صحيفة المثقف

بازوكا الانعاش الاقتصادي

مهدي البنايمحدقاً بالصحفية التي سألته عن الحدود القصوى لبرنامج المساعدات الحكومية، لم يَرٍّف جَفن اولاف شولتز وزير المالية الالماني قائلاً (لا يوجد حد أقصى، تلك هي الرسالة الاكثر أهمية)، وأضاف واصفاً حزمة المساعدات البالغة 550 مليار يورو  بـ (مدفع البازوكا) مشيراً لطابعها الاستثنائي.. وتابع شولتز (سنلقم أسلحتنا من جديد اذا لزم الامر)!!

أقدمت المانيا على الدفع بهذه الحزمة بعد ان ضخ البنك الفدرالي الامريكي بـألفي مليار دولار في شرايين الاقتصاد الامريكي، وكندا بـ 82 مليار دولار كدفعة اولى للشركات والاسر، ودول اخرى قريبة من اطلاق حزم مماثلة، بالاضافة لتخفيض الفوائد، والمباشرة ببرامج التيسير الكمي  Quantitative easing... الخ من برامج (الانعاش)، ويتوقع للبنك الدولي وصندوق النقد أن يصدرا حزماً للانعاش غير مسبووقة تأريخياً.

حالة الانكماش Recession التي بدأت مؤشراته واضحة منذ نوفمبر الماضي، والمتوقع ان تكون مقدمة لحالة كساد Depression  ممتد، والذي تسببت به الطبيعة هذه المرة وليست صنيعة الرأسمالية غير المستقرة كما في المرات السابقة، ليست حالة دورية معتادة ضمن الدورة الاقتصادية الطبيعية، إنما قد تشكل حالة (أزمة) اقتصادية.

فمثلما حدث في الازمات الماضية، ومنذ الكساد العظيم Great Depression سيتم تنحية نظريات السوق الحرة والنيولبيرالية والمركنتيلية جانباً .. ويهرع الجميع لاتباع كينز ليدخلوا غرف الانعاش الاقتصادي لتقديم المساعدة.

فكرة التقشف في حالة الانكماش فكرة عبثية، كُذبت عدة مرات في التأريخ، وأُستعيض عنها بنقيضها تماماً، ففي كل مرة يظهر كينز منقذاً داعياً لتدخل الحكومات لاعادة وضع عربة الاقتصاد على سكة الحياة،  منذ تبني إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت سياسة New Deal  الاتفاق الجديد او العهد الجديد القائمة على اساس الدخول في مشاريع كبرى بهدف تشغيل أكبر عدد من العمال، وبالتالي ضخ Pumping  ملايين الدولارات في شرايين القطاعات الاقتصادية المختلفة، وضمنت ودائع الشركات، ومنحت الائتمانات المصرفية بشكل واسع، مع سياسة تضخمية معتدلة، مستهدفةً رفع الاسعار بالتدريج لتقليل خسائر المنتجين والمزارعين.

لسنا واهمين لننتظر مثل هذا التدخل او الدعم الحكومي في العراق .. لسببين أساسيين: الاول إن إرتباطنا بالاقتصاد العالمي ارتباط واهٍ، وذو اتجاه احادي، نحن مرتبطين بحبل النفط السّري المغذي لحياتنا وديمومتها، فالنفط يشكل ما نسبته 92% من الإيرادات، وما نسبته 63.7% من الناتج المحلي الإجمالي بشكل عام، ويشكل 91.85% من القطاعات الإنتاجية بشكل خاص في عام 2018.  وتأثُرنا الاساس بما يحدث في اقتصاد العالم هو عبر سعر برميل النفط فقط، ولان سوق الطاقة أهم وأول المتأثرين بتراجع الطلب العالمي.. بات واضحاً أن عوائد الريع ستتأثر، وينعكس ذلك سلباً على موازنة المشغل الاكبر، وبالتالي على قدرته على التحفيز.

الثاني، دعم السوق (القطاع الخاص) بوضعه الضعيف الحالي اصلاً، وضيق قاعدته التشغيلية مقارنةً بالحكومة (ذات الخمسة ملايين موظف)، التي تمتلك 80% من الاراضي بالاضافة الى النسبة الاكبر من المشاريع الصناعية المتوقفة، وما نسبته 90% من الموجودات المصرفية، يبدو دعماً عبثيا بدون برنامج لخلق القطاع الخاص القادر أولاً !!

مؤشر الحرية الاقتصادية يشير الى ان العراق يحتل المرتبة 168 من 180 دولة !! ومؤشر مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الاجمالي لا يتعدى 25%، ومؤشر مساهمته في الصادرات السلعية أقل من 1%، بسوق للاوراق المالية لا تتعدى قيمة الاسهم المدرجة فيه 9.5 مليار دولار (بما فيها أسهم البنوك والاتصالات وشركات الاستثمار والتأمين ....الخ)، وقطاع مصرفي خاص لا زال ضعيفاً ومحدود القدرة على منح الائتمان وتقديم الخدمات المصرفية.

من هذا يتبين ان الحكومة مازالت هي المستثمر والمشغل و(المنتج) الاكبر، وهي المتأثر والمأزوم الاكبر في نفس الوقت.

فالتحفيز بماذا؟  ولمن؟

منذ 2003 اضاعت الحكومة فرصاً لا تحصى لخلق وتنمية القطاع الخاص، ببرامج واعية تعتمد نموذج تنمية اقتصادي يستهدف التخلص من النموذج الريعي . ووقفت عاجزة، فلا هي اعادت الروح لمنشآتها الصناعية الكبيرة وطورتها، ولا هي اقدمت على الدفع بالقطاع الخاص للعب دوره، وبقيت معولةً على (وهم) الاستثمار الخارجي، التي فشلت في خلق البيئة الجاذبة له، ببيروقراطيتها المتحجرة وفساد مؤسساتها، وقلقها السياسي والأمني المزمن . ربما تناثرت هنا وهناك برامج صغيرة غير متكاملة كان أساسها منح القروض والسلف (وهي الطريقة البدائية للدعم)، ويبدو إن اقتصاديينا لا يجدون الا التوزيع ذا الاهداف السياسية لكسب الولاءات واخماد الفورات الاجتماعية متى ما حصلت.

ما نتوقعه هو انخفاض في النشاط الاقتصادي مصاحب لهبوط في كلٍ من التوظيف والدخول، وبالتالي انخفاضاً في الطلب الكلي على السلع والخدمات، وانخفاض معدل التضخم الناتج عن انخفاض السيولة في أيدي الناس.. ما سنواجهه هو (اضطرار) المستثمر الاكبر الى (التقشف) Austerity، بسبب انخفاض الايراد الرئيسي بنسبة مضطردة مع الانخفاض في سعر النفط ..(لحد كتابة المقال بحدود 60%).

القسم الاكبر من التقشف (كالعادة) سيطال الموازنة الاستثمارية ! سيتم تأجيل المشاريع الجديدة، وسيطال التوقف المشاريع القائمة، ثم سيتم تخفيض المصاريف التشغيلية (السلعية والخدمية) كمقدمة لتخفيض نفقات الرواتب والتعويضات والاكتفاء بالأساسي منها ! واذا استمر التدني في اسعار النفط لمدة اطول سنصل الى المستوى (الحدي) الذي لا يمكن التقشف بعده... ومن ثم سيكون الطريق ممهداً نحو القروض والاستدانة ...!

هذه دورة ذات علاقة طردية مع اسعار النفط نعيشها منذ نصف قرن!

لم ننشئ قطاعاً خاصاً يمكن أن يلعب دوراً أساسياً في الحركة الاقتصادية لننقذه او ندعمه، وبالتالي فان الحكومة ستدعم نفسها على حساب حاجات ورفاهية موظفيها ومواطنيها.. وستفاقم حالة الركود ... حتى انتعاش اسعار النفط مرة اخرى.. وستمضي أعوام اخرى لا تعلمنا شيئ!

يمكن لسياسة الدعم النقدية أن يكون لها بعض الاثر، من قبيل خفض سعر الفائدة وضخ السيولة (ان وجدت)، واسقاط ديون الشركات او تأجيلها ....الخ، ولكن المشكلة في الطلب الكلي الذي يحتاج الى سياسة مالية توسعية قائمة على اساس خلق قطاع اقتصادي انتاجي خاص يسهم في تكوين العمالة ويخفف عبء التوظيف عن كاهل الحكومة ... وليس كما هو الحاصل منذ 2003 بالانفاق المؤدي الى خلق الطلب على السلع المستوردة، اي تنمية صناعات دول الجوار وغيرها!!

أجد ان تجربة السبعة عشر عاما الماضية تستدعي المباشرة بنموذج (الدفعة القوية) للتنمية، لكنها تستلزم إرادة قوية، وإدارة أقوى، وتكامل مفاصلها، ووضوح أهدافها . مباشرة الدولة في الاستثمار في مشاريع كبيرة ومكثفة، بدءاً بالقطاعات العقارية والصناعات التحويلة، يمكن أن تشكل برنامج التحفيز المطلوب، فلا مندوحة من استمرار انتظار المستثمر الاجنبي، كما ان عرض رأس المال (عن طريق القروض) وحده لا يستنهض المستثمر المحلي، فالمشاريع العقارية والصناعية الضخمة التي لا يقوى القطاع الخاص عليها حاليا، ستكون خالقة للطلب، الذي يحفز المستثمر المحلي والاجنبي للنهوض بمهمة تلبيته، ضمن الدورة الاقتصادية الناشطة المستهدفة.

 

كتب: د. مهدي البناي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم