صحيفة المثقف

"نقرة السلمان".. جمهورية مضيئة في ليل العراق

ثامر الحاج امينفي فترة متأخرة من حياتهم، يعكف عدد من السياسيين والمفكرين والأدباء والفنانين والعلماء على تدوين جانب من مذكراتهم تتضمن حقائق واسرارا عن حياتهم الشخصية والمهنية، ومن الطبيعي ان تتفاوت المذكرات في اهميتها وقيمتها بحسب ماتكون عليه من شفافية وجرأة وثراء التجربة، فالبعض يجد في تدوينها فرصة لتجميل صورته والنفخ في تاريخه وعطاءه وعلاقاته الشخصية، في حين يتخذ اخرون منها اطلالة على حوادث تاريخية مهمة كاشفين عن تفاصيلها و أبرز رجالاتها يضاف الى ما تقدمه من دروس وعبر لاغنى للأجيال عنها، وهذا ما تكشف لي في كتاب (نقرة السلمان) اصدار 2010 لمؤلفه الكاتب والصحفي المناضل "جاسم المطير" احد نزلاء ذلك السجن الرهيب الذي اتخذ منه المؤلف عنوانا لكتابه واعتمد فيه على التدوين اليومي عندما كان نزيل ذلك السجن لسنوات مهمة من تاريخ العراق تلك التي اعقبت انقلاب شباط 1963، متجاوز فيه التجربة الخاصة الى الأمور العامة المتعلقة بحياة السجناء ونشاطاتهم ومعاناتهم والصراعات التي كانوا يعيشونها نتيجة الضغوط النفسية والسياسية.

ففي سرد تغلب عليه الموضوعية الى حد كبير ولغة أدبية صافية يأخذك الكاتب في رحلة تبدو شيقة لك فلاتشعر فيها بالملل رغم منعطفاتها ودهاليزها الكثيرة، لكنها مرّة وقاسية لمن عاشها واكتوى بحرارة جمرها، حيث يضعك المؤلف في صورة السنوات الدامية وماتخللها من انتهاكات انسانية رافقت ذلك الانقلاب المشؤوم كذلك الصراعات السياسية التي سبقت وتلت الحدث المذكور، كما يكشف عن صفحات رائعة من البذل والتضحيات التي قدمها مناضلو تلك الفترة والاسماء الفاعلة التي تحدت وحشة السجن وقيوده بالالفة والصبر وتحدت ايضا القسوة بالايثار والعطاء الثقافي، حيث يستعرض النشاطات الثقافية والمواقف الانسانية التي كانت تدور في ذلك المكان الذي اراد له الحكام ان يكون مقبرة للمناضلين لكنهم بصبرهم ومهاراتهم ووعيهم وايمانهم بعدالة قضيتهم استطاعوا ان يحيلوا تلك الصحراء القاحلة النائية الى ارض مزهرة بالعطاء ويجعلوا منها جمهورية مضيئة في ليل العراق الدامي، ومن المواقف التي تفيض شهامة وانسانية عالية تلك التي تحلى بهما نزلاء النقرة يذكر المطير في مذكراته التي استحقت ان تكون مرجعا للدراسين وللبحوث التاريخية يذكرهذا الموقف:

(يوجد مستوصف صغير لايداوم فيه طبيب ولا مضمد ولايزود بالأدوية، فقط توجد لافتة على الباب مكتوب عليها "مستوصف قضاء السلمان"، أغلب الحالات المرضية الصعبة لدى سكان القرية يعالجها الأطباء السجناء، أغلب الأدوية من صيدلية السجناء.

في مرة من المرات، في الثامنة ليلا حضر احد السجانة الى باب السجن داعيا السجناء الى انقاذ زوجته التي تواجه الموت المحقق هي ومولودها بسبب عسر في الطلق بعد ان عجزت القابلة الوحيدة في القرية من توليد المرأة.. لم يكن مسموحا للبدو بأي حال ان يقوم رجل بتوليد امرأة، تموت الحامل ولايسمح لأي رجل غريب، طبيب او غير طبيب بملامستها، لكن السجان استنجد بقسم الأطباء السجناء، خرج السجين جبار الموصلي مع جنطته بموافقة وكيل مدير السجن، حيث المدير غير موجود بسبب ذهابه قبل يومين الى بغداد في اجازة مرسلا من اطباء السجن لاستجلاء وضع المرأة الوشيكة الولادة واذا صارت هناك حاجة يذهب احد الاطباء السجناء، جبار الموصلي ليس طبيبا، معاون طبيب نشيط جدا يمتلك خبرة طبية واسعة صقلتها تجربة العلاقات السجنية وصار الجميع يثقون به كثيرا، عاد جبار في تمام الساعة الثانية عشر ليلا في غاية الانشراح والسرور فقد ولدت المرأة ذكرا، وفي صباح اليوم التالي أحضر السجان كمية من حليب الماعز هدية الى جبار قال وهو في غاية السرور والانشراح: سمّوني ابو جبار، اطلقت اسم جبار على ولدي، سأله احد السجناء بماذا كنت تسميها لو جاءك المولود انثى؟ أجاب: جبارة).

 

ثامر الحاج امين

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم