صحيفة المثقف

أحْوَالٌ و مَقَامَاتٌ

بليغ حمدي اسماعيلتُعرَفُ تَقوى الرجل بثلاثة أشياء؛ في أخذه ومنعه وكلامه، وما أجمل أن تعقد التقوى بالتوكل حيث يطمئن قلب العبد بموعود الله تبارك وتعالى، وهذه التقوى وإن كانت هبة ومنحة من الخالق عز وجل فهي لا تمنح إلا للعاقل الذي وصفه صاحبنا شقيق البلخي بصفات محددة هي: أن يكون خائفاً لما سلف منه من الذنوب، وأن لا يدري ما ينزل به ساعة بعد ساعة، وأن يخاف من إبهام العاقبة، لا يدري ما يختم له. و يعد الشيخ الجليل أبو علي شقيق بن إبراهيم الأزدي من أبرز من تحدث عن التقوى وخصال المتقين من أهل التصوف الإسلامي، ولسوء حظ الثقافة الدينية في مصر أن أهل الحب الإلهي والمعروفين بالمتصوفة يعانون قدراً كبيراً من التجاهل الإعلامي والغياب الثقافي لأنهم ارتبطوا فقط بالموالد والاحتفالات الشعبية البعيدة عن تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة . وبات من الضروري إلقاء الضوء على هؤلاء الذين ظلمهم إعلام غافل وثقافة باهتة .

وشقيق البلخي هذا من أهل بلخ، لذلك سمي بالبلخي، وصار إماماً وشيخاً كبيراً من مشاهير الرجال في خراسان لاسيما  بين أعلام التصوف السني، وكان شقيق البلخي أستاذاً لحاتم الأصم، وهذا الأخير هو أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام أهل السنة  في القرن الثالث الهجري. ويروى أن سبب سلوك شقيق البلخي طريق التصوف والزهد أنه قد خرج يوماً إلى تركيا التي عرفت في هذه الأوقات ببلاد الأتراك، لتجارة يطلبها، فلقي خادماً هناك فبادره بقوله: ليس يوافق قولَكَ فِعلُكَ . فقال له شقيق البلخي: كيف ذاك؟ . قال الخادم الذي نراه في بعض المصادر الأخرى ككتاب جوزيبي سكاتولين راهباً بوذياً، زعمت أن لك خالقاً رازقاً قادراً على كل شئ، وقد تغيبت إلى هنا لطلب الرزق، ولو كان كما تقول فإن الذي رزقك هاهنا هو الذي يرزقك ثَمَّ، فتربح العناء ! .

ولقد سئل شقيق البلخي عن سر زهده وسلوكه نحو التصوف فقال: وكان سبب زهدي كلام هذا الخادم التركي وما تركه في صدري من أثر وتأثير .  ولما سمع شقيق كلام الخادم رجع إلى مسقط رأسه على الفور، فتصدق بجميع ما ملكه من متاع الدنيا وفتنتها ويقال أن له وقتها ثلاث مئة قرية تحت أمرة وإمرته، فتركها جميعها للفقراء والمحتاجين، واستبق في طلب العلم والمعرفة .

وتذكر كتب التأريخ الصوفي أن شقيق البلخي هو أول من تكلم في علم الأحوال ببلاد خراسان، ولقد تتلمذ على يد شيخ الصوفيين الباهر إبراهيم بن أدهم المتوفى في 161 هجرية، وله قصة مع هذا الأخير نوردها في هذه السطور، التقى إبراهيم بن أدهم وشقيق بمكة فقال إبراهيم لشقيق: ما بدو أمرك الذي بلغك هذا؟ قال: سرت في بعض الفلوات فرأيت طيراً مكسور الجناحين في فلاة من الأرض فقلت: أنظر من أين يرزق هذا فقعدت بحذاه فإذا أنا بطير قد أقبل في منقاره جرادة فوضعها في منقار الطير المكسور الجناحين فقلت لنفسي: يا نفس الذي قيض هذا الطائر الصحيح لهذا الطائر المكسور الجناحين في فلاة من الأرض هو قادر على أن يرزقني حيث ما كنت فتركت التكسب واشتغلت بالعبادة.

فقال له إبراهيم: يا شقيق ولم لا تكون أنت الطير الصحيح الذي أطعم العليل حتى تكون أفضل منه قال: فأخذ يد إبراهيم يقبلها ويقول: أنت أستاذنا. ولقد اشتهر شقيق بالتوكل وله أقوال كثيرة فيه، ولعله ألزم نفسه بأشد أنواع التوكل وأقساه، كما تحدث عن الزهد والخوف، إلا أنه وضع قمة تجربته الصوفية التعبدية قولاً وفعلاً في الشوق والمحبة . 

وله قصة أخرى مع سلطان زمانه الخليفة هارون الرشيد الذي يعد من أمتع الخلفاء في تاريخ الدولة الإسلامية لما انفرد به عصره من وجود النوابغ في شتى صنوف المعارف والعلوم، وتقول القصة أن شقيق البلخي  دخل على هارون الرشيد يوماً،  فقال له هارون الرشيد: أنت الزاهد؟ فقال: أنا شقيق، ولست بزاهد. قال هارون: أوصني . فقال له شقيق: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قد أجلسك مكان الصديق رضي الله عنه، وإنه تعالى يطلب منك مثل صدقه، وإنه تعالى أعطاك مكان عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه، وهو يطلب منك الفرق بين الحق والباطل مثله، وإنه تعالى أقعدك مكان ذي النورين عثمان رضي الله عنه، وإنه يطلب منك حياءه وكرمه، وإنه أقعدك موضع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنه يطلب منك العلم والعدل كما يطلب منه. قال له الرشيد: زدني من وصيتك. فقال شقيق: نعم، إن لله داراً تعرف بجهنم، وإنه جعلك بواب تلك الدار، وأعطاك ثلاثة أشياء لترد عباده عنها: أعطاك بيت المال، والسوط، والسيف، وأمرك أن تمنع الخلق من دخول النار بهذه الثلاثة، فمن جاءك محتاجاً إلى طعامٍ حلالٍ فلا تمنعه حقه في بيت المال، حتى لا يسرق ويقتل. ومن خالف أمر دينه تعالى، وخرج على حدود الله فأدِّبْه بالسوْط. ومن قتل نفساً بغير حق فاقتله بالسيف، بإذن ولي المقتول. فإن لم تفعل ما أمرك الله – تعالى – فأنت تكون الغريم لأهل النار، والمتقدم إلى أهل البوار.

فقال له الرشيد: زدنا. فقال له شقيق: يا أمير المؤمنين، مثلك كمثل معين الماء، ومثل سائر العلماء كمثل السواقي على منبع الماء، فإذا كان المعين صافيا لا يضر كدر السواقي، وإذا كان المعين كدرا لا ينفع صفاء السواقي. فبكي هارون الرشيد من قوله، وأمر له بمال، أبي أن يأخذه، وتركه وانصرف.

وما يعنينا دوماً عند ذكر أهل وأقطاب التصوف ملامح تجربتهم الصوفية والتي تتجسد في أحوالهم اللفظية ومقاماتهم الكلامية التي تعبر عن خلاصة معارفهم وعلومهم، ولشقيق البلخي جملة من الحكم الصوفية الجامعة في التوكل والزهد والشوق والمحبة والخوف والتقوى، ففي التوكل يقول: " التوكل أن يطمئن قلبك بموعود الله " .

 ويقول في الزهد: " الزاهد الذي يقيم زهده بفعله، والمتزهد الذي يقيم زهده بلسانه "، ويقول أيضاً: " مبتدأ الدخول في الزهد أدب النفس بقطع الشهوات من الطعام والشراب على القوت الكافي، ومنعها من الشبع بالليل والنهار، حتى يصير الجوع لها شعاراً والطعام لها دثاراً، فيجعل لنفسه طعاماً معلوماً، ويطرح مؤنة الآدام، ويجعل طعامه قوتاً، والصوم أقوى وأسرع في السير، وامتلاء جوفه ىمشغل لجسده عن العبادة والصلاة، ولكن ليجوع نفسه حتى يشتغل بالجوع عن التطلع إلى فضول الشهوات والتمني " .

ويرى شيخنا شقيق البلخي الزهد والخوف متلازمين وفي حالة اتصال دائمة، فنجده يقول في أحواله: " الزهد والخوف أخوان ؛ لا يتم واحد منهما إلا بصاحبه، وهما كالروح والجسد مقرونان، لأن الزهد لا يكون إلا بالخوف، وإذا لزم الخوف اقترن به الزهد، فصار زاهداً، والتقى نور الخوف ونور الزهد " .

ونجده في موضع آخر يقرن الزهد بالخوف اقتراناً تاماً، يقول: " ومبتدأ الخوف أن يلزم قلبه ذكر الموت حتى يرق، ويلزم نفسه الخشية لله والحذر والفرق من الله، حتى يخافه خوفاً كأنه يراه، فإذا مضى به يوم واحد وهو آخذ في الرياضة والخوف لطلب منزلة الخوف نظر الله إليه إذا علم منه النية والصحة فألزمه شيئاً من المهابة، وألزم قلبه نور الخوف، فإذا مضى به يوم آخر وهو على ذلك زاده الله مهابة وزاده في القلب نوراً، فصارت المهابة على وجهه".

وكعادة أهل التصوف أن يصورون تجربتهم الروحية ومكابداتهم الصوفية في أحوال عادة ما تدور حول الشوق والمحبة، لذلك لقب المتصوفة بأهل الحب وإن وجدوا مخالفة واعتراضاً من أهل زمانهم والأجيال المتعاقبة، إلا أنهم يرون الشوق إلى الجنة من صفات أهل الصدق . فنجد شقيق البلخي يتحدث عن حال الشوق بقوله: " ومبتدأ الشوق إلى الجنة أن يتفكر في نعيم الجنة وما أعد الله فيها لساكنيها من أنواع الكرامة والنعيم والخدم، ويشوق نفسه إلى الحور العين والنعيم الدائم المقيم " . ويعتبر شقيق البلخي حال الشوق منزلة مهمة للعبور إلى حال المحبة، وهي منزلة المحبة لله، فيقول: " فإن كثيراً من الناس جازوا منزلة الخوف والشوق إلى الجنة فصاروا إلى منزلة المحبة لله، فليس كل واحد يصير إلى هذه المنزلة، لأنها أرفع المنازل وأشرفها وأبهاها، ولا يصيِّر الله إلى هذه أحداً إلا من تقوَّى قلبه عليها باليقين الصادق والفعال الفائق المطهر من الذنوب، فإذا صيره الله إلى هذه المنزلة كان في قلبه نور المحبة فغلب عليه من غير أن يكون فارقه نور الزهد والخوف والشوق إلى الجنة ولا نقص منها شئٌ " .

ونختتم سطورنا هذه عن شقيق البلخي بمقولة بليغة شديدة الإيجاز قوية التأثير وهو يتحدث عن المعرفة بالله، يقول: " من أراد أن يعرف معرفته بالله، فلينظر إلى ما وعده الله ووعده الناس، بأيهما قلبه أوثق " .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم