صحيفة المثقف

كثرة الشعراء دليل على فساد الأمم والذوق العلمي

ميثم الجنابيملاحظة: أن ما اضعه هنا هو أقرب ما يكون إلى خاطرة منه إلى مقال أو دراسة أو بحث. بمعنى انني لا اسعى هنا لتناول إشكاليات وقضايا وجوانب الشعر والشعراء والنظريات النقدية، ولا حتى وجهة نظري بهذا الصدد. فهذه قضية سوف اتناولها في وقت آخر.

إن كل عظيم نادر وعزيز. وينطبق هذا على الشعراء أيضا. بينما عندنا عدد الشعراء الآن بقدر عدد الشرطة وقوى الأمن ومرتزقة الصحافة! إذ حالما ننظر إلى ما حولنا في ظروف العالم العربي المعاصر، فإن ما يلفت الانتباه هو الكثرة المفرطة في الشعراء والقلة المفرطة في تأثيرهم على الوعي الاجتماعي والسياسي والجمالي. بمعنى انك تقف أمام كومة من الكلام الثقيل الذي حالما تبدأ بقراءته فإنك ترغب بالتخلص منه في أسرع وقت أو تمر عليه مرور الكرام! هذا في أفضل الاحوال. بينما الغالب على الانطباع هو اثارة هذا الشعر لمختلف الردود والصدود التي لا تسمح بالبوح بها قواعد الأدب.

وليس مصادفة أن يمر هذا الشعر مرور الخائب أمام العقل النقدي والذوق الجمالي. من هنا فقدان أو انعدام التحليل والتقييم النقدي لهذا الكم الهائل من "الشعر"، الذي يبدو لا طائل من وراءه.

إن الشعر العميق والكبير والجميل يثير بقدر واحد مشاعر القارئ وانتباه الناقد. بينما لا نرى سوى "شعر" بلا نقد. وما يكتب عن اشعار "الشعراء" في الاغلب هم الشعراء انفسهم. ولا تعددى هذه الكتابة عن أن تكون مجرد مديح اجوف. فحالما تتأمل هذه "المدائح" المجانية، فإنك تتوصل إلى وجود كمية هائلة من العظماء والفطاحل والعباقرة والفحول والأجلاء وأوصاف كثيرة مثيرة للشفقة والسخرية. ووراء كل تعليق رد اعنف منه من حيث تماديه بالإطراء والإعجاب، كما لو انك جالس في ديوان ريفي أو وليمة للفقراء من ضواحي المدن الهالكة! وهي حالة تعكس في اعتقادي نمط ومستوى خاص مما يمكن دعوته بالعقدة الدونية. والأكثر سخفا من ذلك عندما يتحول "النقد" إلى مجرد مديح متبادل. وكلما يفرط احدهم بالمديح كلما يحصل على القاب أكبر وشريط مضحك من التبجيل! وهكذا تشترك الجميع في جوقة اشبه ما تكون بطبالين الأعياد في ازقة الفقراء! وفيما لو اردنا الترفع نسبيا بحيث لا يسيء ذلك إلى ذوق الشعراء، فإن هذه المديح في افضل احواله يشعرك، بأنك في خيمة احد الشيوخ وبلاط الاستبداد! وهي حالة تعكس طبيعة ومستوى الانحطاط في الرؤية النقدية والذوق الشعري. وتشبه حالة من قال:

مما يزهّدني في أرض اندلسٍ

أسماء مقتدر فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الاسدِ

فعندما نتأمل تاريخ ونماذج النقد الشعري وتقييم الشعر والشعراء على امتداد التاريخ العربي ومراحل نموه وتطوره وارتقاءه الهائل، فإننا لا نعثر على ما قيل في فحولهم الكبار سوى كلمات متواضعة، أو أكتفوا بكلمة شاعر فحل على خلاف ما غيره من شويعر وشعرور. لكننا حالما نتأمل ما يكتب عنهم أو يصفون انفسهم أو يتبادلون الأوصاف فيما بينهم، فإنك تقف أمام لوحة عجيبة مثل "أمير الشعراء" و"ملك الشعراء" و"نقيب الشعراء" و"امير البيان"، و"نقيب العشاق" (وهو في الثمانين من العمر!) و"وقائد المغرمين" و"شاعر ازرق" لا تعرف من زرقة السماء او من الضرب المبرح! واخر ابيض، واخر احمر. ولا احد منهم يريد ان يكون خادما للشعب والأمة. إذ لم اسمع عن شاعر الأمة وشاعر الشعب وشاعر الجماهير وشاعر الأسواق. جميعهم يريدون أن يكونوا ملائكة وملوك وقياصرة وأمراء. إننا نعثر في هذه الحالة على ظاهرة استبطانهم لتقاليد الاستبداد والتجبر والطغيان والهيمنة والسيطرة والتملك. بينما الشاعر الحقيقي هو من يبذل روحه من اجل القيم المتسامية والجميلة. ومن غير المعروف حالما ينتهي تقاسم الالقاب الارستقراطية فيما اذا كانوا مستعدين للقبول بلقب جنرال الشعر وعقيد الشعر ونائب ضابط وما إلى ذلك.

إن كثرة الالقاب المثيرة للسخرية، والمثيرة للإعجاب فيما بينهم تعكس اولا وقبل كل شيئ انعدام الذوق النقدي. إذ انني لم اعثر على مدار سنوات من تتبع ما يكتب على سبيل المثال في (موقع المثقف) على دراسة نقدية لشعر الشعراء. ولا بأس من أن يتأمل النقد الأدبي والشعري على الأقل مدرسة الديوان وابولو.

ومن دون ان ابخس حق من يكتب الشعر، فإن مئات الاكباس مما كتب ونشر، باستثناء حالات نادرة جدا وقليلة، ادنى من قصيدة واحد لابي فراس الحمداني، بل ولا يعادل بيت واحد من قصيدته

أراكَ عصيَّ الدَّمْعِ شيمَتُكَ الصَّبْرُ

أما لِلْهَوى نَهْيٌ عليكَ ولا أمْرُ؟

انني شخصيا احس وأشم من اغلب ما ينشر بهذا الصدد رائحة الثوم والبصل حتى حالما يتغنون بالنرجس والياسمين! فالجمال والذوق الجمالي ليس في الكلمات "الجميلة"، لأن الكلمات كلها جميلة في محلها. وليس آلة الطرب من تغني بل معاناة الروح.

ان مهمة الشعر تقوم في تنقية الروح الجمالي ودفعه صوب الهياج الوجداني المحكوم بقيم متسامية. وهي مهمة ليست سهلة، وذلك لأنها تفترض في آن واحد وجود الملكة الشعرية والذوق المرهف والدراية العميقة بالأدب والشعر والثقافة والمصير المحكوم بقوة الكلمة والاستعداد للسير معها حتى النهاية. وهي ليست مهمة الشاعر فقط، بل والناقد الشعري أيضا. وهي الحلقة المفقودة. وبدونها سيظل تكاثر الشعراء دليلا فعليا على فساد الذوق والقيم الجمالية والوجدان الفردي والاجتماعي والقومي الصادق.

***

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم