صحيفة المثقف

لا يعرف الفضل إلا ذوُوهُ

نور الدين صمودما انفك الشيخ عبد المقصود خوجه يكرم العلماء وأعلام الفكر والمعرفة في ندوته الأسبوعية التي أطلق عليها اسم اليوم الذي تجري فيه الاثنينية وظلت أعمالها تنشر كل ما يجري فيها منذ  سنة 1983 علما بأن صاحب هذه الندوة هو ابن الصحفي الكبير صاحب جريدة أم القرى التي كانت تصدر في خمسينيات القرن الماضي وهو أيضا ناشر كتاب (وحي الصحراء) مع الشاعر عمر بلخير وقد نشر في القاهرة وقدمه إلى القراء محمد حسين هيكل. وقد حضر  الشاعر التونسي نورالدين صمود حفل تكريم الشاعر محمود عارف وهي رقم 9 ثم توالى حضوره لها ضيفا إلى أن شمله التكريم في الندوة التي خصة بها، التي قال فيها مُكرمه عنه الكلمة التالية.

وهذه كلمة صاحب الاثنينية الشيخ عبد المقصود في تكريم  نورالدين صمود.

 

في حفل تكريم الشاعر نور الدين صمود

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخوات والإخوة ...الأستاذات والأساتذة الأكارم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يسعدني أن أرحب بكم في هذه الأمسية التي  تزدهي بأحد أعلام الأدب والشعر في تونس الخضراء الذي قدِم منها خِصيِصا لِتـَشـرُفـوا به في هذا اللقاء، وباسمكم جميعًا أتوجه بالشكر والتقدير والترحيب لضيفنا الكريم معالي الدكتور نور الدين صمود، الذي تفضل بتلبية دعوة الاثنينية وتشريفها بتكريمه والاحتفاء به وبمسيرته العطِرة في دنيا الكلمة...

الإخوة الأحبة لضيفنا الكبير وشائج صداقة و محبة و إخاء مع كثير من رجالات الثقافة والأدب والفكر في بلادنا الحبيبة،  فقد عرف الترحال منذ مراحل طلب العلم وأصبح خصلة أحسب أنه قبلها بارتياح لأنها تماهت مع ميوله الشخصية . فهو ذو شخصية منفتحة بطبيعتها نحو الآخر وقد تواصل مع هذا المنتدى منذ وقت طويل في أكثر من مناسبة و كانت له مداخلات وقرأ بعض قصائده المميزة على نخبة من رواد "الاثنينية" أثناء حفل تكريم شاعرنا الكبير محمود عارف – رحمه الله – وذلك بتاريخ  21 .6 .1403 هـ - الموافق .  4  . 4 . 1983  م . وهي كما تعلمون السنة الأولى لانطلاقة هذا المنتدى. وإذ نسعد بتكريمه هذه الأمسية فإنما نفتح صفحة جديدة في دفتر هذه العلاقات الوطيدة التي ظلت نشطة رغم بعد الشقة والشواغل الجمة التي تستأثر بجل أوقاته فهو أديب مطبوع مفتون باللغة العربية مولع بالشعر مبدع في الكثير من أغراضه حتى إنه غامر بدخول عالم الطفل ليخاطب وجدانه شعرا وعندما أقول "غامر" فإنني لا أضع الكلمة جزافا فقد وصف نفسه بهذه الصفة في قصيدته الموسومة "الطفل الخالد" حَـفِيًّا بالطفولة متلفـِّعا بالثورة ناشدا الحرية مع الفراشات و بين الحقول، وقد بدأ بهذا بنيان الصلة من مرحلتها الأولى. ولشاعرنا الكبير صولات وجولات في عالم الشعر والنثر، وله رؤاه التي قد نختلف أو نتفق معه بشأنها ولكننا نحترمها لأنها من عالم سبر غور الكلمة. و تعامل مع مختلف التيارات الأدبية و نظم الشعر العمودي وشعر التفعيلة وتلاقحت أفكاره مع كثير من رواد الأدب والصحافة والفكر في مختلف الدول العربية وغيرها من الدول الشرقية و الغربية بالإضافة إلى مشاركاته التي شملت العمق الإفريقي فهو، بحمد الله، شعلة نشاط ثقافي وأكاديمي لا يهدأ ولم يبخل عليه بهذه الزيارة التي نعتزّ بها رغم عودته مباشرة من رحلتين متتاليتين لكل من البرازيل و السينغال لم يفصل بينهما سوى أيام قلائل، وليس ذلك بغريب عليه لأنه من أُولِي العزم و يكفيه فخرا، في زمن قلّ فيه رواد العزيمة ...و في سياق هذه الإرادة التي لا تلين، يحق لنا أن نهنّئَ ضيفنا الكريم بإنجازه النادر في مجال الإسهام بجهد مقدر، بمناسبة السنة الوطنية للكتاب 2003 حيث اضطلع بمفرده بتأليف ونشر ستة دواوين متتالية أي بمعدل ديوان كل شهرين، وهو عمل يستحق الإشادة و التقدير بكل المقاييس، وقد تعجز عن القيام به بعض الجهات ذات الميزانيات والمكاتب والموظفين إلا الإرادة الصلبة والتصميم على العطاء المميز والاهتمام بكل ما من شأنه أن يخدم لغتنا الجميلة، فالباب الذي يُطرق لا بدّ أن يُفتح، وكسائر بلاد القارة السمراء، كما تعلمون، كانت تونس ترزح تحت نير الاستعمار حتى أواسط القرن الميلادي الماضي، وفي ظل تلك الظروف القاسية، عاش الفتى نور الدين صمود شطرا من شبابه إلى أن تنفـَّستْ بلاده نسمات الحرية من الاستعمار الفرنسي عام 1956 م ، إلا أنها ورثت تركة مثقلة باللغة الفرنسية في كافة أوجه المعاملات الرسمية والتجارية والثقافية وفي هذه البيئة المشبعة بسطوة اللغة الدخيلة نشأ ضيفنا الكبير معتزا بلغة آبائه وأجداده ولم يغترب ثقافيا (بمعنى التوجه نحو الغرب) في وقت كانت اللغة العربية مهيضة الجناح وبالتالي فإن العلوم المتعلقة بها كانت تشكل الحلقة الأضعف في مسيرة التعليم والعمل ومستقبل الشباب، ورغم تلك التعقيدات سار ضيف أمسيتنا نحو مُتـَنـَفـَّسِهِ الطبيعي فتعلّم وقرأ الكثير وجاس بين مجالس العلماء ورياض الأدباء والشعراء في مصر ولبنان منارتي العربية في تلد الفترة  إلى أن حقق مبتغاه ووجد نفسه في إهابه الذي نعرفه اليوم.

 ولعله من الطبيعي أن يجد ضيفـُنا الكبير ميلا فطريا نحو الموسيقى فكان له باع طويل في الموشحات الأندلسية والكلمات ذات الجرس الموسيقي، فلم يتردد في إبداع مئات القصائد التي تهافت عليها الملحنون والمغنون في تونس فشقّـَّت طريقها دون عناء نحو الإذاعة و التلفيزيون لا سيما أن أستاذنا له مساهمات عديدة في هذين الجهازين المؤثّرين وله إطلالته التي يترقبها كثير من محبّي أدبه وشعره من خلالهما، فأسهم بذلك في إثراء الذوق العام التونسي والعربي وحرّك المشاعر التي تهفو إلى الفن الرفيع والأصالة المتجذّرة في وجدان كل إنسان يتمتع بحسّ سويّ وفطرة سليمة.

  إن مسيرة أستاذنا الكريم بما تضمنته من ذكريات ما قبل الاستقلال ونشاط ملحوظ وتحولات جذرية في عهد الحكم الوطني وانطلاقته في ميدان التعليم العام والجامعي وعلاقاته بالوسط الفنّي ومساهماته الإذاعية والتلفزية ورحلاته العديدة إلى مختلف أنحاء العالم واحتكاكه بكثير من الشعوب ورهافة حسّه كشاعر مبدع وتدفق بيانه السردي .. كل هذه المنظومة المتشبّعة التي تتجسد في شخص ضيفنا الكريم تجعلني أنظر إليه ككاتب من طبقة خاصة لمشروع رواية تعتمل في داخله، إلا أنها لم تكتمل بعد، قد يخطها بنفسه أو يتناولها كاتب آخر ليسكب من خلالها خلاصة تجاربه الثرية وأفكاره النيّرة ومشاهداته وأسرار لقاءاته مع كبار الأدباء الذين عاصرهم آخذين في الاعتبار أن ضيفنا الكريم يتمتع بروح الفكاهة والمرح وسرعة البديهة مما يكسب قلمه طلاوة وحلاوة. فكما أن الجالس إليه لا يملّ سماعه فإنني أثق بأن قارئ ترجمة حياته سيجد بين طياتها الكثير والمفيد.

وكم كان كريما دائما بتواصله بشخصي الضعيف لا يكلّ ولا يملّ برسائله الثرية بتصويب كثير من المواقف لغويا وأدبيا عبارة ونقدا فأمتعني عبر هذه المسيرة الطويلة من صداقتنا التي هي محلّ إعزاز واعتزاز بالغ مثـّّلتْ في مجملها طرحا أدبيا مما يُسمى أدب الرسائل الذي أنا به مولع والذي أحرص عليه مع مَن يسعدني بهذا التوجه. وهذا ما يجعلني أشير أن هذا الباب، مع قلة من لا يزال يسعى به ومعه وله بأنهم يحافظون على البقية الباقية كُسِرَ فيه القلم مع الأسف وهِيض جناحه وجَـفّ قرطاسه، ولكن لا تزال إرهاصاته تعيش نتاجها الذي يحمد فيشكر . ولنا أن نقدم العذر لضيفنا إذ لو كان التكريم يتم وفقا لآليات الأولويات لكان صاحبه قبل كثيرين غيره، ولكنها الظروف التي تقودنا وتسيرنا، ولا نقودها ولا نستطيع أن نسيرها، رغم الجهود التي تبذل والآمال التي نعلقها على الرغبة والإرادة، ويبقى دائما الخير فيما اختاره الله عز وجل.

مرحبا بضيفنا الكبير في حله وترحاله، سعداء بتشريفه هذه الأمسية التي طالما تقنا إليها، فما قصرت منا الخطى، وما هان عليه اللقاء، إلا أنها أمنية تأجلت أكثر من مرة بسبب ازدحام برنامج معاليه، فأهلا وسهلا ومرحبا به بين أهله ومحبيه، متمنيا لكم أمسية ماتعة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته عبد المقصود خوجه

 

وأختم بتعليقي على كلمة صاحب الاثنينية: شكرا موصولا لمن ذكـّروني بهذه المَأْثـُرة ولا يعرف الفضل إلا ذووه. ن  ص

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم