صحيفة المثقف

تردد أدلالة الإمامة بين القطعية والظنية

بدر الدين شيخ رشيدمقاربات بين رؤيتي الباقلاني والشريف المرتضى:

«كل خلاف وقع بين المسلمين- سواء في الفقه، أو في التفسير للقرآن، أو في فهم السنة النبوية الشريفة- منشؤه وسببه الخلافة».محمد التيجاني السّماوي التونسيّ[1]. 

 إن خلاف الإمامة بين الأشاعرة والإماميّة يدور بين «النص» و«الإختيار»، حيث إن النص يقصد عند الإمامية، أن تعْيِيْن الإمام يكون إما من الرسول أو من الإمام الذى قبله. وأن مفهوم إختيار الإمام عند الأشاعرة، يعنى أنه مفوض إلى أهل«الإجماع».

 وبناء على هذه الجدليّة حول إشكالية النص والإختيار، نفت الأشاعرة أدلة الإماميّة التي إستدلت بها على إمامة علي بن أبى طالب بعد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إعتبرتها أدلة ظنية لا تفيد اليقين والقطع من ناحية الدلالة. بينما إعتبرتها الإماميّة نصوصا تدل على إمامة علي رضي الله عنه.

 فالتحقيق في هذه الجدلية بين الأشاعرة والإمامية سوف نلقى الضوء على بيان ضوابط التفرقة بين مفهوم الدليل اليقينىّ وبين مفهوم الدليل الظنىّ عند بعض متكلمي الأشاعرة والإماميّة؛ لأن جدليّة النص عندهما تدور مدى إفادة تلك الأثار التى تستدل بها الإماميّة، على إمامة علي بن أبي طالب بعد النبي صلى الله عليه وسلم اليقين أو الظن.

 إن مناقشة تلك الجدليّة سوف نختار رؤية إمامين من أئمة الأشاعرة والإماميّة وهما الإمام الباقلاني[ت:403ھ1012م]، من الأشاعرة والإمام شريف المرتضى[ت:436ھ/1044م]، من الإمامية.

 إن كلمة «اليقين» تأخذ معنى «الصدق والحقيقة»، وهي تفيد قطعية الدلالة في النص عند الأصوليين، حيث يقابله ظنيّ الدلالة الذي يأخذ معني الشك، وإن كان بينهما (الظن والشك) فرق عند أهل الأصول إذ إن الظن يدخل في دائرة «التصديق» غير أنه تصديق غير جازم. فالتصديق غير الجازم، إذا كان راجحا هو: الظن، والمرجوح هو:الوهم، والمساوي هو: الشك[2].

 هذا وقد حدد الشيخ السبحاني أصول اليقين في كتابه: «المدخل إلى العلم والفلسفة والإلهيات، نظرية المعرفة»، حيث قال:« إن التَعَرُفَ على ما وراء الحسّ يحصل في ظل البرهان، وهو مركب من اليقينيات، وأصولها ست: الأوليّات، والمشهدات، والتجريبيات، والحدسيات، والمتواترات، والفطريات»[3]. 

 مفهوم الخبر عند الباقلاني[ت:403ھ/1012م].

 تعريف الخبر :

 عرفّ الإمام الباقلاني الخبر بأنه:« ما يصح أن يدخله الصدق أو الكذب»، أى ما أحتمل الصدق والكذب بإعتبار قائله، وذلك:« متى أمكن دخول الصدق أو الكذب فيه، كان خبرا، ومتى لم يكن فيه، خرج عن أن يكون خبرا، وبهذا الإختصاص، فارق الخبرُ، ما ليس بخبر من الكلام، وسائر الذوات التى ليست بخبر»[4].

 أقسام الخبر عند الإمام الباقلانى:

 قسم الإمام الباقلاني الخبر إلى ثلاثة أقسام:

خبر «الضرورات»، وهوما يعرف «بالأوّليات»، وهو كل خبر ثابت، إقتضت ثبوته بضرورات العقول، وإدراك الحواس، حيث قامت الأدلة على ذلك من أمره؛ مثل: الخبر عن وجود ما ندركه ونشاهده بحواسنا. والخبر عن إمتناع الضدين، وكون الجسم في مكانين معا.....وما جرى مجرى ذلك من كل أمر ثبت العلم بصحته إستدلالا ونظرا. وهذا الخبر لا يقع إلا صدقا من قديم ومحدث، ومؤمن وكافر، وعدل وفاسق، وجماعة وآحاد، لثبوت مخبره وصحته[5].

 الخبر عن محال ممتنع، إما بقضية الحواس والضرورات، أو بما قام عليه من الحجج والدلالات؛ مثل الخبر عن عدم ما نشاهده، وكونه على خلاف صفة ما ندركه عليه، وكذلك الخبر عن قيام الأموات، وقلب العصا حيات، وإنقلاب دجلة ذهبا، والخبر عن وجود ضدين في محل واحد، وكذلك كون الجسم في مكانين. وكل ماجرى مجرى ذلك فهومعلوم ببطلانه وإستحلالته، بقضايا الحواس، وموضوع العادات، وأوائل العقول والضرورات[6].

الأخبار عن الإمكانيات في العقل، نحو الإخبار عن مجيء المطر، بالبلد الفلاني، وموت رئيسهم ورخص سعرهم، والأخبار عن المتعبدات، نحو الإخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم، على إمام بعده، وعلى الحج والصلوات والعبادات، وغيرها من التعبدات في الشريعة. فهذا القسم يمكن أن يكون صدقا ويمكن أن يكون كذبا. ويميز حال الصدق من الكذب، حسب ما يوجب الدليل من أمره. فإن قام الدليل على أنه صدق قطع به، وإلا قطع ببطلانه وكذب ناقله. وإن عُدِمَ دليل صحته ودليل فساده وجب الوقف في أمره، وتجويز كونه صدقا و كونه كذبا. أما إذا وقع الخبر على الممكن، ككونه من الله أومن الرسول، أو ممن أخْبِرَ عنه، أنه لا يكذب في خبره، أومن جماعة أسندوا ما أخبروا عنه إلى مشاهدتهم، ليثبت التواتر بمثلهم، قطع بصدقهم. وكذلك كل خبر عن جائز قام الدليل على صدق نقلته[7].

 خبر التواتر وإستحالة كذبه عند الباقلاني:

 يستحيل العادة بالتواطؤء على الكذب بالعدد الذى يثبت بهم التواتر. وذلك، أن العادة لم تجر إجتماع قوم يبلغ حد التواتر، ثم تواطؤوا بنقل الكذب عن مشاهدة، ولا عن كتمان ما هم عالمون به من غير ظهور الحديث به بينهم والإقرار، إذا خلوا بأنهم كتموا وتشاعروا لعلة دعتهم إلى ذلك؛ لأنه لايجوز أن يستمر بهم ترك ذلك والخوض فيه والحديث به زمانا طويلا، أو الأبد حتى لا يعلم في حالهم، أنهم قد إفتعلوا وإن جاز ذلك على الواحد والإثنين منهم[8].

 صفات أهل التواتر عند الباقلانى:

 ذكر الإمام أبى بكر الباقلاني صفات أهل التواتر، حيث إعتبرها أربع صفات:

أن يكونوا عالمين بما ينقلونه علم ضرورة، واقعا عن مشاهدة أو سماع، أو مخترع في النفس من غير نظر ولا استدلال، وإلا لم يقع العلم بخبرهم.

أن يكونوا عددا يزيدون على الواحد والإثنين والثلاثة والأربعة.

أن يكون العدد الناقل في الخبر متساويا بالكثرة في كل طبقة، حيث يقع العلم بخبرهم ضرورة.

 إذا كان النقل خلفاء عن سلف، ولسلفهم سَلَفٌ، لابد أن يكون أول خبرهم كآخره، ووسط ناقليه كطرفيه فى أنهم قوم يثبت بهم التواتر، ويقع العلم بصدقهم، إذا نقلوا عن مشاعدة[9].

 مفهوم الخبر عند السيد المرتضى[ت:436ھ/1044م]:

يرى السيد شريف المرتضى أن مفهوم الخبر الذي يفيد العلم هو: ما توافر الشروط التالية:

أن ينتهي في الكثرة إلي حد لا يصح معه أن يتفق الكذب على المخبر الواحد منها. وهذه الكثرة تشمل جمبع الطبقات.

أن يعلم أنه لم يجمعها على الكذب جامع من تواطؤء وما يقوم مقامه.

أن يكون اللبس والشبهة زائلين عما أُخْبِرَ عنه[10].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد إبراهيم:

 ...............................

[1] السماوي، د/ محمد التيجاني السّماوي التونسيّ، لأكون مع الصديقين، المؤسسة الجامعية للدرايات الإسلامية، (بدون رقم الطبعة والتاريخ)، ص60.

[2] - الرازي، معالم أصول الدين، تحقيق، طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، لبنان بيروت، (دون رقم الطبعة والتاريخ) ص22.

[3] - السبحانى، المدخل إلى العلم والفلسفة والإلهيات، نظرية المعرفة، بقلم، حسن محمد مكى العاملى، المركز العالمى للدراسات الإسلامية‘ط1/1411ھ ص251.

[4] - الباقلانى، التمهيد، تحقيق محمد الحصرى، ومحمد عبد الهادى، دار الفكر العربي، بيروت لبنان، (بدون رقم الطبعة والتاريخ) ص160.

[5] - المصدر السابق، ص 160-161.

[6] - المصدر السابق، ص 160-161.

[7] - المصدر السابق، ص 160-161.

[8] - المصدر السابق، ص162.

[9] - المصدر السابق، ص163-154.

[10] - الشريف المرتضى، علي بن الحسين الموسوي، الشافي في الإمامة، تحقيق، السيد عبد الزهراء، الحسيني الخطيب، وبمراجعه، السيد فاضل الميلاني، ط2/1407ھ/1986م، ج2/68.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم