صحيفة المثقف

خطابات التأنيس (٢)

مجدي ابراهيملا تنفصل خطابات التأنيس عن صفة العارف من حيث أصالة جوهرها ومنبت شعورها في الوعي العالي، ولا تثبت العلاقة بين الأنس والعرفان إلا كما تثبت العلاقة المتبادلة بين المصدر وفروعه أو بين الأصل وما يتجزّأ تحته؛ فكل خطاب من الأنس مردّه إلى صفة العارف، وكل صفة للعارف ترتد إلى نوع من خطابات التأنيس. والخطاب الذي يصدر من منطقة الأنس هو ولا شك من الصفة التي تكون للعارف قيمة من القيم الكبرى؛ فالقيم العلويّة الباقية لها بالعرفان صلة مباشرة وبالخطاب معنى ودلالة، ومن يفهم رمزية الخطاب يردُّها على الفور إلى صفة العارف بمقدار ما يرجعها إلى العلاقة المتبادلة بين الأنس والعرفان.

وحين نريد تحديد صفة العارف في حديث الولاية؛ نحدِّدها خلال ما تعترك به الدنيا وتضج فيه من ناحية، ومن ناحية أخرى خلال ما يبرز لنا واضحاً من قواعد تأسيسية في الطريق نفسها، ليس يمكن الاستغناء عنها في مراحله المتطورة وارتقاءاته الصاعدة في معارج الروح والأخلاق : لسنا بمعنيين هنا بتحديد "صفة العارف" كما أرادها القوم أو كما حَوتها كتبهم ومقالاتهم، فهذا ممّا شك فيه إنْ كان من الأهميّة بمكان فهو موجودٌ متوافر في مصنفاتهم لمن شاء أن يطلع عليه. ولكننا عنينا بصفة العارف تحديداً تلك القيمة الباقية من الإنسان فيما لو نهج طريق العرفان، واستطاع بمثل هذا المنهاج أن تقوم فيه صفة العارف محدَّدة لا من خلال أقوال الصوفية فيها فحسب، ولكن أيضاً من خلال ظلالها وآثارها في الحياة الحيّة الواقعة، تُعَاش أو ينبغي أن تعاش، وفق خَصَال العرفان : أحوالاً كانت أو أخلاقاً، ماذا عَسَاهَا تكون صِفَةُ العَارِفْ هذه؟

الإمام أبو القاسم  الجنيد (ت 297 هـ) قال وهو يصف العارف : (مَنْ إذا نَطَقَ عَنْكَ وَأنْتَ سَاكت!). وهو وصف مُوغلٌ في تجسيد الولاية كونها سرّاً ينطق عن السّر، وإنْ كان موغلاً في الوقت نفسه في البعد عن العقلانية التي يُشكَلُ معها النطق بالأسرار لأنها تأخذ بالعموم ولا تأخذ بالخصوص، وتتوجّه إلى العقول ولا تتوجه إلى الأسرار، ولكن منذ متى تُقاس الولاية بمقياس العقول المحدودة بحدود ما تفكر فيه؟

الولاية بعيدة، بعيدة، عن حدود العقول المحدودة بحدود ما تفكر فيه، فما يطابقها أو ينطبق عليها في عملية البحث من حيث كونها منهجاً، ليس هو العقل بل البصيرة، أعلى من العقل وأرفع في ملكات الإدراك. وإذن؛ فلابد من معرفة الجهة التي نتحدَّث فيها أو المنطقة التي ينطلق القول منها، ومعرفة ما يناسبها من عمليات الإدراك لكيلا نخلط بين حابل ونابل أو بين منهج ومنهج حين نحاكم أحدهما بالآخر في البحث والفحص والتنقيب. وعليه؛ فلا يُفهم من قول الجنيد هذا ما يفهمه صاحب العقل المحدود حين يرى إشارته تتوغّل بعيداً عن العقلانية فيحكم بالعقل عن أشياء صدرت من منطقة الذوق، فلا يكون حكمه صواباً بالقياس إلى من يريد أن يقيس الشيء وهو في الوقت نفسه يجهل كيف يقاس.

وفي إطار قيم المعرفة - منهجاً وتحققاً - تجئُ صفة العارف متصلة بالإنسان حيث كان، ولكنها لا تتصل به حين تتصل إلا بالإنسان الأعلى من حيث مراقيه المعرفيّة لا من حيث هبوطه ونكوصه وترديّه. فالمحبة والمجاهدة والمعرفة والأخلاق والتّحرُّر من عبادة السّوى قيمٌ باقية من خصال العارف تنطلق منها وتعود إليها، وتسمو الحياة بسموها في ضمائر أصحابها، وهى من الأصالة بمكان بحيث لا يمكن التغاضي عنها؛ فالعارف مجاهد، والعارف مُحِب، والعارف ذو خُلق مُتحرّر من عبادة السّوى. فهذا الفهم يضعنا في مواجهة العرفان كصفة خاصَّة بالأولياء والعارفين، صفة يتحتم بروزها ليس فقط لدى هؤلاء الأولياء والعارفين بل من وجهة نظرنا كذلك في وقائع الأحياء على التعميم.

إنّ حُبَّ الله ولا شك لهو أعظم آيات الامتنان الإلهي، لكنه لن يتحقق بإرادة الإنسان، بل يتحقق بهبة التوفيق. ليس الحب الإلهي الخالص المُخَلَّص من شوائب الزيف آية من آيات الفضل المسبوغ وكفى، بل هو كذلك في الأصل هبة إلهية يمنحها الله عطيّة وتوفيقاً من عنده لخاصّة عباده، أختارهم واصطفاهم خاصّة لأفضاله وخالص عطاياه. فما من حيلة وما من دعوى، وما كان عطاء ربّك محظوراً قط، وما كانت هباته موقوفة ولا ممنوعة، فهو (أي الحبّ الإلهي) اصطفاء فوق كونه فضلاً مسبوغاً.

على أن الفرق بين الاصطفاء والفضل المسبوغ هو أن الأول تخليص خالص، وانتقاء إلهي كان في عالم الذَّر كما في قوله تعالى:" إنِّا أخْلَصْنَاهم بخالصة ذكرى الدار. إنّهم عندنا لمن المُصْطَفين الأخْيَار " (سورة ص : آية 46 - 47)؛ بمعنى أن الله تعالى قد نقّاهم من النقائص، وخَصَّهُم بخلة خاصّة، هى خلة المحبة، أو مقام الخلة، وجعلهم من المخلصين المختارين لطاعته حين خصَّهم بخصائص القُربة وخصال التقريب. أمّا الفضل المسبوغ فهو لا يحرم منه أحد، ولا يختص بمخلوق دون مخلوق، ولكن نعمة الإيجاد تتطلب فيه نعمة الإمداد.

ثم هو قد ينال جميع خلق الله بمقتضى الرحمة الإلهية، ومن قبَلها، وبغير استثناء مخلوق من إمداد الخالق.

فضلُ الله المسبوغ على عباده عام لا خاص، شامل لا محدود، واسع لا ضيق فيه. والمحبّة الإلهية فوق كونها من فضلٌ الله المسبوغ، فهى كذلك هبةٌ تندرج في أعلى صفاتها تحت الاصطفاء الإلهي وتخصيص التقريب كما جاء في قوله تعالى :"والله يَخْتَصُّ برَحْمَته مَنْ يَشَاء، واللهُ ذو الفَضْل العَظيم" (سورة البقرة : آية 105).

وفي تلك الخاصَّة الإلهيّة لن تتدخل إرادة مخلوق في إرادة الخالق؛ إذْ الأمر كله على التحقيق إرادة ربّ لا إرادة عبد. وهذا الفهم هو المهم في كل توفيق ممنوح.

فأوّل خاصَّة عرفانية تقابلنا هى هنا خاصة المحبّة تتجلى فيها وحدة الخالق؛ لأنها فيما يقول الإمام أبي الحسن الشاذلي :"أخذت من الله لقلب عبده عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل مُتَحَصّناً بمعرفته، والروح مأخوذة بحضرته، والسّرَّ مغموراً في مشاهدته، والعبد يستزيد فيُزَاد، ويٌفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيُكسىَ حُلل التّقريب على بساط القربة، ويمسّ أبكار الحقائق وثيّبات العلوم".

لاحظ : المفاتحة لما هو أعذب من خطابات التأنيس، لا يمكن أن تكون إلا في رياض المحبّة بمقاماتها العلويّة وأحوالها الروحية العالية.

يظهر أولاً للوهلة الأولى في هذا التقسيم، غلبة التصوف السّني على الإمام أبي الحسن وخاصّة استعمال مصطلحات القشيري. ثم ثانياً ظاهر في كلامه على التحقيق : وَحْدَة المحبوب والمعبود، إذْ تتمثل هذه الوَحْدَة في تجليات المحبّة والعبادة على القصد المُقرر في التوجه؛ فليس يُعْبَد حق العبادة إلا من يُحَب حق المحبة؛ فلئن كانت المحبّة أخذت من الله لقلب عبده عن كل شيء؛ فلأنها من أجلى تجليات المعبود، ولا شيء يدل قصداً على الإخلاص في العبادة أسمى من تنزلات المحبّة وأرقى ممّا يبذله المرء على الإخلاص سواء في المحبّة أو في العبادة، وكلاهما تجليات وحدة المحبوب والمعبود؛ فالنفس الماثلة للطاعة قوامها المحبة. والعقل المتحصن بالمعرفة أساسه المحبّة. والروح المأخوذة بالحضرة مشدودة بالمحبّة. والسرُّ المغمور في المشاهدة موصولٌ بالمحبّة. وهكذا يصبح المحبوب والمعبود واحداً، وتصبح قوى العبد كلها (النفس، العقل، الروح، والسّر) موقوفة على تجليات الوحدة متصلة بها في أرفع قيمها العليا.

ومن أجل ذلك قالوا : أولياء الله عرائس، ولا يرى العرائس المحرومون، وهم مُخدَّرون محجوبون عنده في حجاب الأنس لا يراهم أحدُ في الدنيا ولا في الآخرة ". أو يقول، رضوان الله عليه، :"المحبة سّرُ في القلب من المحبوب، إذا ثبتَ قطعك عن كل مصحوب". وينبّه محذراً السالك لهذا الطريق؛ فيقول :"حرامٌ عليكَ أن تتّصل بالمحبوب، ويبقى لك في العالمين مصحوب "، غير أنه سبحانه إذا مَنَعَكَ ممَّا تحب، وَرَدَّك إلى ما يُحب، فهى علامة صحبته لك".

إنّا لنلحظ في كلام الإمام ملاحظتين. الملاحظة الأولى : أنّ الخطاب مُوجَّهٌ إلى هؤلاء الذين يريدون الصحبة لا إلى سواهم، ومن هنا كان خطاباً تأنيسياً، فهو ليس خطاباً لكل أحد ولا لأي أحد، ولكنه لمن يسير في طريق الأنس من طريق التحقيق طالباً له ومريداً، وإلى هذا الصنف من النّاس يتوَجَّه الخطاب ويمتنع بموجبه التوجُّه إلى غيره.

والمُلاحظة الثانية : أنّ إشارات الإمام الهمام الشاذلي في المحبّة لم تكن إلا تعزيز القول بأهمية معرفة هذا المصحوب؛ فصحبة الحق حجاب عن صحبة غيره ما في ذلك شك. إنّها لبديهة تتقرّر في كلام الإمام كما تتقرّر في كلام غيره من الأولياء. وهو سبحانه أغير الغيورين على صحبته من أن تتولاها رعاية سواه؛ فتحريمُ الاتصال بالمحبوب تفريغُ السّر له؛ لخصوصية هذا السّر بالبقاء دوماً مع الله. ولصحبة الحق شروط، وأقلُ شروطها هو الشرط الذي يمنعك من الاسترسال مع ما تحب من الأغيار؛ فهو إذا منَعكَ ممّا تحب وأعطاك ما يُحب، فقد صحت صحبتك له، وكنت من ثمّ أهلاً لموالاته. وبما أنّ الصحبة جزءٌ لا يتجزأ من الولاية؛ فصحتها بالشرط المُقرر فيها علامة على صحّة الولاية.

وعليه؛ فالولي يأنس بالخطاب الإلهي، فيكون خطابه أنساً لغيره وموالاة لمن يأنس به على من سواه.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم