صحيفة المثقف

الجميل والجليل في قصيدة كذَّبتُ صِدقي كي أصدِّق كذبها للشاعر يحيى السماوي

رحيم الغرباويمفهوما الجميل والجليل أخذتا مساحة واسعة في الفكر الفلسفي والنقدي فمن الفلاسفة يرى الجميل في المنفعة، ومنهم في الانسجام، ومنهم من يرى الجميل في اللذة والمتعة شكلاً ومضموناً، ويبدو أنَّ الرأي الراجح للشعور بالجمال يعتمد على أساس التذوق ووسيلته الحس، وهو واحد لدى الجميع، ولا فارق البتة بين الناس في طريقة تأثرهم بالأشياء، لكن لاتكون بنفس الدقة لدى جميع الناس، ويرجع ذلك إلى نقص في الذوق إلى الخيال والملكات العقلية الاستدلالية، ويبدو أنَّ الاختلاف في الذوق أقل بكثير من الاختلاف بالمسائل الفكرية والمنطقية، أمَّا الجليل فإنَّه يعتمد الشعور والإحساس وكل جليل يستشعر من خلال عظمته أو قدسيته وقيمته ولا نتفق مع طروحات (بيرك) الذي يوقف الجليل على عامل الخوف والفزع والذي يعدُّه أقوى مؤثر على الروح، والخوف يعني توقع الموت أو الألم ، ويرى كل ما بدا للإدراك في صورة مثيرة للخوف يسمى جليلاً (1)، وهذا في مفهومنا كمسلمين لايعد جليلاً، فالجليل لدينا كل ما يثير ذهولنا وارتياحنا إزاء عظمته، فهو جليل .

وبهذا يمكن أنْ نحدد مفهومي الجميل والجليل، من أنَّ ما يمنح المتلقي رضى ودهشة وسرور فهو جميل، وكل ما يشعرنا بالذهول من رهبته والارتياح لعظمته، وقدسيته فهو جليل؛ لذا سعى الفنان لاسيما الشاعر من تطييب حواسنا وأذواقنا؛ لأننا لانريد من الفنان "ما يقذى عيوننا في الطبيعة أو يضع تحت أنظارنا ما اعتدنا أنْ نشيح عنه أبصارنا في عالم الواقع(2)، وللفن قدرته على إضافة جمالٍ للأشياء القبيحة والجميلة على السواء؛ ليجعل من الأولى جميلة ومن الأخرى أجمل ، ولعل الفيلسوف الألماني كانت يقول "إنَّ الجمال الطبيعي لهو شيء جميل، وإنَّ الجمال الفني هو تصوير جميل لشيء سواء أكان هذا الشيء جميلاً أم قبيحاً في الطبيعة نفسها " (3)، ويمكننا أن نقرأ قصيدة (كذَّبتُ صدقي كي أصدِّق كذبها) للشاعر يحيى السماوي  هي واحدة من اللوحات المعبِّرة لمفهومي الجميل والجليل، إذ يقول: (4)

متماهيان

ترى سرابي كوثراً

وأنا أراها في بساتين الأنوثةِ والمنى

تفَّاحة الفردوس في حلمي القديم ... ،

ونخلةَ الله الظليلة

والمبشِّرة البتول

فيها من البحرِ

اللآلئ والنوارس والسحاب،

وبي من البحر المتاهةُ والمدى واللافضول

نجد السماوي يمازج بين الجميل والجليل، ويبدو أنَّ كلَّ جليل جميل وليس كل جميل جليل، فالألفاظ (كوثر، بساتين، الأنوثة، المنى، تفاحة، حلم، اللآليء، النوارس، السحاب) جميعها تبعث على المتعة والسرور والفائدة، ويبدو أنها مُشكَّلة من أصوات رخوة هامسة، وهي (الواو، والسين، والثاء، والنون، والميم، واللام،والحاء) تتواءم مع النفس الطروبة التي تستشعر الرقة والشفافية .

أما ألفاظ المقدس فهي: (الكوثر) التي ذكرها القرآن الكريم في قوله (إنَّا أعطيناكَ الكوثر)، و(الفردوس) وهي أيضاً لفظ مقدس يحيلنا إلى جنان الخلد و (نخلة الله، والبتول ) وكلاهما مقدستان، كذلك لفظة (البحر) لما له من عظمة وسعة ورهبة وذهول .

ثم يقول:

وأنا المغامرُ في تهيُّمهِ بكأس زفيرها،

وبلثمِ مُقلةِ نهدها المائيِّ

والطفل المشاغب .

فنراه يستمتع بجمال المرأة المعشوقة لاسيما مكمن الإثارة والتي تتطلع النفس الجامحة إلى فتوته وشبابه، واصفاً إياه بالمائي؛ كون الماء يمثل وسيلة الارتواء .

ثم يقول:

فأتيتُها

مُستأذِناً شرف الدخول

في بيتِ طاعتها

أبشِّر بالفسيل النخلَ

والتنُّور بالمحراثِ

والصحراء بالأنعامِ والمطر الهَطول

وأزفُّ للكأس الحَرامِ

بِشارة الخمرِ الحلالِ بِزِقِّ مائدة

الذهولْ.

فنراه يشير إلى جلال المحبوبة بقوله: (مُستأذِناً شرف الدخول)، فيقوم بالبشارة لكل ما هو جميل بنفعه (النخيل بالفسيل، والتنور بالمحراث، والصحراء بالأنعام) وهذا الخير هو ما تتوق له كلُّ نفس، وتراه جميلاً، ثم يعطف الشاعر مرَّةً أخرى على الجليل المقدس (بشارة الخمر الحلال) وخمرة الشاعر هي رمز للخمرة التي ذُكِرت في القرآن الكريم التي يسقيها الغلمان المخلدون للفائزين بالجنة، ولربما يشير إلى مائدة السيد المسيح (عليه السلام) المقدَّسة .

ثم يحاول أنْ يصف الحبيبة من أنها بشيرة؛ لذلك هي مُقدَّسة في هواها؛ وهو (المُبشِّر، والمُبَشَّر، والرسالة، والرسول) بقوله:

فهي البشيرةُ في الهوى

وأنا المُبَشِّرُ

والمُبَشَّرُ

والرسالةُ

والرسول .

ويبدو أنَّ الشاعر تعالقَ مع الحبيبة ذات الجمال الآسر، فقد وضعها في جميع مواطن الجمال؛ والمُلفِت أنَّ الشاعر مُحِبٌّ وَلِهٌ يتوق إلى موطنه (الحبيبه) كلّ حين ويبدو أنه لما استحسن صورة المرأة جعلها صورة الوطن الذي يتوق إليه كلَّ حين ولعلها امرأة في وطنه مايزال يتوق إليها في أغلب أشعاره فصارت لديه بمنزلة المقدس لما يضفيه عليها من صور الجلال؛ لذا صارت له ملاذ الهوى، فنراه يعيش تباريحه المقدسة، ما يشعرنا أنَّه يتوق إلى موطن الأهل والأحبة والذكريات والمرتع الجميل .

ثم ينهي قصيدته بلوحة فنية جميلة يقول:

سأعود

طفلاً مُشمِس الأيامِ

في ديجور مملكة الكهول .

لذلك حين يعيش في أروقة الجمال والجلال يرى نفسه سيعود طفلاً مشمس الأيام؛ كناية عن السعادة والسرور والأمل الباذخ المعطاء؛ ما جعل كهولته مشمسة الأيام كما هي الطفولة المشمسة حتى غدت مملكةً مضيئة الدياجير .

 

د. رحيم الغرباوي

..............

الهوامش:

(1) تراث الإنسانية، أقلام الصفوة الممتازة من الأدباء والكتَّاب والعلماء، الهيأة المصرية للتأليف والترجمة : 1/70-71

(2) الفنان والإنسان، د. زكريا إبراهيم، مكتبة غريب، الفجالة، مصر،  1976: 89

(3) الفنان والإنسان: 94

(4) أطفئيني بنارك (مجموعة شعرية، يحيى السماوي، دار تموز، ط1، 2013م:13 وما بعدها .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم