صحيفة المثقف

آنسة المنطق والجمال

علي المرهجفي الفلسفة هناك بعض الآنسات التدريسيات من اللواتي حصلنَ على الماجستير في الفلسفة ومنهنَ ممن لم يرغبن باكمال دراسة الدكتوراه، وكانت في مقدمتهنَ مدرسة المنطق والجمال (أميمة الشوَاف) وهي ابنة اللواء الطبيب (محمد عبدالملك طه الشوَاف) الذي ترجع أصول عائلته إلى مدينة (كبيسة) في محافظة الأنبار.

كان جدها الشيخ عبدالملك الشواف الذي ولد في بغداد وعاش فيها، ثُم عُين مُفتياً لولاية البصرة أيام الدولة العثمانية، ثم عُين قاضياً لولاية بغداد، وابنه محمد والد أميمة ولد في البصرة، حصل على الدبلوم العالي في اختصاص (الأنف والأذن والحنجرة) عام 1950، ثم تدرج في المناصب ، لينال منصب وزير الصحة في حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم.

المفارقة أن محمد الشواف وزير الصحة في حكومة قاسم هو شقيق عبدالوهاب الشواف الذي ثار على عبدالكريم قاسم، ورغم ذلك ظل محمد الشواف مؤيداً لقاسم هو وابن عمه وزير التجارة عبداللطيف الشواف في الحكومة ذاتها.

درست أميمة الشواف الماجستير في الفلسفة في جامعة القاهرة بمصر بعنوان "الناحية الخُلقية في فلسفة وليم جيمس)، وقد نشرتها دار الدعوة بمصر عام 1973.

كانت تهتم بمظهرها واختيارها الأنيق لملابسها، ولم يكن ذلك بغريب عليها، فهي تمتلك من الغنى المادي ما يساعدها على شراء أغلى الملابس ومن أفضل ماركاتها، أما ثقافتها الجمالية في وعي الجمال سلوكاً وفكراً فذلك ما يشهد لها به كل من عرفها.

لم تكن طويلة وليست بالقصيرة، لا أظن أنها من اللاوتي يعشقن الرياضة ولا أجزم، لأنها لم تكن رشيقة بالقدر الكافي، ولربما لكونها تعي قيم الجمال عند العرب.

بهية الطلة في وجهها بشاشة تُشعرك أنها أختك الكبرى، وتغضب سريعاً، ويخفت غضبها بعد لحظة وليست لحظات. كانت قصة شعرها (كاريه) أي قريب من كتفيها، لا تتباهى ولا تتفاخر بكل تاريخها العائلي الذي ذكرته لكم، ولم أعرف من هي وما هو دينها أو عقيدتها إلَا بعد أن تخرجت من الدراسة، ولفرط إعجابي بشخصيتها صرت أبحث عن جذورها محبة بها لا لأنني مشغول بالبحث عن الأصل الاجتماعي، فالقيمة عندي للشخص وأفعاله لا لأصوله، وهي ميزتها هذه.

لم أكن أحب المنطق ولا درسه، ولا أحب تعريفه التقليدي حينما عرَفه الفلاسفة القدماء بأنه "أداة تعصم الذهن من الوقوع في الزلل أو الخطأ"، ولكن رغبت في دراسته لأن أستاذتي (أميمة الشواف) تُجيد تدريسه وتعريفه وفق تعريف (التحليلية) و(الوضعية المنطقية) بأنه "علم يُفيد في تمييز خطل أو خطأ الفكر من صوابه أو صدقه"، فتقبلت دراسته، لأنني لا أعصم نفسي من الوقوع من الزلل، ولكنني أسعى لتمييز الخطأ من الصواب، ولم لا؟ فكل منا على قدر فهمه واستطاعته يسعى لذلك.

ومن وجهة النظر هذه عرفت لماذا ينتقد العلامة علي الوردي المنطق الأرسطي الذي كان يدعي أصحابه أنه يعصم البشر من الوقوع في الخطأ!، ولم نجد من بني البشر الطبيعيين من تمكن من أن يعصم نفسه من الوقوع في الخطأ، لذلك أظن أن أستاذتي أميمة الشواف تُحب فكر علي الوردي وتعده من فلتات الفكر في عراقنا الحديث لهذا السبب.

ذكرت أنها إنسانة مُحبة وتستطيع أن تكسب قلوب طلبتها قبل عقولهم، رغم أنها لم تتزوج، وذلك خيارها الوجودي المُتفرد الذي عبرت عنه بسلوكها المدني المسؤول وفكرها العقلاني النقدي، لذلك بقيت آنسة، ويليق بها هذا اللفظ حتى بعد أن مرت بها السنين، لأنها متصالحة مع نفسها ومع الآخرين، وتأنس بوحدتها، وتؤنس الآخرين بحديثها وتدريسها وحوارتها.

لم تنشغل يوماً بتهديد العمادة لها بأنها بقيت (مدرس مساعد) وعليها أن تكتب بحوثاً للترقية، لأنها ـ كما أحسب ـ تعتقد أن ترقيتها ستنالها من طلابها الذين تكد وتتعب في الدرس وفي الشرح والتوصيل وتخطيط السبورة طولا بعرض بطباشير بألوان متعددة لتجد يديها الناعمتين تتلون لتكون ألوان قوس قزح، فأحسد الألوان لأنني أظنها تفرح حينما تتناثر بقاياها على أنامل (آنسة المنطق والجمال)، وأعرف أن المنطق والجمال لا يلتقيان في عوالمنا المتغيرة بقدر ما يلتقيان في عوالم الحقيقة المطلقة، لذلك أجد في أستاذتي أميمة الشواف بعض من هبات الحقيقة المطلقة في اختيارها لأفراد يأنس الناس بوجودهم بينهم.

درسنا الفلسفة الحديثة على يديها في المرحلة الثالثة، فكانت لكثر ميلها لفلسفة الجمال تُركز على تدريسنا المباحث الجمالية عند الفلاسفة الحديثين، وقدر عرفت فلاسفة آخرين مثل (جورج سانتيانا) و (كروتشه) منها، ولم أعرفهم من أستاذنا الذي درسنا فلسفة الجمال!.

يذكرها الكثير من طلاب (أكاديمية الفنون الجميلة) لأنها درست لهم مادة (فلسفة الجمال) ويتذكرونها بمثل ما أتذكرها وأجمل لأنهم أهل الجمال.

مرت السنوات وسقط نظام صدام الذي كانت معارضة له في قرارة نفسها ومن يعرفها، وهذا أمر طبيعي، فهي ابنة وزير في حكومة أسقطها البعث، ولكنها رأت بأم عينها نزوعه الديكتاتوري والفرداني الذي كان ينتقد به أتباعه حكم عبدالكريم قاسم، فظلت لا ترغب به ولم تنتمِ لهذا الحزب، فبقيَت مُستقلة.

الغريب العجيب، أنها بعد سقوط نظام البعث الشمولي، كانت هي وغيرها من المُستقلين وغير الموالين لنظامه حسبهم (الأغبياء) من الذي جاءوا بفعل الصدفة لحكم العرق وخدمتهم أمريكا التي تنكروا لها بعد زمن، وهم محقون في استنكارهم لأفاعيل أمريكا، ولكنهم لم يكونوا صادقين في إصلاح ما أفسده نظام البعث، فأمعنوا في الفساد، فأيقظوا الطائفية من سباتها، فما كان لأستاذة جليلة مثل (أميمة الشواف) أن تُطيق العيش في وسط مريض كاره كهذا، ففضلت ترك الجامعة والتقاعد قبل الأوان والهجرة في بلاد الغربة!.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم