صحيفة المثقف

(نريد وطن) فورة شباب ونرجسية حُكام ..

حسن خليل حسنربما يكون شيعة العراق حديثو العهد بالحكم لكنهم ليسوا كذلك بالنسبة للخروج على الظلم والطغيان، فالتراث الشيعي هو عبارة عن مركز دائم لتوليد الثورات المتتالية وتصنيع قواعد الممانعة الجماهرية للاستبداد والتعسف، وحتى مع خفوت صليل السيوف وارتجاج البنادق تكون احاديث السياسة ونبذها هو الحوار الاساس في مجالسهم السرية، وما الصمت الشيعي الا التأمل العميق بالواقع السياسي والرفض النفسي الذي يؤسس لصور اخرى من اشكال الانفجار الشعبي بوجه الظالم، ومن هنا تبلورت فكرة تاريخية تدعى (الرافضة) التي امتلكت خصوصية في الامة الاسلامية ومدلول فلسفي خاص بهذه الفئة دون غيرها.

والاحتجاجات الاخيرة في المحافظات العراقية الشيعية التي انطلقت في تشرين الاول من العام 2019 كانت انتفاضة شعبية متكونة بجميع عناصرها وهي نتاج طبيعي لهذا المحرك التاريخي الذي تتوارثه الاجيال الجديدة، والدليل على انها انتفاضة جينية موروثة انها انطلقت من بين اصابع الشباب اليافع ممن لم يؤدلج بالقراءات الطويلة للتاريخ والعقائد، كما انها لم تتحرك استجابةً لفتوى شرعية او دعوة عشائرية او تجمع حزبي، ولعل هذا كان السبب في التعدي السريع عليها من قبل عشّاق السلطة، ولعل من اهم سمات هذه الثورة عدم الاعتماد على احدى الركائز الثلاث والسبب في ذلك يرتبط بطبيعة هذا الجيل وانفتاحه على مضامين كبرى نتجت عن الثورة الرقمية وثقافة الصورة والمقاطع الفيديوية القصيرة، اذ ان شباب اليوم يشاهدون كل شيء منقول بوسائل التواصل دون التركيز على فئة محددة منه، وهذا جزء من محاولة الانتماء لقيمة انسانية معاصرة في العالم الرقمي اللامحدود، انهم طالعوا كل شيء ولم يهتموا بشيء محدد وقرأوا قليلاً لكنهم استوعبوا كثيراً .. وربما هذه الميزة هي من خلقت تركيبة خاصة بهذا الجيل لم نستطع فهمها او التعامل معها، وربما تكون هذه الفئة اذا صمدت فورتها الوطنية وشُذبَ عنفوانها سوف تستطيع اعادة الامل لوطن مصبوغ بالدماء والخراب، وطن اصبح ارضٌ يباب ومدنٌ خراب وجوٌ مُصاب وماءٌ يُعاب، وطنٌ اضحى منبوذاً من اهله قبل ان تستهجن اوضاعه الشعوب الاخرى.

ولان تولي الحكم الشيعي في العراق حدثٌ غريب ومرفوض بالنسبة للحضيرة العربية بل ومحارب حتى في المنطقة المتاخمة للعرب، فقد ادخل الاعداء من الداخل والخارج في هذه الانتفاضة الشبابية الواعدة ميكروبات الثورات ونكهات الشذوذ والدونية ونصال الغدر والداعشية ورتبت لتحويل نقمة المتظاهرين الى مهرجانات القتل والحرق الممنهج لمقرات الحركات الجهادية ناهيك عن ظواهر المجون المعلن والنيل من الرموز، وهذا ما شجّع على استغلال النقمة الجماهيرية للمناداة بتغيير النظام السياسي التعددي الى النظام السابق الديكتاتوري، ومع ان هذه الممارسات والشوائب تُرفض من جمع كبير من الثائرين الا ان هنالك اجنحة دخيلة وجماعات مراهقة مندفعة تعايشت مع ذلك فيما ، وهنا تدخلت الآلة الاعلامية المخضرمة وحسابات الفيس بوك المدربّة في رسم المشهد والتخطيط لتحقيق مكاسب تتعارض مع النظام السياسي الانتخابي، وبالرغم من علم الشباب بهذه الاصابع المشبوهة الا انهم لم يستطعوا الفرز وتنظيف محيط الثوار من شوائب الاجندات الخبيثة، فدفع الثوار ثمناً باهضاً لجرائم المندسين بين القتل بنيران القوى الامنية وكواتم القنص واسلحة الجماعات المتخفية بالمضللات واسلحة مخبئة في الجيوب والكاميرات ، ثمن باهض وارواح بيضاء والقافلة مستمرة، وبالرغم مما تحقق من انجازات كبرى على يد الشباب الطموح كقانون الانتخابات والعمر التقاعدي وفرص العمل وجميعها من مطالبهم الاساسية، وتحقيق مطلبهم بإزالة اعلى منصب يتمثل برئيس الوزراء، الذي ادركوا بعد ذلك ان هذا المنصب كان اوهن المناصب في الوقت الراهن لأنه منصب توافقي وليس منصب استحقاقي مع ان تحقق المطلب الاخير جاء بعد تفجّر نافورة الدماء الزكية، وهنا نقول: لغاية هذه الانعطاف كان يحتاج المتظاهرون الى تحديث ادواتهم واستغلال ما تحقق في تنظيف ساحاتهم من الدخلاء على ثورتهم البيضاء لكنهم لم يقنعوا بما غنموا وهذا ضعف في التخطيط الاستراتيجي للحركة الاحتجاجية، وكانوا يحتاجون الى التوقف قليلاً لمعالجة بعض الاخطاء الاجرائية التي انتابت بعض الثوريين بعد استساغة مهاجمة ثوابت راسخة في الضمير الانساني العراقي كرجالات الدين وزعماء القبائل حتى تجرأ بعضهم على التربويين ناهيك عن سلوك العنف المقابل مع قوات الامن وهذا ما رصدته المقاطع المرئية المنتشرة في فضاء العالم الرقمي .

كما ان الثوار لم يمتلكوا الخبرة السياسية الكافية للاستفادة من الدور الايجابي للرمز الحوزوي الداعم لهم في ديمومة الثورة، فكان من المهم رسم خريطة الطريق وفق لسان الحكمة في خطب الجمع من صحن الحسين الثائر (عليه السلام) الذي بدأ ثورته بالدعوى والتثقيف وابراز الرموز الاسلامية من قرّاء القرآن والصحابة الابرار يوم عاشوراء وهذا التكتيك هو ما خلّد الثورة الحسينية وجعلتها ثورة انسانيةخالدة ينهل من معينها الثوار المسلمين وغير المسلمين، فلو ان الثوار عملوا على جعل واجهة مسيراتهم من وجهاء ورجال طوائف دينية وشخصيات علمية وثقافية تكون ذات دلالة اجتماعية وتكون ملهمة اكثر لآخرين لكان اجدى للحفاظ على ثورتهم، علماً ان الرموز الدينية والعشائرية مرعبة للطبقة السياسية وهي تضمن وجهاً اكثر اشراقاً لسمعة المظاهرات، ولو التزموا بسلمية التوجهات وطرق الاحتجاج واخضعوا خيم الاعتصام لأشراف وتدقيق ومنهجية صارمة واستعانوا بالمهرجانات التثقيفية بدلاً من الاضرابات الجامعية وتقربوا الى اهل الحكمة الالهية والحوزات بدلاً من قطع السير في الطرقات، لنجحوا اكثر في اقناع الشارع بأهمية تغيير النمط الحزبي والفئوي الضيق في الانتخابات القادمة، فلعل الاساليب الاخيرة للمتظاهرين افقدت الثورة بريقها الاول، وهنا نوصي بالتركيز على ترشيح كفاءات وطنية خالصة وفق تعهدات واشتراطات شخصية مسبقة، مع الادراك والوعي بان الطبقة السياسية الحالية هي نتاج سلوك انتخابي خاطئ يحتاج الى التوعية وهذا اجدى لهم من التصادم مع اباطرة السلطة بشكل مباشر، وبالرغم من ان ما نرتئيه هنا اطول زمناً واكثر ارهاقاً الا انه اسلم لأرواح شبابنا الغض واجدى لتحقق اهداف الثورة الشيعية البيضاء.

وننوه الى اننا اوردنا نقاط تخص المتظاهرين ولم نتحدث عما ينبغي للسلطات الرسمية ان تقوم به لإيماننا الكامل بان هذه السلطة تعيش اجواء نرجسية الحكم وتضع لنفسها سبل التعلق بأيام اضافية دون شعور بآلام الشعب وهي لم ولن تستجب لأغلب النصائح الارشادية التي لم اتبعتها الحكومات السابقة لما وصلنا للازمة الراهنة.

 

د. حسن خليل حسن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم