صحيفة المثقف

سيد القمني.. بين التجديد والتجديف (1)

محمود محمد علي"الأسس والمنطلقات"

يعد سيد القمني واحدٌ من أكثر المفكرين المصريين إثارة للجَدل بآرائه التصادمية الجريئة مع رجال الدين المسلمين وحركات الإسلام السياسي من جِهة، واحتسابِه ضمنَ التيارِ العقلانيِ والتنويري، مثل فرج فودة من جهةٍ أخرى.. يتأرجحُ الموقفُ منه.. علاوة علي أن معظم أعماله تناولت مرحلة حساسة من التاريخ الإسلامي، فالبعض اعتبره باحثاً بالتاريخ الإسلامي من وجهة نظر ماركسية، في حين أنه يعتبر نفسه من أتباع فكر المعتزلة.

كما ينتسب سيد القمني إلى طائفة من الباحثين في علوم الدين واجتماعيات الشريعة الإسلامية، ممن يفكرون خارج مناطق الصندوق التقليدي للفهم الديني، وهو ما جرّ عليه مصاعب حياتية قصوى جعلته في مرمى التكفير والتهديد بالقتل، كما فعلت في العام 2005 "جماعة الجهاد"، التي اتهمته بالخروج عن نواميس الشريعة، وبأنّه "مارق" و"ملحد" و"مرتد"، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة دق جدران خزّان المسكوت عنه في التاريخ الإسلامي، مواصلاً مسيرة مفكرين عرب وإسلاميين بعضهم قضى نحبه في هذه الطريق الوعرة.

راح القمني، منذ حصوله على الدكتوراه في تأريخ علم الاجتماع الديني، يبحث في مناطق إشكالية في التاريخ الإسلامي، وفي النصوص الدينية، أسفرت عن عدد من الكتب جرى مصادرة أغلبها من قبل الأزهر، وتعرض بسببها إلى المحاكمة باعتباره "مرتداً".

وقد وصفه الأستاذ مجدي حسنين (في مقال له بعنوان " د. سيد القمني راهب في محراب الأديان المقارنة") بأنه واحد من الباحثين الذين وهبوا حياتهم للأسطورة والتاريخ والبحث في سراديب الأديان المقارنة ،كاشفا عن الجواهر التي تختفي وراء الانقطاع المعرفي والاغتراب عن النسق . آثر البقاء في صومعة البحث العلمي ، راهباً في محراب تاريخ المنطقة التي شهدت الأديان السماوية الثلاثة الكبرى اليهودية .. المسيحية .. الإسلام . رافضاً العمل في الجامعات ومراكز الأبحاث ، ويرجع السبب في نظره إلي رفض أساليب التعليم ليس في الجامعات المصرية فحسب، بل في الجامعات العربية كلها ، خاصة أن المادة العلمية التي يبحث فيها والمنهج الذي يستخدمه له من التميز والخصوصية ما قد يتعارض مع أساليب التعليم المعمول بها في مصر أو الوطن العربي ، بل يري أن المنهج ، وهذه المادة العملية قد لا تعترض عليها مؤسسة الجامعة فحسب ، بل قد يحدث معه ما هو أنكي من ذلك .. وأبحاث الدكتور القمني ترتكز علي دراسة تاريخ الأديان والتاريخ المقارن وأساطير مصر القديمة ، أي قي نفس المنطقة الحضارية الأولي ، التي بعثت الدراسات فيها منذ أواخر القرن الماضي ، وأوائل القرن الماضي ، وأوائل القرن الحالي ، سعيا لإثبات هذه الوحدة الحضارية في ديانات ، وثقافات الشرق القديم.

كما وصفه الأستاذ أسامة خيي في مقال له بعنوان "سيد القمني.. رجل في الجبهة الأمامية لمعركة الفـكـر والتنويـر" قائلا:" يحمل الرجل عدته المنهجية المستنبطة من التعقيل التاريخي وينزل إلى أعماق تراث يفيض بالخرافات والأساطير مثلما يكتنز ذخائر الفكر المتنور والعقلانية الفلسفية والإبداع الأدبي.. لا يفرق في تحليلاته بين ما ينتمي إلى السجل الخرافي ولا ذلك المحسوب على العقل، وإنما يموضعهما معا في إطار الشروط التاريخية والثقافية التي فعلت في إنتاجهما. إنها المسافة الضرورية واللازمة مع التراث التي تجعل الإنسان يدرك أن ذلك المأثور في كليته ما هو إلا نتاج اجتهادات أهل عصوره.. عمل إنساني.

ويستطرد فيقول : " في جل كتاباته ثمة فضح لهذا الجنون الإسلاموي المستشري اليوم بوسع العالم والمستعدي على الحقوق والحس السليم ومنطق الأشياء. لذلك، لا يتنازل المفكر عن نبرته الساخرة وهو يرى كيف أن وضع الأحكام في غير سياقها التاريخي يجعل الجنون يأخذ أبعادا سريالية. تطبيق الشريعة. إنزال الحدود. الجهاد. الخلافة... لا يمكن إلا أن تتمخض وقد تم إسقاطها عن واقع اليوم، سوى مفارقات دونكيشوتية، لكن مأساوية ومدمرة كما هو الحال مع القاعدة وداعش وباقي متطرفة الجنون الأصولي... هذا النقد العميق للإسلام السياسي والمراجعة التفكيكية للتراث الديني جعلت محمد سيد القمني في عين العاصفة باستمرار. ولم يكن صدفة أن يهدر دمه قبل عشر سنوات ولا أن يلاحقه محتسبة الإخوان والنظام معا في محاكمة شهيرة ترافع فيها، ليس عن نفسه، وإنما عن الفكر الحر بمعرفة عميقة بالفقه والشريعة والأصول. وهو ما فعله مع صنوه في جبهة التنوير، المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد يوم كالوا له تهمة الخروج عن الملة وسعوا لتطليقه من زوجته.

وأخيراً حديثه قائلاُ:" يجسد سيد القمني، الذي ساهم في إحياء تراث المعتزلة، امتدادا لتلك المدرسة والمنارة الشاهقة التي وضع حجرها الأساس مفكرون في قامة طه حسين وعلي عبد الرازق ولطفي السيد وسلامة موسى ومحمود أمين العالم وفرج فودة وسواهم كثير. وهو إذ يزور اليوم «بيته» الأحداث المغربية فلصلة الرحم بمنبر مستقل حرص منذ انبثاقته على أن يكون واحدا من أصواته التي يفكر بها ويسترشد بتحليلاته النقدية في معركة مستسرلة بين التنوير والعماء الأصولي".

وُلِدَ سيد محمود القمني في مدينةِ الواسطي بمحافظةِ بني سويف عام ١٩٤٧م، وظل يدرسُ حتى حصَلَ على الدكتوراه من جامعةِ جنوب كاليفورنيا (ويجادل البعضُ في مِصْداقيةِ حصولِه على تلك الدرجة). تخصَّصَ القمني في الكتابةِ عن بواكيرِ التاريخِ الإسلامي، محلِّلاً وناقِدا بجُرْأةٍ الكثيرَ من مَحطاتِه التاريخيةِ حتى هُدِّدَ بالاغتيالِ عام ٢٠٠٥م على إثرِ اتِّهامِه بالكُفر والإلحادِ من قِبَلِ بعضِ خُصومِه. آثر القمني بعدَها السلامةَ وأعلَن اعتزالَه الفِكرَ والكِتابة، ثم تراجَعَ عن قَرارِه فيما بعد. وأخيرا وبعدَ جهدٍ طويلٍ جاءَ تقديرُ الدولةِ له بمنحِهِ جائزةَ الدولةِ التقديريةَ عام ٢٠٠٩م، وقد صحب ذلك زلزالٌ عنيفٌ مِنَ الرفضِ والاعتراض.

ومن أبرزِ دراسات ومقالات وكتب القمني ، ومنها: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، قصة الخلق/ منابع سفر التكوين، رب الزمان، شكراً بن لادن، مدخل إلى فهم الميثولوجيا التوراتية، الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، الأسطورة والتراث، العرب قبل الاسلام، حروب دولة الرسول في جزئين، وأهل الدين والديمقراطية: صدر 2005، والجماعات الإسلامية رؤية من الداخل: صدر 2004، والإسلاميات: صدر 2001، والإسرائيليات: صدر 2002، وإسرائيل، الثورة التاريخ التضليل: صدر 2000، وقصة الخلق: صدر 1999،والنبي موسى وآخر أيام تل العمارنة: صدر 1999، وحروب دولة الرسول: صدر 1996، والنبي إبراهيم والتاريخ المجهول: صدر 1996، والسؤال الآخر: صدر 1998,, وهلم جرا.

علاوة علي المقالات الكثيرة التي كتبها ؛ حيث اتسمت مقالات القمني باللهجة الزاعقة المتصاعدة ضد الإسلام السياسي، وكان أكثر هذه المقالات حدّة المقال الذي كتبه على أثر تفجيرات طابا في أكتوبر 2004. وكان عنوانه: «إنها مصرنا يا كلاب جهنم!»، هاجم فيه شيوخ ومدنيي الإسلام السياسي، وكتب: «أم نحن ولاية ضمن أمة لها خليفة متنكّر في صورة القرضاوي أو في شكل هويدي تتدخل في شؤون كل دولة يعيش فيها مسلم بالكراهية والفساد والدمار، ويؤكد وجوده كسلطة لأمة خفية نحن ضمنها».

وبعد هذا المقال، تلقى القمني العديد من التهديدات. إلى أن أتى التهديد الاخير باسم «أبو جهاد القعقاع» من «تنظيم الجهاد المصري»، يطالبه فيه بالعودة عن أفكاره وإلا تعرّض للقتل ، فقد أهدر دمه ففي 17 يونيو - حزيران 2005 وعلى اثر ذلك كتبَ سيد القمني رسالة بعثها إلى وسائل الإعلام والى مجلته روز اليوسف، يعلن فيها توبته عن أفكاره السابقة وعزمه على اعتزال الكتابة، صوناً لحياته معلنا ان توبته واستقالته ليس من القلم وحسب، بل ومن الفكر أيضاً.

وقد منح سيد القمني في عام جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية عام 2009 والتى تبلغ قيمتها مائتى ألف جنيه مصرى. وعقب فوزه بجائزة الدولة التقديرية مؤخرا واجه القمني هجوما كاسحا من قبل جماعات التكفير المحسوبة علي التيار الديني الي الحد بإهدار دمه وإقامة دعاوي التكفير ضده الامر الذي دفع القمني بإرسال نداء استغاثة الي كل الهيئات والافراد والمنظمات الحقوقية في العالم وذلك من خلال مواقع اليكترونية وقال فيه أهيب بضمير الإنسانية الحر فى كل العالم أن يهب لنجدتى أنا وأولادى بالمساندة المعنوية والتنديد بالفكر الراديكالى، مع تقديم حلول سريعة لإنقاذنا من الخطر الذى يتحدق بنا".

وقال سيد القمني: "منحى جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية أثار ضدي التيار المتشدد، وطالبوا بسحب الجائزة منى مع إعلان ارتدادي وتكفيري، وهو ما يعنى فى بلادنا أننى أصبحت مهدور الدم، يمكن لأى مواطن قتلى ويكافئه الله بدخول الجنة خاصة بعد ان اعلنت دار الإفتاء المصرية فتوى بتجريمى وهدر دمى بتهمة إهانة نبى الإسلام ورب الإسلام، وقال إن تكفيره أمر يحتمل التطور إلى ما هو أبعد وأخطر فى الأسابيع القادمة، فى إشارة إلى احتمال سعى بعض المتطرفين لاغتياله.

كما دعت المؤسسات المتضامنة مع موقف سيد القمني الأدباء والمفكرين المصريين إلي مساندة القمني دفاعا عن حرية الرأي ورفضا لمصادرة الآراء والأفكار حتي لا تتكرر مآسي إهدار دم الادباء مثلما حدث مع الكاتب الراحل نجيب محفوظ والمفكر فرج فودة الذي دفع حياته ثمنا لأفكاره علي يد احدي الجماعات المحسوبة علي التيار الديني في مصر ... وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم