صحيفة المثقف

"فردقان" رواية وثائقية لا تتسع لشطحات الخيال

عدنان حسين احمدمن روايات القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2020

لا تُشكِّل رواية "فردقان" ليوسف زيدان الصادرة عن "دار الشروق" في القاهرة إضافة نوعية لمنجزه الروائي السابق، فقد استثمر التاريخ في روايته "عزازيل" وكتب السيرة الذاتية للراهب المسيحي المصري "هيبا". كما أنّ توظيف التاريخ ليس جديدًا فقبل بضع سنوات كتب الروائي السعودي محمد حسن علوان رواية "موت صغير" وهي سيرة متخيلة لمحي الدين بن عربي منذ ولادته حتى وفاته حيث توقف عند المحطات الرئيسة في حياته الشخصية والإبداعية وهو نفس المنحى الذي اتّبعه زيدان في كتابة السيرة الروائية للعالِم والشاعر والفيلسوف والطبيب بن سينا. تُرى، ما الجديد في هذه الرواية؟ وما الذي سيجده القارئ حين يعود مع كاتب النص إلى القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، وتحديدًا السنوات الـ 56 التي عاشها بن سينا بين عامي 980 و 1037غير الحروب والغزوات التي كانت تنشب أيام الخلافة العبّاسية ضد البلدان والممالك المجاورة للعالم الإسلامي أو ضمن حدوده الجغرافية آنذاك؟

تتألف الرواية من سبعة فصول وهي "المزدوج، شيخ الرُستاق، رَوَان، مَاهيار، مَاهتاب، سُندس وحيّ بن يقظان". ولو تأملنا كل فصل على حدة لوجدنا هيمنة التاريخ بأحداثه وحروبه، والحُب بشكله الإيروسيّ المتعالي، والأنا الإبداعية التي تفحص الذات والوجود معًا غير أنّ النص السردي ظل عالقًا بالتاريخ ومتشبثًا به وأنّ نسبة الارتدادات على الزمن الحاضر قليلة إذا ما استثنينا فقط الحروب والشقاقات الدينية والمذهبية التي يمكن لها أن تتكرر الآن خارج إطار الرواية التاريخية سواء وقف الروائي على الحياد أو انتصر لهذا الطرف أو ذاك.

تتحرك الأحداث والوقائع التاريخية ضمن السردية الوثائقية المتعارف عليها ولا تستطيع مخيّلة الكاتب أن تضيف شيئًا جديدًا خارج إطار الحروب الداخلية والخارجية التي يعرفها كل من أطلّع على تاريخ الدولة العبّاسية، كما أنّ السيرة الذاتية؛ الأدبية والعلمية لشخصية بن سينا لا تتسع لشطحات الخيال فهي معروفة وكُتب عنها الكثير، بل أن هناك منْ كتب نصوصًا روائية عنها مثل رواية "الرئيس" للكاتب المصري محمد العدوي، و "ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان" للروائي الفرنسي جيلبرت سينويه فلاغرابة أن يتوقف يوسف زيدان عند أبرز المحطات الأدبية والعلمية والفكرية في حياة ابن سينا القصيرة نسبيًا وهي معروفة بالنسبة للقارئ المتخصص ولا جديد فيها تحت الشمس بدءًا من الشعر والموسيقى والقصة الرمزية، مرورًا بالمنطق والفلسفة والرياضيات، وانتهاءً بالطب والفلك والطبيعيات إضافة إلى علوم أخرى كثيرة لا يتسّع المجال لذكرها جميعًا فمن الطبيعي أن يركزّ الكاتب على بعضها أو الأهمّ فيها لكنه يظل، في خاتمة المطاف، محصورًا في إطار التوثيق و "التأرخة"، ولم يبق أمام زيدان سوى التعويل على علاقات الحُب التي خرجت عن إطارها العذري وسقطت في فخّ الرومانسية المُغرقة آخذين بنظر الاعتبار أنّ القارئ المتخصص يعرف سلفًا ولع ابن سينا بالنساء الجميلات، ويقال إنّ له امرأة في كل مدينة مرّ بها وعاش بين ظهرانيها. وأولى هذه النساء الجميلات بحسب النسق السردي هي رَوَان التي التقى بها مُصادفة حين طلبت منه الخاتون، والدة مجد الدولة، حاكم الريّ "أن يُعالج قريبًا لها صار يحبو على أربع، ويُصدر أصواتًا كالخوار، ويقول لمن حوله إنه بقرة، وعليهم أن يذبحوه" إلى آخر هذه القصة المعروفة أيضًا فيعالجه بطريقة نفسية ناجحة فيَهِب له والد المريض الجارية رَوَان التي شُغفت به، فنعرف أنها مُولَّدة من أمِّ أَمَة وأبٍ مملوك، وكلاهما من قبائل جكَل التركية وهي الآن يتيمة الأبوين لكنها شابة حسناء وحضورها يبهر الروح. وكما تقول روان نقلاً عن سيدتها:"أنّ الأنثى حين تُحبّ تُصبح أجمل". ومع مرور الأيام عرف ابن سينا أن روان لا مثيل لها ولا شبيه! ثم انتقل إلى قزوين ومنها إلى همذان، وعالج حاكمها أبا طاهر شمس الدين البويهي الذي عيّنه وزيرًا فانقلب هذا المنصب وبالاً عليه بعد أن أنجز له كتاب "تدبير الجند والمماليك . . ." حيث انقضّ عليه بعض العسكر وأوسعوه ضربًا تاركين إياه عند حافة المدينة لكنه اختبأ عن ابن دخدوك 40 يومًا وحينما عاودت الأمير شمس الدين العلل أعادوه للوزارة ووعدوه بأن يستعيدوا روان لكن تبين أن الخاطف من سفلة القوم الذي ذهب بعيدًا إلى أسدآباد، ثم قصد كرمان، وقيل إنه ينوي اللحاق بجيش محمود الغزنوي فأصبحت روان أثرًا بعد عين.

أما مَاهْتاب فهي أنثى تامة الجمال، ولعلها الأثقف بين الفتيات والنساء اللواتي أحبّهن فقد درست مع أخيها ماهيار السريانية والعربية على يد أهارون اليهودي، وقد جلبها شقيقها ماهيار إلى قلعة فردقان لكي يملي عليها ابن سينا كتاب "القانون في الطب" فيُعجب بشخصيتها وثقافتها، ويقع في حبها، فتبادله الحُب بحب أعنف لكنها تُقيّده بعدة شروط منها أن يبوحَ لها بكل أسراره، وأن يحكي لها عن المرأة التي جعلته يكتب عن الإثم، وأن يقطع لها عهدًا بأن يكتب لها عن الحكمة الشرقية وما إلى ذلك. ومن خلال رغبة ماهتاب نتعرف على سُندس التي كانت تقطن في بُخارى في المنزل الذي يلاصق منزلهم من الخلف، وكانت متزوجة من تاجر الحبوب الطاعن في السن خليل الخيوقي الذي يفارق الحياة فتقع في حُب ابن سينا وصارا يختليان كل ليلة. ثم طلبت منه أن يتزوجها لكن أمه اعترضت وطلبت من سندس أن تبتعد عن ابنها بعد أن وصفتها بالمرأة الخليعة الغارقة في الإثم والتي ستموت على يد أحد العبيد في فاجعة لم يستطع نسيانها أبدًا.

يركز زيدان في هذه الرواية على فترة الـ 115 يومًا التي سُجن فيها ابن سينا في قلعة "فردقان" والتقى في أثنائها بشخصيات مهمة مثل منصور المزدوج، وشيخُ الرُستاق، والزعّاق، وماهيار وشقيقته ماهتاب، ورغم أن "المزدوج" آمر القلعة لم يعامله معاملة السجناء إلاّ أنه يظل سجينًا أو منفيًا في أضعف الأحول إثر الخلاف السياسي الذي نشب بينه وبين أمير همذان "سماء الدولة". وفي هذه القلعة التي ستتحول إلى شخصية مكانية بامتياز يسرد بن سينا أو الشيخ الرئيس، كما يُلقّب، سيرة حياته العاطفية والعلمية والأدبية مُختتمًا إياها بقصة "حيّ بن يقظان" التي رأت ماهتاب أنّ القسم الأخير منها مُلغزٌ، شديدُ الغموض. وحينما يوّدعها على أمل اللقاء مُجددًا تقول له بثقة كبيرة:"أتمنى ذلك، يا فيلسوف، وأشكُّ فيه".

على الرغم من المادة السردية المُستنفَدة، والأحداث المُستهلَكة التي فقدت بريقها وقدرتها على الإبهار إلاّ أن الثيمات الفرعية قد انتشلت الرواية من رتابتها السردية، ففي مقابل القتل والنطع والدماء الغزيرة التي سالت في القصور، والميادين العامة، وسوح الوغى إلاّ أن الرواية تمجِّد الأدب والفن والعلوم باختلاف أنواعها، كما أنها تنبذ الطائفية، وتنتقد الفرق العقائدية المتناحرة فيما بينها، كما كان الشيخ الرئيس فرحًا بإعتاق الرقيق ويؤمن بأنّ العبودية هي نقيض الطبيعة الإنسانية. وعلى الرغم من استيزاره أكثر من مرة إلاّ أنه لم يحب الملوك والسلاطين الجهلة الذين يقتلون مخالفيهم. لم يفكِّر الشيخ الرئيس بأن يكون ذات يوم داعية للمذهب الاسماعيلي، رغم أنها كانت أمنية والده الرئيسة، لأنه كان يعتقد في قرارة نفسه بأن المذاهب صارت بابًا لتفرقة المسلمين، وأنّ العلم هو الذي يقرّب بين الناس، وينجو بهم من التعصب الديني الأعمى.

يمتلك يوسف زيدان لغة سردية سلسة تستجيب للزمن الروائي الذي يستنطق التاريخ ولكنه لم ينجح في تشييد بنية روائية ضمن قالب معماري رصين الأمر الذي جعل نصه السردي مُسطّحًا وكأنه تجميع لأحداث متناثرة لم تُطبخ على نارٍ هادئة، ولا تنطوي على رجع الصدى الذي نعرفه في النصوص الإبداعية الأصيلة التي تعْلق بذاكرة القرّاء ولا تغادرها بسهولة.

 

عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم