صحيفة المثقف

رِحْلَةُ الإطَاحَةِ بِالثَّوَابِتِ اللُّغَوِيَّةِ

بليغ حمدي اسماعيليحظى التراث العربي منذ تدوينه بثقافة يعدها البعض استثنائية وهي ثقافة المسكوت عنه، وما بين العلم الأسود الذي ينتشي بالشهادتين لا إله إلا الله محمد رسول الله وإشارة الأصابع الأربعة والمعروفة إعلامياً بشعار رابعة الذي يستخدمه المنتمون لجماعة الإخوان في الداخل والخارج مثل الهاربين بتركيا وماليزيا وقطر، والعرب مهووسون بثقافة الترميز والتشفير لكافة تفاصيلهم اليومية السياسية والاجتماعية، بل والعاطفية أيضاً من مثل رسم القلب باليدين تعبيرا عن المحبة والوله والغرام. وانتقلت ثقافة المسكوت عنه والترميز بالإشارة إلى ملاعب الرياضة وساحاتها فنرى اللاعب عقب إحرازه لهدف عشوائي يقفز في الهواء ويطير معلنا فرحته بإشارة ما ربما لا تحمل أية دلالة سوى أنه لم يصدق إحرازه للهدف.

والرمز قد يكون دينيا كالهلال والنجوم والفانوس لدى المسلمين والصليب عند الأقباط، والنجمة عند اليهود فضلا عن الشمعدان، وفي الأغلب ما يكون الرمز والشعار سياسياً أو ذا مغزى أيديولوجياً يعبر عن طرح فكري أو ثقافة مرحلة أو توجه أفراد بعينهم، أو معبراً عن ردة فعل إزاء موقف سياسي معين. وربما أن الفرق الكلامية التي انتشرت بكثرة وقوة وسرعة لم تكترث كثيرا أو قليلا بثقافة الهمس الإشاري لاستخدمت الرموز أيضا للتعبير عن أفكارها وآرائها المضطرمة.

وهناك ثمة رموز أخرى تظل دلالتها اجتماعية ولا تتغير بتغير الزمن أو الموقف مثل رمز الأفعى الذي يشير إلى مهنة الصيدلة وصناعة الدواء، وكذلك الميزان الذي يعبر عن القضاء بجناحيه القضاة والمحامين، والقناع الخشبي أو البلاستيكي الذي يعبر عن المسرح وعالمه التمثيلي، ومن هنا يمكن اعتبار الشعار أو الرمز مفتاحاً للتواصل من جهة، وتعريفاً لفصيل أو قطاع مهني من جهة أخرى. باختصار شديد يمكننا القول بإن الشعار أو الرمز الفاعل يعبر أحياناً عن عقائد أممية، ومثل هذا ما أشار إليه شوقي رافع في دراسته المعنونة بعالم تحكمه الرموز، من أن السلطان عثمان الأول هو أول من قرر اتخاذ صورة الهلال رمزا لحكمه ودولته المتسعة الأركان، ويحكي نقلاً عن موسوعة جينيس العالمية أن سبب اتخاذه رمز الهلال جاء بعد أن شاهد في الحلم هلالا يمتد من مشرق الأرض إلى مغربها، وهكذا بدأ في العام 1299 فتوحاته لتحقيق حلمه.

 أما في عهد السلطان الاستثنائي محمد الفاتح وبعد أن نجح في فتح القسطنطينية عام 1453 تحول الهلال إلى رمز مزدوج لدى الإمبراطورية العثمانية كما لدى البيزنطيين وأضيفت إليه النجمة كدلالة على الاستقلال والسيادة. وأيضاً من الرموز الأممية النسر المصري، ونخلتي المملكة العربية السعودية، والصقر الأمريكي وغير ذلك من الرموز التصويرية التي تشير إلى دولة بعينها أو سيادة قومية. وأحياناً يعبر الشعار أو الرمز عن تيارات سياسية حزبية مثل شعار السيفين يتوسطهما مصحف وهو شعار جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، أو كنوع من أنواع ممارسة التأييد الصامت لموقف سياسي أو رفضه أيضاً.

والشعار في مصر تحول منذ ثورة الخامس والعشرين إلى رمز له بريق يخطف الأذهان مثلما يطيح بالأبصار من شدة تأثيره، وهو بحق وثيق الشبه بمصطلح المفكرين الأحرار، وهو المصطلح الذي أطلقه جيل دولوز في توصيفه لجان بول سارتر حينما رفض جائزة نوبل، من حيث إن كليهما (الشعار والمفكر الحر) لهما خاصيتان، الأولى نوع من التوحد الذي يلازمهما في كل حال، والثانية شئ من الاضطراب المنبعث من فوضى العالم الذي ينبجسان منه، فالشعار والكاتب الحر لا يتكلمان باسمهما الخاص لكنهما يعبران عن عالم خاص ورؤية متمايزة .

ومواطن ما بعد ربيع الثورات العربية أصبح مهتماً بامتلاك رمز شخصي أو شعار جمعي يعبر عن المرحلة التاريخية التي مر بها حتى وإن لم يشارك في إحداثياتها من باب أن حدثاً ما مهماً يمكن أن يضيف شيئاً إلى رصيده الحياتي، وربما هذا المواطن قد أدرك أن حضوره ليس بكافٍ، لذا فاستجدى شعاراً ما يكون بديلاً مماثلاً لحضوره. والشعار اليوم أصبح العنوان الذي يعبر عن مدلولات ساكنة أو ساكتة تبوح بمعان أو إشارات يمكن أن تكون عالمية كحرف  f  الدال على شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك، وحرف  t  الذي يشير إلى شبكة تويتر التواصلي، وفي أحيان أخرى يكون الصليب الملعق على الرقبة مدلولاً لهوية دينية وهكذا، ويكاد يكون الشعار السياسي وسيلة نشطة في تسهيل ونقل المعرفة والمعلومات.

والشعار قبل أن يكون الأكثر حضوراً في المشهد السياسي الراهن كان له حضور آخر في خمسينيات القرن الماضي، حيث نصت المادة التاسعة والعشرون فقرة 3 من قانون مباشرة الحقوق السياسية 73 لسنة 1956 على إلزام اقتران رمز أو لون محدد لكل مرشح ينتوي خوض العملية الانتخابية للفوز بعضوية البرلمان، والسبب في ذلك هو ارتفاع نسبة الأمية في مصر آنذاك، ويظل الرمز منذ ذلك اليوم معبراً عن الانتماء السياسي والحزبي.

وقد يأخذ الشعار أو الرمز دلالة لفظية غير الصورة، وعادة ما يكون هذا الاستخدام نابعاً من فورة الحراك السياسي واحتدام الصراعات السياسية بين التيارات والفصائل والجماعات المتناحرة بشأن قضية أو معركة حزبية أو لتقرير مصير إزاء ثورة، فوجدنا شعارات لفظية تهبط على أرض مصر معلنة عن معان سياسية متباينة، مثل كلمة تمرد التي أشارت حينئذ على تمرد الشعب على استمرار نظام الرئيس السابق محمد مرسي، وواجهتها حملة تجرد التي تعد في ذاتها شعاراً مماثلاً في الاستخدام متبايناً ومتمايزاً في الدلالة .

وبعد الانتفاضة الشعبية التي حدثت في الثلاثين من يونيو والمعروفة بثورة الثلاثين من يونيوـ وهذا يدفعنا إلى التأكيد على افتقار الشعب المصري لإطلاق مسميات على أحداثه المهمة رغم أن العقل المصري بطبيعته مهووس بالمسميات والتصنيفات وإطلاق الأسماء والمعاني على الأشياءـ وفض اعتصامي رابعة العدوية وميدان النهضة أصبح الشعار السياسي هو الأكثر حضوراً والأعلى تزامناً مع كافة ممارسات المشهد السياسي حتى وقتنا الآني. وصار التلميح دون التصريح هو سيد الموقف في الشارع المصري، ورغم أن المصريين بعهودهم السياسية والثقافية الضاربة في القدم حضارة وتميزاً وبريقاً، إلا أنهم قرروا أن يصنعوا عقلاً جمعياً يقوم على استخدام الرمز، ولهذا أسباب وعوامل منها أنهم ربما فقدوا الثقة في الخطب الرنانة والشعارات اللفظية التي استهلكت بفضل الاستعمال غير الواعي مثل شعارات السقوط لحكم المرشد أو العسكر أو مبارك، ومنها أن استخدام الصورة السياسية كعلامة الأصابع الأربعة على سبيل المثال يعد اختزالاً مكثفاً لأحداث طويلة، كما أن رفع بعض الصور الشخصية للزعيم الراحل والخالد جمال عبد الناصر أو الفريق عبد الفتاح السيسي هو رمز اختزالي لبطل شعبي في مواجهة جماعة سياسية تريد استقطاب الوطن واستلابه بغير شريك لها.

وفي مصر تحديدا عقب العزل الشعبي لمندوب جماعة الإخوان في مصر محمد مرسي استغل المؤيدون لفكر هذه الجماعة يوم الجمعة لإقامة تظاهرات منها ما كان سلميا ومنها ما اتسم بالتطرف والعنف وإحداث التخريب والتشويه، وتم ترميز كل مظاهرة باسم يختلف عن الأخرى مثل جمعة الحجاب وجمة الثأر وجمعة النقاب وهكذا تم تشفير المظاهرة بثقافة لفظية تعبر عن دلالتها المقصودة .

وإذا كان الشعار والرمز في بعض الأحيان كلاماً مسكوتاً عنه أو همساً سياسياً مثل الإشارة التي أشار بها جورج بوش في حربه غير المقدسة ضد الرئيس العراقي صدام حسين حينما وضع الإبهام فوق الأنف وتعني السخرية من الآخرين واصفاً بها طريقة تعامل صدام حسين مع العالم، أو علامة النصر وهي رفع السبابة والوسطى مع تباعدهما رغم أنها تستخدم أيضاً كنوع من الإهانة أيضاً حينما يكون الكف في مواجهة الناس، فإن الشعار السياسي اليوم لم يعد همساً أو نطقاً مكتوماً لا صوت له. بل يمكننا التأكيد على أن الرمز دخل معركة بغير استئذان مع الكلام السياسي المعتاد وصار الحصان الأسود في كافة مشاهد الحراك السياسي في هذه الآونة.

واليوم بات كل فصيل يستخدم شعاراً أو رمزاً سياسياً يخدم قضيته أو يعبر عن حالاته السياسية يبحث عن أوجه تدعيم من الداخل والخارج لخدمة أهدافه، فوجدنا على سبيل المثال أنصار جماعة الإخوان المسلمين والفصائل المتحالفة معها يفتشون في كل بقاع الأرض عن أية صورة لفنان أو لاعب كرة أو زعيم سياسي أو عارضة أزياء أو حتى صبية من البنغال أو كمبوديا يرفعون أصابعهم في إشارة إلى رمزهم المقصود به ذكرى اعتصام رابعة العدوية، وهم لا يدركون أن هذا الاستجداء قد يضعف قضيتهم بل هو عامل أساسي وركيزة رئيسة في إضعاف موقفهم في الوقت الذي هم بحاجة ماسة إلى التصالح والمواءمة مع رغبات القطاع العريض من الشعب المصري، وخصوصاً أن بعض الصور التي تتناقلها الخلايا الإلكترونية الإخوانية لمن يقوم بهذه الإشارة لا ترتبط بالأساس بالشأن المصري، أو بالمعركة الدائرة على المشهد السياسي الداخلي، بجانب أن المواطن المصري يتميز بقدرة فائقة في التفتيش والتنقيب وسبر أغوار المجهول، فنكتشف أن هذه صورة لفنان أجنبي من دعاة زواج المثليين، وهذا لاعب كرة لاديني، وتلك عارضة أزياء متهمة بازدراء الأديان وكراهية العرب، وهكذا تلعب الصور التي يستعين بها هؤلاء دوراً مضاداً وتستحيل نيراناً صديقة.

ورغم ما للشعار من مزايا وما عليه مثالب، فإن السياسة والشعار الرمزي وجهان لعملة واحدة، ويبدو أن السياسيين بمساعدة علماء الاجتماع وجدوا أن خطاباتهم لا تكفي، ولا تفي بجموح العواطف والمشاعر السياسية المحتدمة لدى مواطنيهم، وأن عصراً كهذا الذي نحياه يتسم بالسرعة الاستثنائية المقرونة بزيادة معدلات إصابة المواطن بالملل وهروبه المستدام من الرتابة والروتين اليومي، كفيل بجعل الشعار أو الرمز هو الراعي الرسمي للهمس السياسي.

منذ أن قامت الثورات العربية في المنطقة وكانت اللغة هي الهواء الذي يتنفسه الثوار في الميادين وهم يهتفون ضد أنظمتهم السياسية الفاسدة، وتحققت وقتها مقولة العالم الاجتماعي العربي ابن خلدون بأن اللغة أدوات تشكل الحياة، وثمة علامات ودلائل هي التي أكدت هذه المقولة مثل الشعارات التي كان ينادي به ثوار الميادين، واللافتات التي كانت تعلو البنايات والمنصات التي شيدها كل من وقف بحزم وقوة وعناد أمام هراوات الأمن . وبمجرد أن بزغت شرارة الثورة الأولى حتى تحررت اللغة من قيود مرجعيتها المركزية المتمثلة في المجمع اللغوي أو الجامع والمدرسة والجامعة ووسائط الإعلام وصارت ملكاً مشاعاً بين مستخدميها دون وصاية رسمية من مؤسسة أو فصيل لغوي يدعي لنفسه شرف الاستخدام .

ومنحت الثورات العربية اللغة حق الاستخدام الفصيح لها دون رقابة أو متاريس هيولية خيائلية تنصب أمام مستخدمها فصار شاعراً مرة، ومرة أخرى تقمص دور الخطيب السياسي حينما رصد حالة وطنه بالشعار الأكثر تداولاً ( الشعب يريد إسقاط النظام )، وربما لأول مرة يكتشف مجمع اللغة العربية والمؤسسات التعليمية الرسمية كالمدرسة والجامعة عجزها الصارخ في الدور الذي لعبه الميدان في تطويع واستخدام اللغة وظيفياً لتحقيق مطامحه الثورية بعيداً عن النظريات اللغوية الكاذبة حيناً والتنظيرات المقتبسة والمسروقة من بيئات غير مماثلة حيناً آخر .

ويمكننا إيجاز هذا الدور التاريخي للميدان في تحرير اللغة من قيودها الصارمة بالاستناد إلى مقولة إجنازيو بوتيتا شاعر صقلية حينما قال : " إن الشعوب يمكن أن تكبل بالسلاسل وتسد أفواهها، وتشرد من بيوتها ويظلون مع ذلك أغنياء، فالشعب يفتقر ويستعبد ما إن يسلب اللسان الذي تركه له الأجداد عندئذ يضيع إلى الأبد" . ولكن الشعوب العربية التي دشنت تاريخها المعاصر بثورات مثل مصر وليبيا وتونس واليمن استطاعت الفكاك من شرك ضياع اللغة التي تمثل الهوية في حقيقة الأمر، وأنا لا أنكر حجم الشماتة التي رأيتها بعيون كثيرين ضد رجال اللغة الأكاديميين وهم يراقبون في خجل كيف غدت المؤسسات اللغوية الرسمية ضامرة السلطات .

وتنوع وتباين النداءات الثورية بالميادين تجعلنا نستبين مستوى التخاذل الأكاديمي في تعليم وتعلم اللغة العربية، وفي الوقت الذي ظن أساطين اللغة أنها نظام معقد ومتشابك أعطى الثوار لهم درساً عميقاً في تداولية اللغة وأنهم أكثر قدرة في إدارة فن النظم اللغوية المعقدة، بل لقد تجاوز الثوار هذه القدرة إلى تطبيق نظرية الدال والمدلول والعلامات اللغوية التي عبر عنها عالم اللغة دي سوسير منذ قرن وهلع وهرع نحوه آلاف اللغويين دون روية حينما استطاعوا أن يعبروا عن مطامحهم وأحلامهم الثورية عن طريق كلمات محددة مثل : ارحل، فلول، محظورة، يسقط، كفاية، الفرعون، التوريث، العسكر، المرشد، وأخيراً الاستبن، وغير ذلك من الكلمات التي تشير إلى مدلولات كثيرة وعميقة يمكن توصيفها في سطور طويلة كثيرة .

وفي الوقت الذي أرهق فيه اللغويون أنفسهم في تجديد وتطوير وتجويد وإصلاح اللغة، نجح الثوار بأطيافهم المتباينة وأيديولوجياتهم غير المتطابقة في تثوير اللغة حينما نجحوا في استقطاب الجماهير وإلهاب مشاعرهم عن طريق استخدام كلمات منفردة ولكن بطريقة ودلالة جمعية جماعية مثل كلمة (باطل)، و(عصيان)، و(إضراب)، و(العزل) وأيضاً حينما ابتدع شباب الثوار لغة مشتركة تمثل بعض المصطلحات السياسية الجديدة التي غفل عنها مجامع اللغة والمؤتمرات اللغوية الهزلية التي كانت تعقد ولا تزال بالجامعات المصرية البعيدة أيام مبارك عن أي تصنيف عالمي والأكثر بعداً وغربةً عن أية محافل علمية أكاديمية بعد الثورة بفضل اللغط السياسي الذي ألقى بظلاله على مناح أخرى كالتعليم .

هذه اللغة المشتركة هي التي أفرزتها الحوارات المفتوحة التي كانت تنعقد بين الثوار في الميادين وهي جملة حوارات تمت بين أطراف متنوعة مشتركة في الهدف وهو إسقاط النظام الحاكم ومتباينة في المطامح والمطالب بين العيش والحرية والعدالة الاجتماعية وطبيعة النظام الحاكم في المستقبل وكنه الدستور وهويته بين ديني ومدني. فسمعنا عن كلمات لم نكن نسمعها سوى في البرامج السياسية المتخصصة مثل ائتلاف سياسي، وأيديولوجية، وتحالف، ودولة مدنية، والفصل بين السلطات . وربما لأن الشباب المصري الذي نشأ في ظل التعليم الوئيد طيلة ثلاثين عاماً لم يكن ممارساً للفعل السياسي بالصورة الطبيعية بل كان أغلبهم مجرد عرائس متحركة تظهر في انتخابات الجامعة أو فيما يسمى ببرلمان الشباب، لذا فكان هؤلاء أكثر عطشاً لممارسة السياسة بصورة حقيقية وطبيعية ولكن هذه الممارسة جاءت في ظروف استثنائية خاصة.

وبمتابعة أيام الثورة يوماً بعد يوم كشاهد عيان أدركت وأدرك كثير غيري أن اللغة العربية تدل دلالة قاطعة على الحياة العقلية من ناحية إن لغة كل أمة في كل عصر مظهر من مظاهر عقلها وتفكيرها، ولم تخلق اللغة دفعة واحدة، ولم يأخذها الخلف من السلف الصالح كاملة، إنما تخلق أو يخلق الناس في أول أمرهم ألفاظاً على قدر حاجاتهم، فإذا ظهرت أشياء جديدة خلقوا لها ألفاظاً جديدة، وإذا اندثرت أشياء قد تندثر ألفاظها معها، وهكذا نرى اللغة في حياة وموت مستمرين .  وهذا ما أشار إليه " أوليري " في كتابه " العربية قبل محمد "  Arabia before Mohammed  من حيث إن الاشتقاقات والتعبيرات اللغوية فهي أيضاً تنمو وترقى تبعاً لرقي الأمة، ويقول أوليري : " ولما كان هذا أمكننا إذا أحضرنا معجم اللغة الذي تستعمله الأمة في عصر من العصور أن نعرف الأشياء المادية التي كانت تعرفها والتي لا تعرفها " .

وليت أقطاب وعلماء اللغة المتوارين خلف مكاتبهم الخشبية العتيقة كانوا أكثر حضوراً بين ثوار الميادين وهم ينحتون مفردات وألفاظاً جديدة ويحيون كلمات ظلت خاملة غير نشطة لعقود طويلة من الاستخدام والممارسة، والعجب أن استخدام الثوار الشباب لهذه الكلمات والمفردات جاء عن طريق المصادفة دون الالتجاء بقاموس لغوي أو بأوراق جامعية في صورة مذكرات أكاديمية تنتهي صلاحيتها بانقضاء الامتحان، فرأينا هؤلاء الشباب يرددون كلمات مثل الراديكالية وهم في استخدامهم لها يفرقون في ماضي الكلمة وحاضرها، ماضيها الذي يعني تغيير النظام الاجتماعي والسياسي من جذورهما، وحاضرها الذي يشير إلى التطرف والغلو وضيق التفكير. وأيضاً من المواضعات التي تستحق الرصد وتأويلها هو حديث الشباب الثائر عن الشرعية كمفهوم سياسي وأيديولوجية تقتفي أثر الديموقراطية ومحاولة إيجاد آليات مباشرة لتطبيقها .

وأكاد أجزم أن أكبر أستاذ لغوي ممن تتلمذت على يديه في فترة دراستي الجامعية لا ولن يستطيع أن يقدم لك توصيفاً نموذجياً لهذه الكلمة الساحرة مثلما استطاع هؤلاء الثوار أن يجسدوها في كلمات وعبارات دالة مستخدمين بعض أدوات النهي والنفي بغير كتاب كاشف مثل (لا لحكم العسكر) و(لا ولاية للمرشد) أو استخدام صور لغوية استفهامية مثل (أين الحق والعدل؟) أو صيغة الأمر مثل (عودوا لثكناتكم)، وربما سيغضب مني أساتذتي وقليل من زملائي حينما أقول إن الفرق بين استخدام اللغويين والثوار للغة هو درجة الشرعية في الاستخدام، فالأول استخدم اللغة بصورة فردية قاربها الظن والتشكيك أقرب من اليقين والثبات على خلاف استخدام الثاني لها، بالإضافة إلى أن الميدان والثورة أعطتا اللغة قدراً هائلاً من الاستمرارية والتداولية في الاستخدام ومن ثم التجدد والخلق اللانهائي للمفردات. كما أن بعض الكلمات التي ظلت حبيسة الأوراق الأكاديمية مثل الشراكة والمواطنة دون توصيف دقيق لهما، فإن ثوار الميادين عبروا عن هذه الكلمات نطقاً وكتابة وتصويراً فنياً بمشاركة الجسد أيضاً فوجدنا لافتات تقول : الشعب والجيش يد واحدة، أو مسلم ومسيحي يد واحدة، بغير هرطقة لغوية مجردة لا تعرف للواقع يقيناً أو حتى مقاربة.

ثمة دوافع هي التي جعلتني أجتر بعضاً من ذكريات الممارسة اللغوية لثوار الميادين المصرين من أبرزها ما تقوم به الآن جماعة الإخوان المسلمين من محاولات جاهدة مستميتة بصور شتى مثل المنشورات والملصقات والصيحات الصوتية بهدف استقطاب أكبر عدد من هؤلاء في انتخابات جولة الإعادة لصالح مرشحها الدكتور محمد مرسي، ولا شك أن مثل هذه المحاولات الدعائية مقبولة من حيث الآلية، أما من حيث الفكرة والمضمون فإن الجماعة ترتكب نفس أخطاء الماضي لا من حيث الممارسات السياسية فحسب، بل من حيث المراهنة على فكرة الاستبعاد الاجتماعي لها من ناحية، ولكافة الفصائل الثورية من ناحية أخرى، فهي لأنها لم تكن من أولى الفصائل السياسية التي نزلت إلى الميادين الثائرة لذلك فهي لا تزال بمنأى عن اللغة التداولية والقاموس السياسي الذي صنعه شباب الثورة، ورغم ذلك تصر الجماعة على مخاطبة هؤلاء بنفس اللغة القديمة والتي لم تعد صالحة لزمان ومكان الميدان الثائر، كما أن الجماعة التي تنتظر بعد أيام قراراً بشرعيتها السياسية  تحاول أن تخاطب الشباب بخطاب سياسي مدعوم بالأيديولوجية الدينية وهو أمر لم يعرفه هؤلاء الثوار طيلة ثمانية عشر يوماً هي فترة إسقاط النظام السياسي والتي واكبها سقوط المئات من المصريين بغير تمييز أو استبعاد ديني.

وإذا كانت الجماعة قد أدركت أن تركيبة القوى السياسية في المجتمع المصري قد تغيرت بعد ثورة يناير، فإنها لم تعي ولم تفطن حتى لحظة الكتابة هذه إلى أن لغة الخطاب السياسي قد تغيرت أيضاً، ولم تعد مفردات الماضي جديرة بالبقاء، وأن هذا الشباب الذي كان في نظر البعض قديماً لم يكن سوى مجموعة احترفت وقت الفراغ وكيفية ضياعه لم يعودوا هكذا، بل هم في وعي كاف بمفردات المشهد السياسي وعلى درجة عالية في التفرقة بين جماعة ومرشد ورئيس، وإذا كانت الجماعة تقيم جسوراً من التواصل مع الثوار الذين صنعوا لغة تعادل الثورة ذاتها، فهم لم يدركوا حتى اللحظة الراهنة أن هذا الفصيل السياسي قد تحرر من ثقافة السمع والطاعة المطلقة وأنه اكتسب شرعية من قوة الثورة ذاتها وبالتالي هم لم يعرفوا ثقافة الحظر والمنع وتحرروا مطلقاً من احتلال الخوف والقمع.

وحقاً لقد ظننت أن ما درسته بالجامعة وبقيت أعواماً كئيبة أردده بغير هدف أو روية من نظريات لغوية عقيمة تفتقد إلى الوظيفية والممارسة والتداولية كان بحق علماً ومعرفة، حتى سمعت ورأيت لأول مرة اللغة تركض وتجري وتصرخ وتخلق فضاءات تستحق الرصد والتحليل، إنها لغة الثورة في الميدان.

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم