صحيفة المثقف

كورونا وعولمة الدول الغنية والفقيرة!

محمود محمد عليبعد بضعة أسابيع من تفشي فيروس كورونا المخيف حول العالم، يكاد الناظر للمشهد العالمي أن يشعر أننا لم نعد نعيش في "قرية صغيرة" أفرزتها العولمة؛ إذ ثبت أنّ العولمة لا تزال غير مكتملة الأسس، لحين انضواء كل الدول والمجتمعات تحت لواء القيم المشتركة للإنسان الحافظة لكرامته وحقوقه الإنسانية بالعيش بصحة جيدة خالية من السموم ومخاطر الأوبئة.. وبالتالي تبقي العولمة وسهولة التنقل والانفتاح بين الدول التي تتباين أنظمتها السياسية والصحية وتعاملها مع "الإنسان" ومواطنيها نقمة دولية تحتاج إعادة النظر بها، وليكن كما قال بديع يونس) في مقاله بعنوان كورونا والعولمة و"المؤامرة") " كورونا درساً مهما في العلاقات الدولية" .

إن ما رأيناه في الأيام والأسابيع الأخيرة في واقع الأمر من ضحايا كورونا ترك انطباعاً سياسياً أولياً حول مدى هشاشة النظام الدولي العالمي، من حيث علاقة دول العالم بعضها ببعض، إذ تبدو الشكوك أول الأمر وآخره هي المتحكمة في المشهد وليس الثقة بين الأمم والشعوب.. وهنا ظهرت مجموعة من المقالات التي تنعي العولمة، مثل "تفش عالمي يغذي رد الفعل العكسي ضد العولمة"، و"انتشار الفيروس قد يعجل بالانهيار الكبير للعولمة"، و"هل ينهي فيروس كورونا العولمة كما نعرفها؟.

ذكرت وكالة أنباء "بلومبرج" الأمريكية في تحليل، أن الإجابة باختصار هي: لا.. لن يقضي فيروس كورونا على العولمة- على الأقل لن يحدث ذلك إذا ما تحدثنا عن العولمة على أنها أمر أكبر من مجرد سلاسل التوريد عبر القارات وسفن الحاويات الضخمة.. بيد أن تقويض إشعارات الوفاة المبكرة، الناجمة عن الفيروس، هو التحدي الذي تشكله إدارة العولمة في ظل تحول موازين القوى العالمية.. إن العولمة في حاجة لإدارتها؛ خاصة بعد تراجع نفوذ الولايات المتحدة، غير العسكري، والذي ظهر واضحاً في مواجهة تفشي وباء كورونا والذي رفضه الرئيس ترامب في طور الاندلاع عندما نظر إليه علي أنه كذبة حزبية، علاوة علي أنه كان قد رفض تماماً في وقت سابق الأهمية الملحة لقضية التغير المناخي، كما اعتبر المنظمات متعددة الأطراف التي جرى تأسيسها من أجل التأقلم مع العولمة، سواء كانت الأمم المتحدة أو منظمة التجارة العالمية، انتهاكات لسيادة أمريكا، وليست سبيلاً لتعزيز النفوذ الأمريكي، وزيادة تقاسم الأعباء، وبالتالي أسقط ترامب كل الشعارات الأمريكية التي جسدها كسينجر في كتاباته ؛ ففي المنظور الأمريكي للعالم يومها لم تكن السياسة الخارجية مهمة بقدر ما كان غرس مبادئ مشتركة.. ألم يقل هنري كيسينجر في كتابه "النظام العالمي" إنّ الولايات المتحدة "ستصبح غير مستغنى عنها لدفاعها عن نظام القيم الذي أسسته أوروبا"، ويقصد كيسينجر أنّ "سلام ويستفاليا" أرسى أولى الشروط من النظام العالمي المعاصر بحسب خبراء في العلاقات الدولية. وبحسب كيسنجر، فإنّ "الرؤية الأمريكية تسعى لبلوغ السلام عبر نشر مبادئ الديمقراطية".

إنها إذاً حالة انعدام الثقة بين دول العالم لا سيما الأقطاب الكبرى، وقد تجلت في الشهرين الماضيين، وبدا أيضاً أن هناك تبعات تتعلق بحال ومآل الدولة العصرية بشكلها  الويستفالي .. ماذا نعني بذلك؟

لقد أكدت أزمة كورونا فشل ما ذهب إليه عالم الاجتماع السياسي مارشال ماكلوهان من أن العالم بات قرية صغيرة، فإذ بنا نجد أنفسنا بمواجهةِ "حارة كونية"، سواء عبر الانتقال من قارة إلى قارة، ومن موضع إلى آخر حول الكرة الأرضية جسمانياً، أو على  صعيد التواصل المعلوماتي والمعرفي عبر نقرات خفيفة على  الفارة، أو بلمسات على الهواتف الذكية.. كما أكدت فشل ما ذهب إليه أيضا "كوفي عنان" عن العولمة بأنها تعني انسياب الأفكار والمهارات والأموال، بحيث تصبح عابرة للحدود مخترقة للقارات؛ أي أنها تعنى سقوط الحواجز بين الشعوب وتشير إلى درجة من الانفتاح بين الأمم.

إن كورونا أظهرت بأي مقدار هو العالم قرية كونية بالفعل، ولكن هذه «الكونية» ليست بمنجاة من المخاطر الآتية إليها من أحد مراكزها أو أطرافها، ما كانت ستعرفها لو ظلت مجرد قرية.. ليس هذا فقط بل أعادت كورونا العالم إلي سيرته الأولي .. دول مغلقة حدودها في وجه بعضها بعضاً.. دول أقرب إلى الجزر الصغيرة المترامية بعيداً.. إن كرورنا أكدت أن البشرية قد عرفت طوال قرون خلت أنواعاً مختلفة من الأوبئة الفتاكة كالطاعون والجدري والكوليرا والسل، ولم يكن العلم قد تقدم إلى هذه الدرجة التي هي عليه الآن، كما لم تكن الأمصال الحديثة قد وجدت طريقها إلى البشرية، وفي ذلك الإطار كانت الأوبئة محلية أو في أسوأ الأحوال إقليمية، فما كان يضرب أوروبا، حكما لم يكن يؤثر في آسيا أو إفريقيا، ناهيك عن أمريكا الجنوبية أو الشمالية، فقد كان العالم وقتها جزراً منعزلة بعيدة عن بعضها بعضاً وذلك كما قال إميل أمين في مقاله كورونا.. علامة فارقة في طريق العولمة.

صحيح أن عدد من ماتوا ويموتون كل يوم منذ أن أُعلن عن اكتشاف «كورونا» لا يعدّ شيئاً مهولاً قياساً لما كان يحدث قبله من حالات وفاة في مختلف البلدان؛ خاصة منها كثيرة السكان، أو التي تعاني الفقر وتدني الخدمات الطبية، فضلاً عن ضحايا الحروب المدمرة، أهلية كانت أو بين الدول، وضحايا المجاعات والقحط والكوارث الطبيعية كالفيضانات والحرائق وغيرها.. لا نرمي البتة إلى التقليل من خطر «كورونا» الذي يجتاح البلدان، بلداً وراء آخر، ويستنفر العالم كله لمواجهته، وتعمل المختبرات ليل نهار للوصول إلى لقاح يمنعه وعلاجات تشفي منه، ولكننا لا يمكن أن نغفل عن أن الماكينة الإعلامية العالمية، غير الملامة على كل حال، تساهم بحصة كبيرة في بث الهلع غير المسبوق جراء الفيروس.

إن فيروس كورونا، وصل إلى كل مكان وقطع التواصل في العالم. وهو عملياً فعل أمرين متعاكسين: من جهة طبّق العولمة بالكامل، وإن كانت عولمة الخوف. ومن جهة أخرى، جعل العزل أمراً واقعاً بين القارات، ثم بين البلدان، ثم داخل كل بلد، من دون أن تنتج تجربة العزل ما انتجته تجربة إديسون، إذ يروي إدموند موريس في كتابه "إديسون"، أن المخترع العظيم قال "لم أسمع صوت عصفور منذ كنت في الحادية عشرة، لكن الصمم أبعدني عن ضجيج العالم للتركيز على ما أريد اختراعه.

إن وباء كورونا أجبر العالم على التخلي موقتاً عن "فن الحياة"، لا مسارح، لا مباريات رياضية، لا ندوات ثقافية، لا مطاعم، لا مقاهٍي، لا صلوات، ولا حتى تبادل السلام بالأيدي أو التقبيل. فالعالم اليوم يواجه عدواً لا يعرفه، ولا يراه، ولا يعرف من أين يأتيه. وكل التطورات في العلم والتكنولوجيا والأجهزة الكاشفة عجزت عن التغلب على جرثومة من حشرة صغيرة. فالطبيعة ليست فقط أقوى منا حين تضربنا بالزلازل وسواها بل أيضاً أذكى منا.

وهذا ما يختصره العالم الفيزيائي فريمان دايسون في جامعة برنستون بالقول، إن "الطبيعة لديها دائماً مخيّلة أكثر مما لدينا، وجمال العلم هو أن كل الأشياء المهمة لا يمكن التنبؤ بها". وقبل قرون في العالم العربي، قال النّفري إن "العلم المستقر هو الجهل المستقر" وذلك كما قال رفيق خوري في مقاله كورونا.. عولمة الخوف والخسائر والتخلي عن "فن الحياة".

لذلك لم نكن نعلم أنه سوف يأتى يوم يجرى فيه تطبيق العولمة على النحو الذى نراه الآن بعد ظهور فيروس كورونا، الذى قلب العالم رأسًا على عقب وحبس الأسر فى منازلهم، وأوقف الطيران الدولى والداخلى وأدى إلى تجميد السياحة وإلغاء الحجوزات، وإغلاق المدارس والجامعات والنوادى والفنادق، بل الكنائس والمساجد، لقد أصبحنا أمام مشهد غير مسبوق فى تاريخنا الذى عشناه، ولا أظن أن لما نراه اليوم سابقة مثيلة.. نعم إنها حرب عالمية ثالثة ولكن دون جيوش أو طائرات أو بوارج، ولكن بفيروس صغير تدخل فى الخطط الشخصية لكل البشر بغير استثناء، ولم يفرق بين دول غنية وأخرى فقيرة، ولا بين الشمال والجنوب أو الشرق والغرب، فالفيروس الذى بدأ ظهوره من الصين دار حول العالم بأسره وضرب إيطاليا على نحو مؤلم كما نالت إيران وكوريا الجنوبية ودول أخرى نصيبًا من ذلك الوباء اللعين.. فيروس كورونا أثبت سرعة انتشاره مستفيداً من نظام العولمة الذي حوّل الكرة الأرضية إلى "قرية كونية" ؛ بحيث سهّل انتقال الأشخاص، وهي الحرية التي سهّلت بدورها انتشار الوباء من دون حاجة إلى الحصول على إذن أو تأشيرة، بدليل أن الوباء بدأ في منطقة محددة من الصين، ثم انتقل خلال أيام إلى باقي أنحاء العالم عابرا للقارات.. المفارقة هنا هي أن العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية كانت تخدم أنظمة رأسمالية دولية، ويتم توظيفها لخدمة مآرب ومشاريع تصب بشكل خاص في مصلحتها على حساب الفقراء من دول وشعوب، ولكن مع فيروس كورونا انتفت أي فروقات طبقية وساد ما يمكن تسميته "اشتراكية المرض" بحيث أصبح الفقير والغني ليسا بمنأى عن هذا الوباء، ولم تكن الأنظمة ومن يمثلها في هرمية السلطة بعيدة عن مخاطره. وبذلك أصبح الوباء عابراً للطبقات الاجتماعية بكل متدرجاتها وتصنيفاتها وذلك كما قال محمد الجبور في مقاله كورونا واشتراكية المرض.

إن فيروس «كورونا» كشف لنا أنه لم يعد قضية محاصرة فيروس ما زال مستعصياً على التشخيص والعلاج، وإنما ما واكبه من انهيار في البورصات العالمية بما فيها البورصة الأمريكية، ومن بعدها أسعار النفط، ونشب خلاف بين روسيا والسعودية بعد انسجام، أصبح الأمر كما لو كانت هناك «سلسلة» من الأحداث الخطرة التي يعقبها أحداث أكثر خطورة، أصبحت الولايات المتحدة المزدهرة على حافة انكماش اقتصادي، وبدا العالم على شفا " الكساد " .. الفيروس عرض قلب العالم الصناعي في الصين إلى اختبار كبير فقد تراجعت معدلات النمو الصينية، وأصبحت صناعات العالم التي تعتمد على الصناعة الصينية في حالة شلل.. انهيار الصناعة العالمية قلل الطلب على النفط، وعلى التجارة العالمية .. فيروس «كورونا» أصبح نوعاً من «نوبة الصحيان» الضرورية للعالم أنه مهما نجحت الدول في بناء الأسوار فإنه لم يعد ممكناً للدول وحدها التعامل مع سلسلة الأحداث الخطرة الممثلة في «الاحتباس الحراري»، والتي أدت إلى كوارث زراعية في العديد من الدول نتج عنها وفق تقارير دولية إلى وفاة 815 مليون مواطن نتيجة ضعف أو قلة الغذاء، وذلك كما قال د. عبد المنعم سعيد في مقاله فيروس كورونا والعولمة وأشياء أخرى.

اليوم، ووسط الرعب المتزايد عن مصير العالم في ظل انتشار كورونا المستجد، لا يخلو الحديث عن التغيرات التي سيشهدها العالم في مرحلة ما بعد كورونا، لأنه ما من شك، أن "الجندي كورونا"، مثله مثل أي أزمة وبائية أو حرب عالمية تقليدية ستهز العالم بأسره، من شأنه أن يغير مفاهيم ونماذج العمل (في البنى التحتية والفوقية)، التي ما كانت لتتغير من مرحلة لأخرى، لولا ضرورة الأزمة واستحقاقاتها العملية بإنتاج مفاهيمها الخاصة في طبيعة علاقات التبادل والأولويات، لذلك ومن باب الاعتقاد، أن دول العالم وخصوصاً الغنية منها، واتحاداتها العالمية الاحتكارية العابرة للقارات، ما كانت لتخرج من عنق الزجاجة ونظام عملها القديم – الاحتكاري والاستغلالي- لتبحث جدياً في كيفية اعتماد أنظمة وأنماط عمل جديدة في كافة ميادين الحياة بأولوياتها المستحقة، لولا الأمر الواقع الذي أحدثه فيروس كورونا و"مفاعيله" على الصعيد المجتمعي الدولي، والذي عجزت عن تبنيه واستبصار نتائجه، كبرى الاجتماعات الدولية للدول الصناعية والغنية، في ما يتعلق بحقائق: (الانبعاث الحراري وتلوث البيئة، الاستغلال الجائر لموارد الطبيعة، التعاون الدولي للحفاظ على البحار والمحيطات وثرواتها، احترام الإنسان لقيمته الإنسانية في الحرية والعدالة الاجتماعية، استباحة سيادة الدول الفقيرة وجعلها سوقاً استهلاكية لمنتوجاتهم. الخ) في نظام عالمي تبادلي استغلالي يقوم على "عولمة الغني والفقير، القوي والضعيف.. لذلك، فيروس كورونا يضع النظام العالمي السائد أمام صحوة الصدمة، وفرض عليه مناقشة كل إجراءاته وأنظمة عمله وأولويات اهتماماته، وانه- أي كورونا - صاحب القرار في التغيير الحتمي لمجموع النظم الاقتصادية العالمية، ومنظومتها السياسية والاجتماعية والثقافية وذلك كما قال د. باسم عثمان في مقاله حسابات " كورونا"... بين العولمة والأصالة.

لكن الدرس الذي نتعلمه من فيروس كورونا الجديد ليس أن العولمة قد فشلت، بل الدرس هو أن العولمة هشة، على الرغم من فوائدها أو حتى بسببها، وعلى مدى عقود، أدت جهود الشركات الفردية الدؤوبة للقضاء على الإسراف إلى توليد ثروة غير مسبوقة. لكن هذه الجهود قللت أيضاً من حجم الموارد غير المستخدمة - ما يشير إليه الاقتصاديون بـ"الركود" - في الاقتصاد العالمي ككل. في الأوقات العادية، غالباً ما ترى الشركات الركود كمقياس للقدرة الإنتاجية الراكدة أو حتى المهدرة. لكن الركود القليل جداً يجعل النظام الأوسع هشاً في أوقات الأزمات، ويستبعد نظام منع حدوث الفشل..  ونتيجة لكل ذلك، دقّت أزمة "كورونا" مسماراً في نعش العولمة، وبمجرد أن تهدأ حالة الذعر والقلق، فإنّ من يعتقدون أن سياسات الانفتاح والعولمة أمام انتقال البشر والسلع أمر جيد، سيحتاجون إلى الدفاع عن آرائهم بطريقة مقنعة... وننتظر ما تسفر عنه الأيام المقبلة!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم