صحيفة المثقف

التضامن العالمي كنقد عملي لأسلوب الحياة الإمبريالي

بشار الزبيديبقلم: أولرش براند

ترجمة: بشار حاتم


إن العولمة الرأسمالية وما يرتبط بها من اضطرابات اقتصادية وسياسية واجتماعية وبيئية هي في الأساس استراتيجية للدول الإمبريالية ورأس المال. ولكنها تقوم أيضًا على حساب الحياة اليومية الطبيعية لكثير من الناس في العالم الشمالي. من أجل الوصول ألى مفاهيم بعض القضايا التي يجب أن تأخذها كل من الأممية المُعاصرة والتضامن العالمي في عين الاعتبار ضد تعسف العولمة الرأسمالية، اقترحت أنا وماركوس فسن مشروع كتاب "أسلوب الحياة الإمبريالي".

أصبح أسلوب الحياة الإمبريالي هذا ممكنا بفضل حقيقة أن الشركات والموظفين في عملية الإنتاج أو القطاع العام أو الأشخاص في الحياة (اليومية) يصلون إلى الموارد والعمالة الرخيصة في مكان آخر وهذا الوصول غالبًا ما يرتبط بالمُعاناة والاستغلال والإذلال والدمار الإيكولوجي. تعني عبارة"في مكان آخر" الوصول داخل مجتمعات الشمال العالمي. بالنسبة للبعض، يخلق هذا الأمر القُدرة على العمل والازدهار المادي،وأيضًا الكافح والرغبة السياسية التي تُشكل بُنية أساسية فاعلة وخدمات ذات فائدة عامة وبالنسبة لآخرين، يعني ذلك التدمير التدريجي لسُبل عيشهم وتعزيز للعلاقات التبعية.

إن عدم تناسق الأسلوب الإمبريالي للإنتاج والعيش يكمن من ناحية في حقيقة أن الكثير من الناس يستفيدون من ذلك جزئيًا - على سبيل المثال شراء مُنتجات رخيصة وفي ذات الوقت يعانون عندما يضطرون لبيع قواهم العاملة في ظل ظروف تنافسية. من ناحية أخرى، فإن أسلوب الحياة الإمبريالي يخلق قيودًا عندما يتحتم على المرء العمل والعيش في الوقت الذي تكون فيه البدائل صعبة. أو إذا كانت حالة الاستهلاك تُشير إلى شراء مُنتجات جديدة على الرغم من عدم وجود الرغبة. وهذا الفعل يشكل تعارض ثانٍ،إذا لم يُنظر إليه كعامل إكراه.

يرتبط اسلوب الحياة هذا ارتباطًا وثيقًا بالكولونيالية والرأسمالية النامية، وعلى الرغم من جميع الاختلافات، سادت رأسمالية ما بعد الحرب في مجتمعات الشمال العالمي. ومن خلال عملية العولمة خلال السنوات الثلاثين الماضية، تم تعميق الرأسمالية بشكل أكبر من خلال زيادة الوصول إلى  القوى العاملة والموارد في الأماكن الأخرى وكذلك عن طريق الرقمنة المصحوبة بالاستهلاك العالي للموارد. يزداد وصول الناس إلى الموارد بشكل ممنهج، مثل الأجهزة التكنولوجية الحديثة، ولكن أيضًا تزداد حاجتهم إلى الملابس والسيارات والطعام وأشياء أخرى، والتي تنتج على وجه الخصوص العمالة ذات الأجور المُنخفضة في الجنوب العالمي. كثير من الناس يشهدون هذه التجربة بشكل ذاتي كما لو أنها رفاهية. لكن الانقسامات النيوليبرالية في الشمال العالمي، والتوسع في قطاع الأجور المتدنية وزيادة استخدام الموارد يعمقان أيضًا أسلوب الحياة الإمبريالي.

الوعي مقابل الدخل:

لا يعني أسلوب الحياة الإمبريالي أن جميع الناس في الشمال يعيشون بنفس الوضع. تُظهر الدراسات أن حجم الأثر البيئي يعتمد على الوعي أقل من الاعتماد على الدخل. يمكن لأولئك الذين لديهم دخل أعلى استخدام المُنتجات والخدمات التي يتم إنتاجها في ظل ظروف اجتماعية وبيئية صعبة بشكل متزايد. وكما قلت: إن أسلوب الحياة الإمبريالي كما نعيشه في بلادنا هي طريقة حياة موجهة والتي لا تُدمر البيئة فحسب، بل تقوم أيضًا على عدم المساواة الاجتماعية وتُفاقمها. تعمد الطبقات المتوسطة إلى تمييز نفسها بشكل واضح عن الطبقات الدنيا من خلال إظهار أنها تستطيع شراء سيارات وتمارس الكثير من الاستهلاك بسبب دخلها المُرتفع. ونتيجة لذلك، فإن الأشخاص الذين لديهم أموال أقل هم أكثر تهميشًا ويشعرون أيضًا بالتهميش.

هذه الطريقة في الإنتاج وأسلوب الحياة تصل بوضوح إلى الحدود البيئية العالمية. حتى في الماضي كانت هناك دائمًا مناطق محددة انهارت إيكولوجيًا. ولكن الخطر البيئي اليوم له بعدًا عالميًا. بطريقة ما، ينتصر أسلوب الحياة الإمبريالي حتى " في الموت". وفي أوقات الأزمات، ينتج تناقضًا ثالثًا وهو سياسي في حد ذاته: خاصة في الشمال العالمي، فإن أسلوب الحياة هذا له تأثير ثابت في أوقات الأزمات، لأن المواد الغذائية الرخيصة نسبيًا لا تزال تُجرف إلى المُدن عبر السوق العالمية. وفي الوقتِ نفسه تتفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية في أماكن أخرى،ومعها أسباب النزاعات والهجرة.يعتمد أسلوب الحياة الإمبريالي أيضًا على حقيقة أن ظروفه وعواقبه السلبية غير مرئية أو يتم تجاهلها.

قبل بضع سنوات، أشارت الكاتبة إيليا تروجانوف في مقال في صحيفة دير شتاندرد Der Standard النمساوية إلى دراسة أُجريت بتكليف من ٢٠ حكومة بتكليف من وكالة التسجيل الألمانية للبيانات الاجتماعية والاقتصادية. توصلوا إلى الاستنتاج التالي: إذا ارتفع متوسط درجات الحرارة العالمية كما حدث مؤخرًا، فبحلول عام ٢٠٣٠ سيموت أكثر من مائة مليون إنسان بفعل العواقب المُباشرة، مثل الجفاف ونقص مياه الشرب وفشل زراعة المحاصيل والفقر والمرض. تقول تروجانوف: "١٠٠ مليون ليس رقماً صغيراً، ١٠٠ مليون تُعتبر أكثر من ضحايا الحربين العالميتين. إذا لم تدركوا هذه الحقيقة من قبل، فلا تحزنوا فقد تم حجبها عنكم. والسبب يكمن أقل في السكون الذي نواجه به دمار العالم، لأن هوليوود وغيرها من صناعات الثقافة الشعبية قد عودتنا على تغلغلها في كل مكان منذ سنوات، وبالأحرى جعلتنا نغفل بسهولة بند ثانوي من الاستنتاج (المذكور في الأعلى): ‹بأن أكثر من 90 بالمائة من الذين سيفقدون حياتهم سيكونون من سكان الدول النامية.

يمكن أيضًا فهم السياسات اليمينية المحافظة والمتطرفة في أوروبا والولايات المتحدة بشكل أفضل عبر استخدام مصطلح أسلوب الحياة الإمبريالي. ففي أوقات الانقسام الاجتماعي والتخوف، تعلن قبل كل شيء هذه السياسات عروضها السياسية للدفاع عن مصالح أولئك الذين يعيشون في المراكز الرأسمالية من خلال الهجرة والتجارة والسياسة الخارجية، فيما يتوجب على مناطق العالم الأخرى أن تحافظ على دورها كمناطق موردة للسلع الرخيصة ويتم في المقابل رفض الأشخاص الذين يبحثون عن المساعدة. ويُظهر أسلوب الحياة الإمبريالي أيضًا أنه أصبح ديناميكياً للغاية،حتى بين سكان الجنوب العالمي،من خلال ارتقاء الدول الصاعدة مثل الصين أو البرازيل. إن هذا الأسلوب يجعل توسع الرأسمالية جذابا للكثير من الناس بشكل دائم. من الأمور الحاسمة في تدوير أسلوب الحياة الإمبريالي هي الفئات الغير متكافئة عالميًا داخل المجتمعات والتي تمتد على طول الطبقات والأنواع والأجناس وأيضًا عبر أنماط الإنتاج والاستهلاك المُعممة.

إظهار البدائل:

أتواجد في الإكوادور بين الحين والآخر. هناك رأيت مدى سرعة زيادة عدد السيارات، وخاصة سيارات الدفع الرباعي، في أوقات ارتفاع أسعار النفط والزيادات المُحتملة في الأجور وزيادة دخل النقد الأجنبي للدولة. هناك يسري أيضًا أسلوب الحياة الإمبريالي بشكل مباشر.

في الوقت نفسه، تُبقي عولمة الرأسمالية العديد من الناس في ظروف معيشية كارثية. من منظور جيوسياسي، تُزيد العولمة الاقتصادية والتوسع العالمي في أسلوب الحياة الإمبريالي من الحاجة إلى الموارد الطبيعية في بلدان جنوب العالم. وتزداد المُنافسة على الأراضي، كما على سبيل المثال في أفريقيا. وبهذا تقوي الإمبريالية نفسها وهذا تناقض رابع لأسلوب الحياة الإمبريالي "التوترات البيئية الإمبريالية". في عملية عولمة صناعة المواد الغذائية، يتم تشريد الناس من أراضيهم، التي يكسبون من خلالها قوتهم، من أجل زراعة نخيل الزيت وقصب السكر أو فول الصويا للصناعات والاستهلاك العالمي في الشمال. إذا تم إذلالهم وحرمانهم من حقوقهم مقابل أكثر بقليل من دولارين في اليوم كعمال مزارع في أراضيهم السابقة، فسيتم اعتبارهم في إحصاءات البنك الدولي على أنهم "اُنتشلوا من الفقر". يُمكننا مواجهة الواقع المرير لحياة الكثير من الناس عن طريق المُدافعين عن العولمة الذين يريدوننا أن نصدق بالإحصاءات التي تشير إلى انخفاض مستوى الفقر المادي في العالم.

يجب أن يدفعنا تحليل الديناميات الحالية إلى البحث عن التناقضات والمقاومات والبدائل لأسلوب الحياة الإمبريالي وتقويتها. أوضحنا أنا وماركوس فسن (شريكي في تأليف الكتاب)  في العديد من المُناقشات المُثيرة في ورش العمل وأثناء العروض التقديمية لكتابنا أن مصطلح أسلوب الحياة الإمبريالي يخص الكثير من مُعاناة الناس. يُشارك الشباب في كتابة ورش عمل حول موضوع أسلوب الحياة الإمبريالي من أجل فهم العالم وتغييره مع الآخرين بشكل أفضل. عن طريق رفض الميول السياسية الاستبدادية وزيادة الاستقطاب الاجتماعي وإثراء النخب. إن تطوير التضامن العالمي بسرعة يعني فهم الرأسمالية المعولمة وتغييرها من كونها علاقة سلطوية متعددة الجوانب. يبدو هذا صعبًا اليوم حيث أن الخطاب السائد حول العولمة هو إبقاء أعلام القدرة التنافسية الاقتصادية والمنافسة على المواقع الجغرافية مرفوعة عاليًا. والعهد هو "إذا تكاتفنا في مواقعنا، فسنعيش بشكل أفضل" وليس بعيدًا عن "أمريكا أولاً!".

كيف يُمكن أن تبدو بدائل الأسلوب الإمبريالي للإنتاج والحياة؟ ثمة مجموعة واسعة من المعارضات والاقتراحات، مثل كيفية الدفاع عن الحقوق الاجتماعية دون القيام بذلك على حساب الآخرين، وإنما من خلال التشكيك في القوى العظمى وعلاقات السلطات المرتبطة بها. مؤسسة روزا لوكسمبورغ وشركاؤها العالميون جزء من هذا البحث العملي عن البدائل. وقبل كل شيء  ثمة حاجة إلى إجراء تحول جذري للغاية في نموذج التنمية الشمالي المُهيمن. في "صيف الهجرة" عام 2015، أظهر العديد من الأشخاص أنهم على استعداد لمغادرة مناطق الرفاهية الخاصة بهم. إن تحويل النظام الغذائي إلى زراعة بيئية يعني اتباع نظام غذائي مختلف ونظام إنتاج غير صناعي عالمي مختلف.

إن هذا الأمر يتعلق أيضًا بإظهار أن مثل هذه التطورات لا يُمكن أن تتم بدون صراعات ونضالات. أحدى أهم التجارب الحالية الهامة هي نضال حركة " لقد طفح الكيل" للتخلص التدريجي من استخراج الفحم البني وتحويله إلى مصدر طاقة في ألمانيا. هذا النضال يجب أن يسير جنبًا إلى جنب من أجل التخلص من واردات الفحم من كولومبيا وفي أي مكان آخر يؤدي فيه استخراج الفحم إلى كوارث اجتماعية وبيئية. وهناك العديد من هذه الأمثلة.

أخيراً: ليس هناك تضامن عالمي مع «الجنوب». كما أن هناك حاجة لانتقاد أسلوب الحياة الإمبريالي للطبقات العليا والمتوسطة في بلدان الجنوب العالمي. لأن هذا النهج يُثبت جسور التسلط ويخلق التوافقات وكل ذلك يجري أيضًا على حساب الفقراء والطبيعة. أن النقد الذي لا يتم تقديمه مع بديل بيئي مُثمر مُلائم وبكبرياء من قبل أشخاص ومنظمات لهدف تحرري، لا يجب ان يقف عند هذا الحد.

 

.............................

نبذة عن الكاتب:

أولريش براند: أستاذ جامعي ألماني في السياسة الدولية يعمل في جامعة فيينا، وعضو في مؤسسة روزا لوكسمبورغ الألمانية. وهو يعمل منذ سنوات على نقد قضايا العولمة الرأسمالية والسياسات البيئية. قام بتأليف كتاب (أسلوب الحياة الإمبريالي) والذي يتحدث عن استغلال الإنسان والطبيعة في الرأسمالية العالمية بالتعاون مع الباحث الألماني ماركوس فسن. في تموز 2020 سيظهر له كتاب جديد يتطرق فيه عن أزمة أسلوب الحياة الإمبريالي وعن بدائل العولمة الاستعمارية.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم