صحيفة المثقف

(خلي نتفلسف شويه): كيف تكتب نصاً مؤثراً

علي المرهجكل النصوص المؤثرة في المجتمعات إنما هي نصوص تعتمد مخاطبة المشاعر والوجدان والروح الجوانية، ولا تُحدثني عن نصوص العلماء والفلاسفة العقليين أو التجريبيين، لأنها نصوص مؤثرة في تغيير واقع المجتمعات عملياً، بعد معاندة ورفض، لذا فهي نصوص تفرض نفسها بعد القناعة بمدى تأثرها على حياتنا العملية، فنحن لم نقبل نظرية علمية أو تقنية علمية إلَا بعد أن أثبتت حجم فائدتها لحياتنا الواقعية،

ولك أن تسترجع حياتك وحياة أجدادك لتجد رفضهم وممانعتهم لظهور (الراديو) مثلاً، ولا أتحدث عن نظريات (كوبرنيكوس) أو (كبلر) أو (غاليلو) التي عاندت الكنيسة ورجالتها، بل وكل مجتمعات الأرض على عدم قبولها ورفضتها، لكنها بعد أن وجدت حراجة في تحديها وفق مقولات غيبية لا دليل عقلي أو تجريبي وعملي على (صدقية) رفضها، عمل رجال الدين على الببحث في النصوص المقدسة عما يُخرجهم من حرجهم هذا.

يُمكن لك أن تكتب مقالاً مؤثراً حينما تعرف (العينة) التي تستهدفها، ولكنك في الفضاء العام لا تستهدف عينة بحد ذاتها، فتوقع أن يقرأ لك أناس بثقافات متعددة وعينات لا حدّ لها.

لذا أقول أن أغلب النصوص المؤثرة في حياة الشعوب والمجتمعات ليست هي النصوص التي غيرت واقعهم العملي "نحو عالم أفضل"، إنما هي النصوص التي كتبها أصحابها من فيض وجدانهم ومشاعرهم الجيَاشة بالمحبة والعاطفة. 

لا أحدثك عن نصوص الشعراء والعرفاء أو الصوفية في بلداننا العربية أو الإسلامية، فذلك أمر مفروغ منه، فنحن كما يصفنا المستشرقون أناس عاطفيون، أو خطابيون، وقل عرفانيون لا برهانيون، وهذا في الأعم الأغلب ينطبق على حضارتنا منذ بزوغها في جنوب العراق في أرض "سومر" إلى يومنا هذا، فنحن لا تُغرينا نتاجات العلم ولا كل ما قدمه العلماء من خدمات جليلة لنا، ولا نحتفي بهم، ولا نهرع لاستقبالهم في مجالسنا، ولكننا نفزع حينما يُقبل إلينا خطيب أو شاعر أو (مهوال)، لأنه يُحدثنا في نصه (الظاهرة الصوتية) بعبارة (عبدالله القُصيمي) عن مآثر الأجداد ويتفاخر بها، ونحن ننشدُ له ونُنصت وبعد حين نرقص أو (ندبج) ونضرب بأرجلنا على الأرض لنستفز كل علماء التاريخ والحضارة والعلوم.

شاعر شعبي أو مهوال أو خطيب جاهل بأمور الدين أو (رادود) أو مُطرب منحه الله صوتاً شجياً يُحرك الجمع كله من أمتي، ولا يُحركهم ولا يقض مضاجعهم قول عالم ناقد لمقولات تراثهم الذي مضى أو كاد أن يمضي لولا تمسكنا الساذج (العاطفي) به من دون دراية حقيقية بما فيه من عناصر ايجابية.

لا أستخف بشاعر كبير ولا بناثر أو سارد كبير أو خطيب مفوه أو رجل دين عالم، فهم من يدونون تاريخ الأمم، كل حسب تخصصه واهتمامه، ولكنني أعجب في أن يكونوا في مقدمة الجمع دوماً، ولا تجد عالماً أو فيلسوفاً، وقُلَ مُتفلسفاً يتصدر المشهد ويعرفون ما قدمه من رؤية علمية أو فلسفية!. 

ولا تظنون أن هذا الحال ينطبق على مجتمعنا فقط، بل هناك فارق بسيط بين تلقينا وتلقي الغرب واحتفائنا بالشعراء أو العفلاسفة والعلماء، فقد تجد (مايكل جاكسون) أو (مادونا) ولا أعرف من يُهيج الجماهير أكثر منهم حسب (ذاكرتي المعطوبة)، ولربما تعرفون أسماءاً وفرقاً غنائية (كورية) تحصد ملايين المشاهدات، لا أعرف أسمائها، ولكنني اعرف أن بعض بناتنا وصبياننا أو شبابابنا تعلموا (اللغة الكورية) بفضلها.

اعذروني فأنا لا زلت أنصت لأنوار عبدالوهاب بأغنيتها (داده حسن) حينما تُنشد (لا أم تحن لبجاي لا خاله وياي داده حسن لا خاله وياي، كل الوجوه ثكال من يكَبل هواي داده حسن، كل الوجوه ثكَال).

لاعب مثل (ررونالدو) أو (مسي) يملأ الدنيا ويشغل كل الناس، ينتظرون صورة له على وسائل التواصل الاجتماعي ليحصد منها الملايين من الدولارت، وربما تكون الصورة أن (مسي) مثلاً عطس فالتقط صورته مصور (حاذق) يتبعه، فيقال أن (مسي) ـ ربما ـ أصيب بالكورونا!، طبعاً (حفظه الله ورعاه وأبقاه) ولا أروم ازعاج مُحبيه، ولكنني أضرب مثلاً. 

كل الأمم تحتفي كثيراً بمُنتج النص الشاعري أو الرومانسي (العاطفي)، بل وتحتفي بمن يُجيد اللعب على المشاعر والعواطف، ولكن كل أمة بحسب ما توافر لها من العلم والمعرفة، ففي أمم أهل الغرب لا يحصل العالم والفيلسوف على ما يحصل عليه اللاعب أو الموسيقي أو المطرب، ولكنه يحظى باهتمام مؤسسات كُبرى تهتم بنتاجه العملي والفكري، بل ويعيش على اصدار كتاب له سنيناً. 

عندي الكثير مما أرغب بقوله، ولكنني سأختم فأقول: أن انتاج نص ابداعي أدبي أو شاعري فيه لغة تُداعب الروح والوجدان يخلد ـ في الغالب ـ أكثر مما يخلد نتاج عالم غير حياتنا العملية.

ولك أن تستشعر ذلك حينما تنطفئ الكهرباء، فلا تذكر (أديسيون) مُخترعها بالقدر الذي تذكر فيه مقولة (صلى الله على محمد وآل محمد)، ولا أعرف مقدرا الربط السببي بين الكهرباء وبين الصلاة عليهم وهم يستحقون أن نُصلي عليهم يومياً لا لأن الكهرباء تنطفئ وتعود، ولكن لأنهم أئمة أو (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه).

 

ا. د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم