على أن ألا يبعنّ، وقد رأيت بيعهن»[8].

 

رؤية الجويني في عصمة الإمام:

ناقش الجويني[ت:478ھ/1085م]، في موضوع العصمة، بتفصيل أكثر عمن سبقه من الأشاعرة كالباقلاني والبغدادي. فأكد تبعا لمذهب من سبقه من الأشاعرة على«أن الإمام لا تجب عصمته في الزلل والخطأ»[9].

وعلل الجوينى نفى عصمة الإمام بثلاثة حجج:

لصعوبة الإطلاع في ضمير المختار؛ لأنه لا مطلع على العيوب إلا الله. وعلى هذا، فإذا كانت الأمة لا تعرف ضمير الشخص الذى تختاره، فكيف تضمن عصمته فى الإستقبال عن الذنوب[10].

المعلوم أن عليا رضي الله عنه، ولبنيه الحسن والحسين، وأولاهم صلوات الله عليهم ما كانوا يدعون العصمة والتنقي من الذنوب في أنفسهم. بل كانوا يعترفون بها سرا وعلنا، ويتضرعون إلى الله مستغفرين خاضعين خانعين، فإن صدقوا فهم المبتغى، وإن تكن الأخرى، فالكذب خطيئة من الخطايا يجب الإستغفار والتوبة منها. فمن أبدى مراء فى إعترافهم بالذنوب فقد جاحد ضرورات العقول. ومن إعتقد عصمتهم فقد نسب إلى الخُلْفِ قصدا، ولاشك أنه إثبات في مساق إدعاء التبري من الذنوب. ولا وجه للقول: بأن الأنبياء مع وجوب عصمتهم كانوا يستغفرون؛ لأن«مذهبنا الذى ندين به أنه لا يجب عصمة الأنبياء عن صغائر الذنوب، وآى القرآن في أقاصيص النبيين مشحونه بالتنصيص على هنات كانت منهم إستوعبوا أعمارهم في الإستغفار منها»[11].

غير أن هذا الرأي الذي نسب الجويني إلى الأشاعرة على أن الأنبياء لا تجب عصمتهم عن الصغائر، ليس على الإطلاق. بل إن مذهب إبن مجاهد أبو عبد الله الطائي الأشعري[ت:370ھ/980م][12]،شيخ الباقلانى [ت:403ھ/1012م]، وابن فورك الأصبهاني [ت:406ھ/1015م]، يخالفان في ذلك، حيث لا يجوزان وقوع المعصية من نبيّ بعمد أصلا، لا صغيرة ولا كبيرة. وهو مذهب ابن حزم، إذ يقول:«وهذا قولنا الذي ندين الله به ولا يحل لأحد أن يدين بسواه ونقول: إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى، والتقرب به منه، فيوافق خلاف مراد الله تعالى، إلا أنه تعالى لا يُقرُّ على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبّههم على ذلك ولا بد إثر وقوعه منهم، ويظهر عز وجل ذلك لعباده»[13].

إستدل الجويني نفي عصمة الإمام بإشكالية التقية عند الإمامية، وذلك لما تثير الشكوك حول الأئمة عندهم، بحيث«يوجبون على الأئمة بالكذب الصراح، ويبدون خلاف ما يعتقدون وإذا كانوا كذلك... فكيف يعتمدون في أقوالهم، مع تجويز أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون. وغايتهم فى إشتراط العصمة إتباع الإئمة فيما يأتون ويذرون، فإذا سقطت الثقة بأقوالهم كيف تجب العصمة في أقوالهم؟ ولئن جاز الكذب في القول تقية، فليجز الزلل في العمل لمثل ذلك»[14].

العصمة مختصة بالأنبياء عند الأشاعرة:

إذا نظرنا إلى وجه إستدلال الأشاعرة في نفى عصمة الإمام، نجد أنهم عللوا بذلك على أن العصمة مشترطة فقط للنبوة والرسالة، وليست من شروط الإمامة، بل يكفى في الإمام العدالة الظاهرة.

فإذا زاغ الإمام عن العدالة كان على الأمة أن تصوبه من الخطأ إلى الصواب، أو العدول عنه إلى غيره، فكما يعامل الخليفة مع عماله وقضاته ونوابه إذا زاغوا عن الجادة أن يقيّم أو يغير، فكذلك على الأمة أن تصحح الإمام أو تبدل عنه[15].

وقد سبق مضاعفات هذا الرأي في مناقشة رؤية الباقلاني في إشكالية العصمة عند الأشاعرة.

العصمة لأهل الإجماع عند الأشاعرة:

قد أبدى الرازى لزوم عصمة الإمام وذلك، لتلازم إطاعته بعصمة. غير أنه نفاها بناء على صعوبة معرفة الإمام والإستفادة منه. ولهذا تكون العصمة لأهل الحل والعقد من أهل الإجماع.

أستنبط الرازي تقرير العصمة من قوله تعالى:﴿ يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾[النساء:59].

يقول الإمام الرازى[ت:604ھ/1209م] في تقرير العصمة«إن الله أمر بطاعة أولى الأمر على سبيل الجزم فى هذه الأية. ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع، لابد وأن يكون معصوما عن الخطأ. إذ لولم يكن معصوما عن الخطأ لكان إقدامه على الخطأ مأمورا بمتابعته. فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه. فهذا يفضي إلى إجتماع الأمر والنهى في الفعل الواحد، بالإعتبار الواحد‘ وأنه محال. فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم. وثبت أن كل ما أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكونة معصوما عن الخطأع. فثبت قطعا، أن أولي الأمر المذكور فى هذه الأية، لا بد وأن يكون معصوما. ثم نقول : ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة، لا جائز أن يكون بعض الأمة، لأننا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً، وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول اليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليه، عاجزون عن إستفاده الدين والعلم منه، فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد ليس بعضا من أبعاض الأمة، بل المراد هو أهل الحل والعقد من الأمة»[16].

نلاحظ من خلال تقرير الرازي في إشكاليّة العصمة عند الأشاعرة، أن نفي العصمة عن الإمام ليس من حيث المبدأ، بل لصعوبة معرفته والإستفادة منه. وبناء على ذلك، أحال الرازي العصمة إلى أهل الحل والعقد.

لكن إذا إلى نظرنا إلى وجه تعليل الرازي في نفي عصمة الإمام- وهو صعوبة معرفة المعصوم من الأمة، والعجز عن الوصول إليه- يظهر أنه غير كاف في الرد على عصمة الإمام.

وقد إستدرك الشيخ السبحانى- وهو عالم مجتهد إمامي معاصر- إستنتاج الرازي في نفي عصمة الإمام فقال:« يلاحظ عليه بأنه إذا دلت الآية على عصمة أولى الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم، وإدعاء العجز هروب من الحقيقة، فهل العجز يختص بزمانه أو كان يشمل زمان نزول الآية، لا أظن أن الرازي يقول بالثاني، إذن فعليه أن يتعرّف على المعصوم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وعصر نزول الآية. فبالتعرّف عليهم يعرف معصوم زمانه، حلقة بعد حلقة أخرى. ولا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي بإطاعة المعصوم، ثم لايقوم بتعريفه حين النزول، فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة أولي الأمر، لكان عليه أن يؤمن بقيام الوحي الإلهي على تعريفهم، بلسان النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا معنى أن يأمر الله بطاعة المعصوم، ولا يقوم بتعريفه»[17].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد إبراهيم

..............................

[1]- الرازي، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1/1421ھ/2000م، ج10/ص116

[2] - الأشعرى، أبى الحسن، علي بن إسماعيل بن أبي بشر، الإبانة عن أصول الديانة، تحقيق، د.فوقية حسين محمود، دار الأنصار، القاهرة، مصر ط1/1397ھ، ص257.

[3] - الباقلانى، التمهيد، تحقيق، محمود محمد الخضيريّ، ومحمد عبد الهادي، دار الفكر العربى، بيروت لبنان،(بدون رقم الطبعة والتاريخ) ص 182.

[4] - المصدر السابق، ص 184

[5] - الباقلانى، المصدر السابق، التمهيد، ص 184.

[6] - البياتى، د/منيرحميد النظام السياسي الإسلامى مقارنا بالدلة القانونية، دار البشير للتوزيع (بدون رقم الطبعة والتاريخ)، ص 169-180

[7] - المصدر السابق، ص184.

[8] - المصدر السابق، ص185.

[9] - الجوينى، الفياثى غياث الأمم فى التياث الظلم، تحقيق، د/ عبد العظيم الديب، كلية الشريعة، جامعة قطر، ط2/1401ھ/1981م،ص 92.

[10] - المصدر السابق،ص، 92-93.

[11] -  المصدر السابق ص 93-94 .

[12] - هو ابن مجاهد الطائي المالكي المتكلم صاحب أبي الحسن الأشعري (ت370ه)قال في مسألة عصمة الأنبياء من الصغائر :والمختار امتناع ذلك عليهم، وأنهم معصومون من الصغائر والكبائر جميعا، وعليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وأبو بكر بن مجاهد، وابن فورك، أنظر الرابط.

http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=279541

[13] - ابن حزم، الفصلل فى الملل والأهواء والنحل، تصحيح أحمد شس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،، ط2/1420ھ/ 1999م ج2/ص285.

[14] - الجوينى، الفياثى غياث الأمم فى التياث الظلم، تحقيق د/ عبد العظيم الديب، كلية الشريعة جامعة قطر ط2/1401ھ/1981م، ص 95-96 .

[15] - البغدادى، كتاب أصول الدين دار الكنب العلمية بيروت‘ لبنان، ط3/1401ھ/ 1981م، ص277-278.

[16] - الرازى، التفسير الكبير، أو مفاتيخ الغيب، دارالكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1/ 1421ھ / 2000م، ج10/ص116.

[17] - السبحانى، بحوث فى الملل والنحل، مؤسسة النشر الإسلامى‘ قم، إيران، ط3/ ط1417ھ ج6/ص292- 293.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم