صحيفة المثقف

سلامة الأمة وثنائية الحب والحرب

عصمت نصارما أكثر الأقوال والكتابات التى تناولت الحب بسياقاتٍ عديدة - نفسية واجتماعية ودينية وجنسية وفلسفية وأدبية - ولعل أشهر الأقوال الذائعة بين العوام والمثقفين (الحب أعمى يقوده مجنون) أما أشهر السياقات الأسطورية هى "إيزيس وأزوريس"، و"أسطورة التفاحة الذهبية"، و"أسطورة كيوبيد".

وفى ميدان الفلسفة نذكر شذرات "هيرقلطيس (540 ق . م -480ق. م)" عن جدل الحب والحرب كسبيل للمعرفة والتعقل وإدراك سر الحياة، ونظرية "أمبادوقليس (490ق.م-430ق.م)" في نشأة الوجود والعناصر الأربعة التى تتحرك بموجب الحب والكراهية، ومحاورة المأدبة "لأفلاطون (427ق.م-347ق.م)"، تلك التى ربط فيها بين الحب والسّمو الأخلاقي والعزوف تمامًا عن كل ما فيه شهوة أو متعة جنسية زائفة.

وفى العصر الوسيط نجد "يوحنا ذهبي الفم (349م-407م)"، و"القديس أوغسطين (354م-430م)"، و"القديس توما الإكويني (1225م-1274م)" الذين اجتهدوا في عظاتهم للكشف عن دلالة الحب الروحية والتأكيد على أنها الرابطة التى تربط النفس الإنسانية بالحقيقة الربانية، وتوضيح أن الحب هو سلم الكمال وطريق الخلاص ومستقر السعادة في الدنيا والآخرة، وفى العصر الحديث نجد الفيلسوف الألماني "فريدريك هيجل (1770م-1831م)" الذى نظر إلى الحب على أنه سنة كونية والقوة الدافعة للوجود، والتقدم، والأخلاق، والإبداع، وتماسك المجتمعات، وتطور الأمم.

أمّا في الثقافة العربية الإسلامية؛ فنجد "ابن حزم الأندلسي (994م-1064م)" يجعل الحب على رأس القيم الأخلاقية والروحية، وأقوى الروابط التى توصل إلى السلام والألفة والتكامل والتعاون بين البشر.

ونجد كذلك الصوفية الذين أعلوا من قدر الحب، وجعلوه بوابة الكمال ودرة الجمال وسبيلهم للسُكر والفناء في الذات العالية.

ولمّا كان هدفنا من هذه التوطئة هو توضيح بعض الجوانب المعرفية التى استقى منها "حسين المرصفي" خطابه في التربية، فحسبنا ألا نستفيض في الحديث عن المذاهب الفلسفية التى تناولت الحب من كل جوانبه ونكتفى بالمقدمة التى انطلق منها خطاب "المرصفي" الذى جعل الحب الآلية التى لا يمكن إصلاح المجتمع بدونها، ذلك فضلًا عن ربطه بين الحب كقيمة أخلاقية وبين أضداده التى تختلف باختلاف السياقات التى نحدد فيها معنى الحب.

فإذا كان الحب يكمن في وجود الأنا وتبدو الكراهية والبُغض في كل من يهدد هذا الوجود، فإنّ مفكرنا يؤكد على أن حب الأنا يستلزم محبة الآخرين الذين يساعدوه على استكمال وجوده، وإذا كان الحب هو الخير ومن ثم تنطلق العداوة منه إلى الشر؛ فإن مفكرنا يسعى إلى تجنب ذلك الصدام عن طريق الإصلاح والتربية، وإذا كان الحب يدفعنا إلى محاربة الفساد ودفع المنكر، فإن "المرصفي" يرى أن دفع المنكر ينبغي أن يكون بالمعروف، وإذا كان الولاء والانتماء والتعصب يدفعنا إلى مصارعة الأغيار من المتربصين، فإن "المرصفي" يؤكد على أن الحب الحقيقي أرحب وأرحم من أن يسعى إلى المصارعة مع من يستطيع التآلف معهم ومسالمتهم رغم اختلافه مع طبائعهم.

وإذا كان الحب والعنف والعداوة من السنن الكونية، فإن وظيفة الرسل والأنبياء والمصلحين توجيه ذلك العنف وتلك الكراهية إلى كل معوقات الحب بداية من الأنانية المفرطة ونهاية بالعدوان.

فها هو يؤكد في مطلع حديثه عن الدروس الأولى في تربية النشأ إننا في حاجة إلى تعويد أبنائنا على أن المحبة والتعاطف والتسامح والخير والمنفعة العامة وغير ذلك من الفضائل هى الأساس الذى لا غنى لحياة الإنسان وأمن وسلامة الأمة بدونها، ويقول: "سعادة الأمة وراحة الحكومة مرتبطان بالتربية من الصغر .. فإذا كانت هذه الجملة وأمثالها بما لها من المعانى الشرعية يلقنها كبار الأمة ومعلموها لصغارها المتعلمين يمكنونها من نفوسهم ويمزجونها بدمائهم، فلا شك تكون الأمة الناشئة بتلك التربية عارفة معرفة نافعة بمعنى المساعدة العامة التى هى مبدأ كل خير وأصل كل سعادة".

أما الكراهية فيجب اقتلاعها من حياتنا لأنها الطريق الوعر الذى ينتهى بنا إلى عالم الشرور والعنف. ويهدد سلام أمتنا في قوله "الناس بين مزاحمة تقتضى عداوة، ومساعدة تقتضى محبة، وهما الأصل الذى يدور عليه جميع أعمال الإنسان فيجب اعتبارهما وإدامة ملاحظتهما ومحاولة إضعاف الأولى وتقوية الثانية، إذ كانت أصل كل منفعة ذلك وإن كان في وجدان كل أحد وهو به شاعر وإن لم يجد أن يعبر عنه، فلا سبيل إلى جعل جميع الناس يعتبرونه ويهتمون بتعديله، فوجب أفراد طائفة منهم ملاحظة ذلك وتعديله، وضبط كل عند حده".

والجدير بالإشارة أن "حسين المرصفي" العالم الأزهري لم يغفل دور الدين في بناء مشخصات النشأ وأثره في تهذيب الأنفس، وتهيئة الأفئدة للمحبة والتعاطف والمودة والتعاون بين الناس، فراح يوضح أن الدين لم يكن قط دافعًا للعنف أو محرضًا على الكراهية أو سببًا للعداوة بين الناس أو أمر بمقاتلة الأغيار المخالفين في الملة والاعتقاد، كما بين أن الذين يشيعون أن الأديان علة الانقسام بين الأمم يكذبون على الله ويحرفون الكلم عن موضعه، ويقول "إذا عرفت العداوة بين الناس أمر فطرى تقتضيه المزاحمة، والمحبة أمر طارئ تقتضيه المساعدة، فكيف تخدعك الأماني الكاذبة وتلهيك المطامع الفاسدة عن اعتبارهما وإدامة رعايتهما وبناء الأحكام عليهما وتعقل الدين من جهتهما، فإنك حينئذ تفهم معنى الدين فهمًا حقا، يمكن من قلبك محبته ويبعث اجتهادك في تعرف أسرار أحكامه في كل باب من أبوابه وحيث تقررت في نفسك هذه المعانى وتحققت منها، وإن كانت بعبارة إجمالية، فأنت إذًا لا محالة متمكن من تفصيلها وتفريع الفروع على أصولها".

ويمضى مفكرنا في تحليل وتفسير الآيات القرآنية والاستشهاد بالأحاديث النبوية التى ترسخ شريعة الحب في نفوس البشر وتحذرهم من إخطار الأحقاد والمطامع والصراعات التى تدفعهم الشهوات والغرائز الحيوانية إليها، مؤكدًا أن الله قد خلق الإنسان على الأرض ليعمرها ويعيش فيها آمنًا سعيدًا ذكرًا وأنثى، شعوبًا وقبائل يتفاضلون في محبة بعضهم بعض ويتقون الله في كل معاملاتهم ويرغبون عن وسوسة الشيطان الذى أخرج آدم من الجنة، ودأب على إضلال البشر؛ ليثبت أن الإنسان مخلوق شرير لا يستحق نعمة الوجود ولا لطف الله ورعايته، فسرعان ما يصغى إلى غواية نفسه الحيوانية ويلبى نداء مطامعه الشهوانية ويكفر بكل ما جاء به الرسل من هدى وشرائع وأوامر ربانية.

ويقول في ذلك "تلك حال أمة جعلت نفسها في منزلة لو عرضت على البهائم العجم ما اختارتها ولأشتد عدوها في الهرب منها، أفيكون أولئك محسوبين من نوع الإنسان وهم في تلك الأحوال، كلا وقد قرأت في بعض كتب التعليم من كتب أمة تراها ضعيفة وقد ضعف أمر العداوة فيها حتى كاد يزول، وقوى أمر المساعدة فشملتها السعادة وحفها الضعاف الذين ينظرون إلى سعادتها وهم قاصرون عن نوالها".

ولا ريب في أن معالجة "المرصفي" للعديد من الآفات الاجتماعية والنفسية التى تدفع الإنسان للبغض والكراهية والحرب جديرة بالدراسة والتحليل؛ فالواضح أن مفكرنا لم يكن مجرد ناقلًا عن الفلسفات السابقة عليه، بل وظف معارفه الثقافية لخدمة برنامجه التربوي الذى رغب عن أسلوب الوعظ والاستشهاد بالأقوال المرسلة وأراد معالجة الواقع وما فيه من آفات أخلاقية وانحرافات نفسية بنهجٍ أقرب إلى الاستشهاد بالوقائع والأحداث المعاشة؛ ليتيح للمتلقي استنباط المقصود والوصول إلى الغاية، مع الاحتفاظ بالنهج الإسلامي في ترغيب النشأ لتأمل آيات القرآن وأحاديث النبي بمنهج عقلي يدفعهم إلى تطبيق ما فيها من هدى ورشاد بإرادة حرة مدفوعة بالقناعات الشخصية التى تحيل الإلزام إلى التزام وهذا هو النهج التربوي القويم.

(وللحديث بقيّة)

 

د. عصمت نصار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم