صحيفة المثقف

عودٌ على بدء

مجدي ابراهيم(17)

لم تكن المقالات التي سُقْناها فيما تقدّم، وعددها ستة عشر مقالة، بالتي تخرج عن قصدنا في إطار قراءة لغة الخطاب الصوفي مقارنة بموقف الوضعية المنطقية من اللغة؛ لنبيَّن أن للألفاظ ميتافيزيقاها وأن لدلالات تلك الألفاظ مجازاً تفرضه اللغة الشاعرة كما توجبُه اللغة الرمزية للخطاب الصوفي، وأن قراءة هذه اللغة يَستلزم افتراق دلالة الإشارة الباطنة عن ظاهرها اللفظي، ويتطلب استنباط الإشارة الخفيّة من العبارة العادية. وعليه؛ يمكن استخلاص أهم النتائج من وراء كتابة هذه المقالات.

النتيجة الأولى: إذا نحن عدنا إلى ما بدأناه قلنا: ليس يكفي اللفظ أن يأتي ليحدِّد معنى، ولكنه يأتي ليشير إلى معنى محدَّد، بقدرات الفهم، والعقل، والتذوق، وبقدرات أخرى مما لا يحصى في باطن الإنسان تشترط في تحقيقها جودة إخراج "الماورائيات" المتبقية بعد إيضاح المعنى من وراء اللفظ (أعني الاستنباط).

والألفاظ المفتوحة هى المشار إليها من ممالك السماء، تتسع وتمتد حتى لكأنها تشمل الكائنات كلها، وهى من بعدُ في مزيد من الاتساع والامتداد كلما اتسع معناها وازداد.

ولتوضيح ذلك، نودُّ أن نكرِر العبارة تكرار تبيان واستفهام؛ فإننا لا نستفهم ولا نَتَبَيِّنُ لها من أحكام إلاّ حينما نوضحها بمثل هذا التكرار: " ليس يكفي اللفظ أن يأتي ليُحَدِّد معنى، ولكنه يأتي ليشير إلى معنى محدَّد. هذا المعنى المحدَّد مرتبط بقدرات الفهم أو إنْ شئت قلت، مرتبط بالقدرات التي خلقت من المعاني ما خلقت، وأوجدت منها ما أوجدت، ثم سَنَّتْ لها ألفاظاً تجيءُ لتفرّغها فيها تفريغاً يتسع لمعناها المراد أو لا يتسع حسبما تتصور هى وكيفما تتوهم ما تتوهَّمَه من جنس "ربط المعاني بالألفاظ".

ومرة ثالثة، نكرِّر العبارة نفسها: ليس يكفي اللفظ أن يأتي ليحدِّد معنى، ولكنه يأتي ليشير إلى معنى مُحدَّد. والفرق بعيدٌ جداً بين القولين، أو بين قول واستدراكه في العبارة السالفة. فلئن كنتُ أقول: إنّ اللفظ يأتي ليحدِّد معنى، فكأنما أفترض أن المعاني لا توجد إلاّ بوجود الألفاظ الدالَّة عليها، وإذْ ذَاَكَ ألغي أسبقية المعاني الكامنة وراء الألفاظ، وبالتالي ألغي وجودها الميتافيزيقي. ولكن عندما أقول: إنّ اللفظ جاء ليُشير إلى معنى محدَّد؛ فكأنما أريد أن أقول إنّ اللفظ موضوع في موضعه الذي خُلق لأجله وهو تحديد المعاني التي لا تحدُّ إلاّ به في موضع التحديد، وهى مع ذلك تبقى معانٍ لو شئت لها فتح اللفظ كلما اتسعت أمامك الرؤية.

فلا أنا هنا كنتُ لاغياً لأسبقيتها ووجودها "الميتافيزيقي"، ولا أنا اكتفيتُ منها بالقشرة الخارجية والسطح البرَّانيِّ، ولا أنا عَطَّلت من مرماها ومعناها ما يمكن لي أن أتلمَّسه خارج حدود اللفظ، ضاق إنْ شاء معي اللفظ أو اتسع.

فإنّ اللفظ الموضوع في موضعه إنما هو لفظ يأتي ليحدِّد المعاني التي لا تحَدَّ إلاّ به حين يُراد من المعنى التحديد بعد الإطلاق، ولكنها (أي المعاني) تبقى "معان" ببقاء مَنْ يقدر على تلمُّس المعنى خارج حدود اللفظ ومن ورائه، أعني خلف حجاب الكلمات.

وهذا هو بالضبط ما نعنيه بميتافيزيقا الألفاظ الدالَّة على معان معقولة حسب اصطلاح الفارابي في كتاب (الحروف، بتحقيق محسن مهدي، ص 148)؛ وإنما دَلَّتْ على معانٍ معقولة أو متصوَّرَة؛ لأن الذهن يتخطى فيها ترتيب الألفاظ على اللسان إلى حيث معانيها المعقولة التي هى في النفس. فإذا كان ما يتخطى إليه الذهن عن الأشياء التي رُتبت معاني معقولة, وكانت هذه (أي المعاني المعقولة) ليس يمكن أن يُتخطى إليها بألفاظ فقط يُسبق ترتيبها، فبالضرورة يلزم أن تكون الأشياء المرتبة (أي التي ترتَّبت في الذهن) ليست ألفاظاً، لكنها معاني معقولة.

ولكل قدرة عقلية فَهَّامة للألفاظ ومعانيها أن توسِّع من الدلالات فيها ما تشاء بالطلاقة أحياناً، وبالتجوِّز والاستعارة أحياناً أخرى، فلا تقييد هناك على عقل ولا حجر على فهم إذا اتسعت أمامه المعاني يولِّدها من ذاته توليداً خلاَّقاً مُلهماً منها بمقدار ما يفهم، وبمقدار ما يعقل، وبمقدار ما يحسُّ ويشعر، وبمقدار ما اتسعت رؤيته الخاصَّة أمام قانون التأويل.

ولربما أعجزنا اللفظ في كثير من الأحيان عن التعبير عمَّا تجيش به مشاعرنا وخفايانا وضمائرنا، فلا نلبث إلاّ أن نسلِّم الأمر كلَّه للمعنى كما هو دون تقييده بلفظ محدود. والإحساس في مثل هذه الحالات يتحوّل في طوايا النفس الشاعرة إلى معنى ليس له حدُّ فيُعْرَبُ عنه ناطق بفم !

ومن منَّا لم يمر بحالات من الفرح والتَّرح ومن النشوة والسرور، ومن الغبطة والألم، ومن القبض والبسط، فلا يملك أمام هذه الحالات غير أن يردِّد بين جوانح ضميره قائلاً: "أعجزني اللفظ عن التعبير عمَّا أنا فيه". وهذه الجملة نفسها ليست بسيطة ساذجة، ولكنها "حالة نفسية" تدلُ على معنى ضخم كبير لا يحتويه اللفظ لما فيه من ثِقل المعنى؛ الأمر الذي يدعو إلى القبض، أو لما ينطوي تحته من توهج المعنى الداعي إلى البسط، كائنة ما كانت درجة ثقله أو توهجه، بين حالة ترتفع فيها النفس فتسبح عالية عن واقعها المعاش المحدود، وحالة أخرى تهبط فيها هبوط الحسرة والتألم من وقائع الأحياء، بغير استثناء واقع النفس ذاتها.

وليس أدَلُّ على ذلك من تأمل حالتين في النفس البشرية: الحالة الأولى قابضة، كما في "الموت". والحالة الثانية: باسطة، كما في "الحبّ". ولربما اختلطت الحالتان واتحدتا في لحظة واحدة، هى "لحظة الحبّ العنيف" حيث فناء التفكير والتعبير!

أما النتيجة الثانية: فتصل بنا إلى تحقيق الهدف من وراء كتابة تلك المقالات، لنلخِّصه في هذه العُجالة فنقول: ليس صحيحاً صحة مطلقة ولا حتى نسبيِّة، فيما لو وضعنا لغة الخطاب الصوفي في مواجهة ما كان يرمي إليه فلاسفة التحليل ممَّن دانوا بمذهب (الوضعية المنطقية logical positivisms)؛ من ضرورة تقييد "المعنى" بدلالته الحسية الواقعية وكفى ! إنهم ليجزمون جزم الواثق المطمئن على أن كل عبارة ميتافيزيقية هى من أحد هذين النوعين؛ فهى إمّا مشتملة على كلمة أو كلمات أتفق الناس على أن يكون لها مدلول بين الأشياء المحسوسة، أو مشتملة على كلمة أو كلمات أتفق الناس على مدلولاتها، لكنها وُضعَت في غير السياق الذي يجعلها تفيد معناها، وإذا فالعبارات الميتافيزيقية فارغة من المعنى؛ وليس لنا بدُّ من حذفها من قائمة الكلام المقبول؛ وهذا نفسه كلام غير مقبول !

لقد عرض الأستاذ العقاد لكتاب "المنطق الوضعي" للدكتور زكي نجيب محمود؛ فقال خلاصة المذهب الوضعي في بضعة سطور:  "أن المعنى لا يكون إلا لأحد شيئين: واقعة محسوسة أو عبارة من قبيل تحصيل الحاصل كإعادة المعنى بعبارتين مختلفتين، أو كقولنا 5×5= 25؛ فإن خمسة في خمسة هى بعينها خمسة وعشرون مكررة بعبارة أخرى، وما لم يكن المعنى واقعة محسوسة أو تحصيلاً للحاصل على هذا الأسلوب, فهو "لا معنى" أو هو مقابل لعبارة "الكلام الفارغ". فهذا هو مذهب المنطق الوضعي في بضعة سطور.

أمّا الرد عليه كذلك في بضعة سطور فقد استعاره العقاد من الدكتور "إريك جنجر" الذي قال إنّ المنطق الوضعي بهذا القياس نفسه "كلام فارغ"؛ لأنه لا يقوم على واقعة محسوسة ولا على تحصيل حاصل. وقول المنطقيين الوضعيين إن المعنى إمَّا أن يكون واقعة أو عبارة مكررة هو حكم فكري كسائر الأحكام الفكرية، ومنها قولنا إنّ المعاني لا تنحصر في الوقائع ولا في الحاصل المُعَاد بعبارتين متساويتين.

وزاد "العقاد" على هذا تفنيداً من عنده حين راح يقول إن الإنسان يستطيع أن يجزم بحقيقة لا صورة لها في الخارج على الإطلاق، بمعنى أنه ليس لها وجود في الواقع الحسي؛ لأنه يستطيع أن يقول "إنّ العدم مستحيل" ولا يمنعه من تقرير ذلك أن المحسوسات خلت من شيء يُسَمى العدم أو شيء يُسَمى المستحيل. ومن كان لا يجزم بأن العدم مستحيل، فعنده على الأقل أن العدم ممكن؛ ويجب عليه حينئذ أن يُفسر هذا الإمكان بالواقع المحسوس أو بتحصيل الحاصل، بل يستطيع الإنسان أن يقول إن "العدم مستحيل"، وأن ينتهي من هذه القضية إلى قضية أخرى وهى قوله:"إن الوجود أبدي لا أول له ولا أخر", وإن هناك موجوداً لم يكن معدوماً قط من الأوقات ويتقرَّر له من هذا الطريق شيء اسمه "الأبد" لا تقع عليه العين ولا يذهب الفكر إلى إدراك أوله أو آخره؛ لأن أوله لم يكن وآخره لن يكون ..!

فهاهنا فرقٌ كبيرٌ جداً بين تعريف المعنى أو الإقرار بوجوده، وذلك حين نجزم بوجود حقيقة لا صورة لها في الخارج، وبين انعدام المعنى ونفيه على الإطلاق؛ فإن المعنى؛ ولو فيما نراه نحن؛ أرفع وأسمى من أن نقصره على إشارات الواقع، فيما يشير إليه اللفظ المعين إلى شيء حسيِّ هو من دنيا الواقع ولا يزيد؛ فلا يكفي أن نحدَّ المعنى بأنه الإشارة إلى الحسّ من خلال الألفاظ المشيرة إليه، وإلا شطبنا بجرة قلم خبيثة على توجُّهات الروح الإنساني وعالم القيم ومسائل المصير. ولا يكفينا أن نحدَّه بأنه "التصوُّر الذهني" أو "المفهوم". ولا يكفينا مرة ثالثة، وهو الأهم والأخطر؛ أن نقول إن:"الجملة ذات المعنى هى التي تتضمن بطريقة مفرداتها وتركيبها، إمكان التحقق العلمي من صدْقها، وإلاّ فهى جملة بغير معنى..!!".

لا يكفينا من هذا ومن ذاك، أن نقيِّد المعنى بتلك الدلالات الواقعية ثم ننسى أو نتناسى أن اللفظ المفتوح هو ما يحمل من غرض وما يؤدِّي من وظيفة، ثم يبقى بعد هذا سياقه "المُعْنيِّ" سابحاً في توجُّهات الرُّوح الإنساني، يرتفع ما ارتفعت الأفهام والأذواق عن دنيا الواقع ومحدودية الواقعيين!

وعلى ما في الوضعية المنطقية من طرافة وجدية تصل إلى حد الصرامة المنهجية حيث تُجنِّب التفكير الفلسفي أسباب الغموض، وتدعو الفلاسفة إلى تحديد ألفاظهم وتحليل عباراتهم في محاولة تخليص العقل من أشباه المشاكل، غير أنها من جهة أخرى حين تحصر الفلسفة كلها في نطاق التحليل اللفظي والأشكال اللغوية وحدها وتستبعد قضايا الميتافيزيقا والأخلاق؛ فإنها إنما تقضي على خصوبة الفكر البشري وتنتهي في خاتمة المطاف إلى قتل الفلسفة نفسها، وحرمان التفكير الفلسفي من كل مضمونه، واستبدال قضايا الفلسفة الحيوية الهامة ببرنامج هزيل لا يؤدي إلا إلى إجداب الفكر.

ومهما اعترفنا بأهمية التحليل اللغوي فلا نستطيع, حسب نصّ الدكتور زكريا إبراهيم, أن نجبر الفكر البشري على الوقوف عند هذه التحديدات اللفظية والتحليلات المنطقية؛ لأن الفكر البشري في حاجة إلى فهم العلاقة القائمة بين نظام الأفكار وترابطها من جهة؛ ونظام الأشياء وترابطها من جهة أخرى. فليس ثَمَّة مُسَوِّغ لحرمان العقل الإنساني من التفكير في طبيعة العالم، والدلالة الموضوعية للمعرفة البشرية، والصلة بين الفكر والواقع، اللهم إلا إذا حكمنا منذ البداية بأن العالم نفسه ليس سوى مجرد تركيب عقلي أو بناء منطقي، يصطنعه كل فرد منَّا بالاستناد إلى خبرته الحسيّة. ولكن هذا بعينه هو موضع الإشكال الفلسفي؛ فليس في وسع الوضعية المنطقية أن تستبعد الميتافيزيقا، اللهم إلا إذا سَلَّمَت بنوع من "المثالية الذاتية" وكأن العالم المادي هو مجموع من البنايات المنطقية".

إنّ في اللفظة المفتوحة أجواءً تملأ النفس بنسيج المعاني "الفَوْقانيِّة"، بمقدار ما فيها من أجواء رحبة لمعانٍ خصبة من شأن من يتأمل ذاته ويستبطن دخيلته أن يدركها ويتمثّلها، وأن يقف عليها ويَسْتَكْنه حقائقها لو شاء أن يعرف ما للحقيقة من "تجريد" بغضِّ النظر عن وجودها الواقعي ممَّا من شأنه أن يُلمس باليد وينال بطرائق النظر المحسوس.

فليس الوجود الواقعي بقضِّه وقضيضه كافياً لاستجلاء الحقائق، كما هى عليه في عين وجودها واستتار جواهرها وإلاّ لكنَّا ضربنا بعالم الباطن عَرض الحوائط أجمعين، وعوَّلنا على الظاهر من الحياة والأشياء كل التعويل. وإنك لواجد من وراء اللفظ المفتوح جلالة الفكر ورحابة المطلق وأصالة الجوهر، على مقدار ما تجد أغوار الدخائل الرُّوحيَّة الباطنة تتحقق في عالمها حينما تتحقق في نفوس أهلها وقلوب أربابها القادرين على النفاذ إلى أسرارها والإمساك بزمامها كنفاذِ الحسّ وإمساك الملموس.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم