صحيفة المثقف

الدور الحيوي الذي يمكن للعلم ان يمارسه اليوم

صباح الحاج مفتنإلى أي مدى يمكن للعلم أن يضع حلولاً تنسجم مع الواقع من الناحية الأخلاقية؟ وهذا التساؤل لا يعني نَفْيَنا لدور العلم في الحياة الإنسانية؛ لأنَّ العلم بدون جانب إنساني لا يمكن أنْ يتّجه اتجاهاً صحيحاً في تطبيقاته على الواقع الاجتماعي.

ومن هنا طرح العلم في ثمانينيات القرن الماضي أخلاقاً جديدة تدعى "أخلاق العناية" أو أخلاق المحبة أو الأخلاق العلائقية، وهي تختلف عن الأخلاق الكانطية المتمثلة بالواجب، وعن الأخلاق الأرسطية المتمثلة بالفضيلة. فأخلاق العناية تدعو إلى أخلاق تتّصف بالثقة، والعناية، والاستجابة للحاجات، وتنمية العلاقات، على وفق تَصوُّر ترابطي للأشخاص بدلاً من تَصوُّر الأفراد بوصفهم مستقلين ومكتفين ذاتياً.

ما لفَتَ انتباهي ونحن نعيش معاناة كورونا، هو الصورة الجميلة التي عبَّرَت عنها الكاتبة الايطالية "فرانشيسكا ميلاندري" منذ أيام؛ إذ تقول، إنَّ مخططات جائحة كورونا تُبيِّن أننا جميعا متضافرون في رقصة متوازية رغم أننا متقدمون عليكم بالإصابة بخطوات قلائل على طريق الزمن، تماما كما أنَّ "ووهان الصينية" متقدمة علينا ببضعة أسابيع.. ولو مددنا أبصارنا إلى المستقبل الأبعد، فليس بوسعنا إلاّ أنْ نقول: حينما ينتهي هذا كله، لن يكون العالم مثلما عهدناه.....

وتحدثت المستشارة الألمانية ميركل: علينا أنْ نتمكن بكل السبل من مساعدة المصابين بالفيروس بأفضل طريقة ممكنة.. وأنَّ المصابين ليسوا أرقام في الإحصائيات، بل هم آباء وأجداد وأبناء وشركاء حياة.. إنهم بشر وحياتهم مهمة جداً..

وفي السياق نفسه هناك موقف لا يتوافق ولا ينسجم مع المسألة الأخلاقية، وهو موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من المصابين بكورونا؛ إذ أعطى أوامره للأطباء باستخدام علاج الملاريا chloroquine وهو ما حاولت فرنسا استخدامه رغم اعترافها بفشله تماماً:

حاولت فرنسا استخدام علاج chloroquine مع مرضى كورونا، لكنَّ المحاولة لم تنجح، وأدَّت إلى موت خمسة أشخاص. الغريب في الأمر أنَّ ترامب يأمر باستخدامه رغم خطورة وتحذير الصحة الأمريكية منه بسبب النتائج التي انتهت إليها فرنسا من أنَّ هذا العلاج يسارع من نبضات القلب وتوقفه المفاجئ...

على الأغلب لم يهتم ترامب ما إذا مات المصابين أم لم يموتوا.. فلم يلتفت لمراعاة مسألة الموت الرحيم ولا حياة البشر.. وهذا ما لمسناه منه منذ استلامه إدارة البيت الأبيض وتعامله مع الأزمات...

في أخلاق البيولوجيا أو ما يسمى "البيوتيقا Bioethics" أصبحَ الطب والعلاج اليوم يطرحان مشاكل أخلاقية غير مسبوقة؛ خاصة في ميادين تتعلق بالتجارب على البشر، والاحتضار، والموت الرحيم، وهذا تعامل مهم إذا ما قارنّاه قبل قرن من الزمن:

قامت "النازية" بتجارب وحشية أودت بحياة الآلاف من الضحايا باسم "العِلِم" وباسم أيديولوجية نازية عرفها أشهر أقطابهم "رودولف هيس" الذي قال: "إن الاشتراكية الوطنية ليست أكثر من تطبيق البيولوجيا"، وأكَّدَ كذلك "هتلر" بقوله: "بدون أساس وهدف بيولوجي ستبقى السياسة عمياء". كل ذلك حاولوا تبريره على انه لمصلحة البحث العلمي...

في عام 1990 أُثيرت قضية تتعلق بعشرين ألفاً من الجنود الأمريكان الذين شاركوا في حرب الخليج؛ إذ تم إخضاعهم لتجارب دوائية، وأُرغموا على تَجَرُّع أقراص لأجل فحص آثار مكوناتها التي تتضمن مادة مضادة لغازات كان مِن المحتمل أنْ تستخدمها القوات العراقية، وبالنتيجة كان الجنود يعانون من اضطرابات عديدة، وقد عَزاها الأطباء العسكريون إلى الإرهاق، وإبعاد الجنود عن الأسباب الحقيقية لهذه الأعراض، خشيةً من الفضيحة...

ولا نستبعد ذلك لِما يقوم به ترامب اليوم، فما أشيع اليوم هو أنَّ هذا الفيروس هو بتأثير غاز "سارين" الذي تم إخضاع الجنود الأمريكان له في معامل صينية، ولم يتمكن الأمريكان من السيطرة عليه...

ويبدو أنَّ ترامب بات يغامر بحياة العالم بما فيهم الأمريكيين في مقابل الأزمة الاقتصادية التي من المتوقع أنْ تعيشها بلاده وربما -بحسب التوقعات- أنها ستفوق الكساد العظيم عام 1929.

وهنا تبرز لنا مسالة أخلاقية مهمة، على العلم أنْ يتعامل معها بشكل جدّي، وهي مسألة "الموت الرحيم".. فالي أي وقت يمكننا تمديد أمد الحياة للمرضى وهم على مشارف الموت؟ وإلى أي مدى يمكن أنْ نقرر بشكل نهائي مفارقة شخص ما للحياة؟ وهل يمكننا انتزاع الأدوات الداعمة للحياة من شخص لا يؤمل شفاءه؟ وهل يمكن إدراج الحق في الموت في إطار حقوق الإنسان؟ ومتى يمكننا أنْ نستجيب لرغبة شخص ما يطالب بالموت الرحيم؟

وعلى الأخلاق البيولوجية أنْ تقيم تحالف بين علوم الحياة Bio وبين القيم الإنسانية والقواعد الأخلاقية Ethics، والبحث عن جملة المطالب لاحترام إنسانية الإنسان، وتقدمهما في القطاع الحيوي- الطبي؛ إذ إنَّ ربط الحياة بالأخلاق هو سبيل للتحكم في سلطان العلم وجنون التكنولوجيا.

 

د. صباح الحاج مفتن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم