صحيفة المثقف

الميكروبات والحرب البيولوجية

محمود محمد عليعلى خلفية الاهتمام العالمي بمرض فيروس كورونا المستجد، وبهدف إلقاء المزيد من الضوء على خطر الميكروبات والحرب البيولوجية من المفيد تسليط الضوء بالقراءة والتحليل لكتاب "الميكروبات والحرب البيولوجية" للأستاذ الدكتور مصطفي عاشور، وذلك بهدف التوعية المجتمعية منهما، وكيف تم تناولهما في التأليف والأبحاث والاهتمام الأكاديمي من قبل الباحثين والخبراء، بهدف أن نبيّن للقراء والمهتمين أنّ هذا الموضوع كان محطّ اهتمام كبير في الغرب تحديداً، حيث نشرت حوله الكثير من الكتب والمقالات والأبحاث.

وفي هذا الكتاب يؤكد الدكتور مصطفي عاشور علي دور الإرهاب البيولوجى وأسلحة الدماء الشامل فى عصرنا الحديث أهمية كبيرة؛ لذا وجب علينا معرفة ما يمكننا معرفته عن هذه الميكروبات متضمناً نبذة تاريخية عنها وأماكن ظهورها.. وبلا شك أن هذا العدو الميكروبي ترجع خطورته لكونه من الكائنات المجهرية، ولعدم إمكانية التعرف عليه بأى من الحواس المادية المجردة إلا بعد ظهور أعراضه الإكلينيكية على الأفراد الذين تعرضوا بأى صورة للإرهاب البيولوجى دون توفر أو عدم جدوى وسائل الوقاية المتاحة.

من أجل ذلك يقدم لنا هذا كتاب الميكروبات والحرب البيولوجية كل ما هو متاح من تاريخ الميكروبات وأنواعها وخصائصها واستخدامها كسلاح قاتل، ليس ضد البشر فحسب؛ بل ضد الطير والحيوان والنبات، ومؤثراً على مياه البحار والأنهار، وما تحوى من كائنات حية وهذا دليل واضح على أن الحرب البيولوجية تدمر المجتمعات.

وهنا يؤكد الدكتور مصطفي عاشور كيف لجأ       الإنسان في العصور الحديثة للكيماويات المختلفة الحارقة والسامة والمسيلة للدموع والغازات التي تؤثر على الأعصاب،   ولم يتورع بني البشر عن استخدام ميكروبات مختلفة قد تسبب تسمما مروعا أو تلك التي تؤدي إلى الوفاة واندرج ذلك تحت اسم الأسلحة البيولوجية أو الإرهاب البيولوجي .

إن محاولات الإنسان في استخدام الأسلحة البيولوجية كما يري الدكتور مصطفي عاشور، بدأت منذ العام 148قبل الميلاد حينما أمر "هانيبال" جنوده بإحضار أوعية فخارية ملأها بالحيات وألقاها على سطح سفن الأعداء، وروى أيضا انه في الحضارات القديمة كالإغريقية والرومانية والفارسية كان المتحاربين يلوثون مياه الشرب للجهات المعادية إما بجثث الحيوانات النافقة والمتعفنة الصادر عنها روائح كريهة وتوجد بها ميكروبات محللة من النوع الضار، وأيضًا لوثت بالجثث الأدمية المتحللة. وفي سنة 1346 ميلادية فإن جيش التتار حجز جثث ضحايا مرض الطاعون في مدينة تسمي كافا (فيوديسيجا بأوكرانيا) حتى تتم عدوى البشر الغير مصابين ويتم إبادتهم.

كما يري الدكتور مصطفي عاشور أنه في سنة 1763 أعطى الجيش الانجليزي إعانة للهنود على شكل بطاطين مستعملة من قبل أشخاص كانوا مصابين بالطاعون. في الحرب العالمية الأولى استعمل الجيش الألماني مجموعة من الميكروبات المسببة لأمراض تصيب الإنسان والحيوان في الدول الأوروبية التي احتلتها، أما في الحرب العالمية الثانية فقد استخدم اليابانيون أسلحة ميكروبية ضد الصينيين و السوفييت وقد استمرت آثارها لمدة طويلة .  فحديثا أهداف هذا السلاح إما سياسيا أو ان تستخدم في صراع عقائدي أو لخدمة ايدولوجية معينة أو تكون ذات هدف إجرامي.  وتتراوح هذه الأعمال بين مزح صغيرة واختراعات غير مؤثرة لا ترى النور ولا تؤثر على التجمعات أو تتنامى وتستخدمها المؤسسات القادرة ذات المقدرة المالية العالية والتي تدعم من دول ذات امكانيات ضخمة، وهذه لها تأثير مدمر على البشرية وذلك لاعتمادهم على قوى علمية عالية الكفاءة وإمكان حصولهم على مواد تستخدم في إنتاج الأسلحة الفتاكة وقدرتهم على تسخير التكنولوجيا الحديثة كإنتاج مواد مجفده ومواد مضغوطة تستعمل كأيروسولات لتكون سهلة النقل بسيطة في الاستعمال. وبعد الحرب العالمية الثانية فقد عمدت كثير من البلدان على تبني برامج للأسلحة الميكروبية ومن أوائل البلدان التي قامت بذلك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وكندا وانجلترا، ثم وجد أن هناك سبعة عشر دولة قد قامت بتطوير استخدام الميكروبات كأسلحة بيولوجية وذلك ضمن منظومتها التسليحية.

في مقدمة الكتاب يتحدث الدكتور مصطفي عاشور عن الخواص المميزة للأسلحة الميكروبية ؛ فيؤكد لنا بأنها : لا ترى بالعين المجردة، وقدرتها عالية على إصابة البشر، والزيادة المؤكدة والجوهرية في أعدادها وقدرتها، وسهولة النقل نسبياً، وأن معظم المدنيين ليس لديهم مناعة ضدها وليس لديهم وسائل مكافحة للحماية منها مثل المرشحات التنفسية أو كمامات الغاز.

ثم يري أن هناك حقائق أساسية معروفة أن واحد على المليون من الجرام من جراثيم الـ B . anthracis  والداخلة في جرعة استنشاقيه تكون جرعة مميته للبشر وبذلك فإن الكيلو جرام منها يكون له القدرة على قتل مئات وآلاف من البشر القاطنين بالمناطق المدنية وذلك بناء على الظروف الجوية ووسائل النقل والتوصيل.

وهذه الكميات الصغيرة كما يري الدكتور عاشور تجعل إخفائها ونقلها ونثرها سهلاً وميسراً، ومعظم هذه الميكروبات توجد طبيعيًا في البيئة ويمكن ان تعزل بواسطة متخصصين في الميكروبيولوجي وممكن ان تجد المعلومات المتاحة في اكثر من 1500 مكتبة بيولوجية على مستوى العالم أو في عديد من المعاهد العلمية أو المعامل الطبية ويستلزم هذا كثيرا من التكنولوجيا المتطورة لاستخدامهم كسلاح سواء في الأوساط المدنية والطبية أو العسكرية. وقد وجد ان الصواريخ أو المعدات الأخرى المتقدمة ليست ضرورية لنشر الأسلحة الميكروبيولوجية؛ وحيث ان الرذاذ هو الطريقة المثلى للانتشار فإن الطرق التكنولوجية البسيطة مثل الطائرات التي تطير على مدى منخفض أو رشاشات المزروعات أو عربات النقل المزودة بخزانات بها الرشاشات المستخدمة في رش مبيدات الشوارع وتحضيرها وإطلاقها يتم عادة في صمت ولا يكشف أثرها في الحال حتى يتمكن من وضعها ان يبتعد لمسافة كافية قبل ان تظهر أعراض المرض على أحد.

إن السبب الرئيسي في كون الأسلحة الميكروبية كما يري الدكتور عاشور أكثر ملائمة للعمل الإرهابي بالذات مع نهاية الحرب الباردة وتقسيم الاتحاد السوفيتي؛ حيث أنه وجد أن الحصول على أسلحة الدمار الشامل أمراً سهلاً والاكثر جدية هو البحث عن الاستعمال الهجومي للميكروبات الذي يتزايد لاختيار سلالات أشد شراسة، ويمكن لها ان تقاوم الظروف البيئية المتميزة وتطوير وسائل المقاومة العلاجية، وفي روسيا في معهد الأبحاث الفيروسية والبيوتكنولوجية في كولتسوفا ونوفوسيبرك koltsova , novosibrisk، وجد انهم يستعملون ميكروبات الجدری وحمى الماربورج والحمى الفيروسية النازفة في دراسات بحثية جينية. ومثل باقي المعامل في روسيا فإنها تواجه مشاكل اقتصادية وكثير من العلماء المرموقين غادروا البلاد وبذلك أصبحت الإحتياطات الأمنية قليلة والأماكن التي ذهب إليها العلماء مجهولة ولم تنشر.

كما يتحدث بعد ذلك الدكتور عاشور عن المظاهر الوبائية للميكروبات كأسلحة ميكروبية ؛ حيث يري أنه لا بد من استخدام الأسس الوبائية لتقييم الأداء فالمريض الذي تنطبق عليه علامات مؤكدة لحدوث مرض ما يجعلنا نتساءل هل هي حوادث مرضية عارضة أم حالات تستدعي الاهتمام أم حالات تستدعي الاستنفار الكامل وتستدعي القائمين على الإشراف الصحي لان يكونوا على أهبة الاستعداد وذلك لاحتمالات وجود حالة إرهاب بيولوجي ترتبط بانتشار الميكروب.

وبرغم وجود أكثر من عامل من هذه العوامل فإنه ليس من السهل كما يري عاشور تقدير الهجوم الذي يحدث من خلال الوسائل الهجومية المرعبة وكمثال فإنها أخذت شهورا لمعرفة انتشار میکروب الـ Salmonella في ولاية أوريجون، والذي حدث بسبب التلوث المتعمد لأوعية السلاطة، وبالرغم من عدم وجود إجابة ذات معنى وسريعة فإن الوسائل المتبعة لمعرفة سبب الهجوم تعتمد على الرسائل الطبية مع معلومات مستفيضة تمكن من ان تمنع المرض والوفاة.

ثم ينقلنا عاشور للحديث عن الميكروبات المسببة للإرهاب البيولوجي ؛ حيث يؤكد أن أي ميکروب من آلاف الميكروبات التي تسبب أمراض للإنسان ممكن أن يكون سلاحاً بيولوجياً وممكن أن يسبب مشاكل خطيرة، وفي تقرير حلف شمال الأطلنطي NATO قد تحدد 39 ميكروبا تشمل البكتريا والفيروسات والركتسيا والسموم البكتيرية، وفي تقرير منظمة الصحة العالمية WHO 1970 فإنه قد تحدد شكل إفتراضي للميكروبات التي يمكن ان تستخدم كأسلحة إرهابية.. فوجدوا أن الجمرة الخبيثة وحمى الأرانب يتكهن أنها تسبب أكبر عدد من الوفيات والإعاقات الشديدة ولها انتشار سريع .

ثم يؤكد عاشور أنه تبعًا لأبحاث كليتان وروف فإن الميكروبات التي تستخدم كأسلحة للإرهاب البيولوجی هی  المسببة لمرض الجمرة الخبيثة التي تسبب حي الأرانب Tularamia والـ Yersinia pestis  التي تسبب مرض الطاعون Plague والـ Variola virus التي تسبب مرض الجدري (small pox)  الفيروسات التي تسبب الحمى الفيروسية النازفة Viral hemorrhagic fevers ميكروب Clostridium botulinum  التي تسبب التسمم البوتيولینی وميكروبات .Brucella spp التي تسبب الحمی المالطية brucellosis .

ثم يتحدث الدكتور عاشور في كتابه عن تقسيم الميكروبات الخطرة التي يمكن أن تستخدم في الحرب الالكترونية؛ في الباب الأول يتحدث عن ميكروبات المجموعة الأولي والأمراض الناجمة عنها، وفي الباب الثاني والثالث والرابع يتحدث عن ميكروبات المجموعة الثانية والثالثة والرابعة والأمراض الناجمة عنهم، بينما في الباب الخامس يتحدث عن دور المعامل الإكلينيكية في تقييم ومقاومة الإرهاب البيولوجي؛ حيث يري أنه من مكن أن تلعب المعامل في كشف وتصنيف الميكروبات التي يمكن ان تدخل في الحرب البيولوجية وقد طورت شبكة من المعامل ذات المستويات المتعددة بواسطة CDC www.bt.cdc.gov وتقسم المعامل إلى اربع مستويات تعتمد على قدرتهم على الاختبار ويشرح ذلك بالتفصيل ثم يتحدث عاشور فيقول :" شبكة المعامل المتخصصة والمتطورة تصبح في شكل عال من المعمل المتكامل لشبكة معامل متخصصة قادرة على دعم المعامل المجهزة لأي حدث إرهابي، وهي تكون في صورة شكل هرمي فإن معامل المستوى A تعطى المعلومات المبدئية وتعرض أعداد كل على المعامل الأكثر تطوراً، والنظام يعمل على أن العدد الكبير من العينات في معامل المستوى A ثم يقل بالمعامل التالية لهذا المستوى، والاتصالات داخل هذه المعامل تسهل تجميع المعلومات عن الحالات الوبائية التي يمكن ان تحدث في حالات العدوى الطبيعية، ومثل هذه الشبكات ممكن ان تفيد العاملين في مجال الصحة العامة وتعطي خطة للرد على أي حيث إرهابي.

وفي ذات الفصل أيضا يناقش المؤلف مستوي الأمان البيولوجي وتقسيم المعامل علي أساسها، حيث يري أنها تتعلق إما بمستوى الأمان البيولوجي في معامل مستوى الأمان الحيوي، وإما بمستوى الأمان البيولوجي في معامل الأمان الحيوي الثاني، وإما بمستوى الأمان البيولوجي في المعامل الميكروبية BSL Biological. ثم يري أن هذه المعامل تكون مؤهلة ومناسبة للأبحاث الإكلينيكية و التشخيصية وتكون مناسبة لإنتاج المواد المحلية والغريبة التي يمكن ان ينجم عنها أمراض مميتة، ويشترط في العاملين بهذه النوعية من المعامل ان يكونوا مدربين تدريباً جيدا على تداول الميكروبات المرضية والمواد المسببة للموت ولابد من ان يكون المشرف عليها عالم على درجة عالية من الخبرة وله خبرة كبيرة مع هذه المواد ومؤهل علمياً وإدارياً ونفسياً ويتمتع بقوة جسدية لمقابلة المهمات الصعبة وقت الكوارث.

وفي الباب السادس والأخير يبين لنا المؤلف كيف نستعد للإرهاب البيولوجي والتحديات المهمة لمقاومة الإرهاب البيولوجي، حيث يبين لنا أنه يختلف السيناريو المتوقع بعد الاعتداء بالأسلحة البيولوجية تماما عنه عند استعمال الأسلحة الكيماوية ويتضح ذلك من خلال الإرهاب الكيماوي والارهاب البيولوجي.. وأما عن التحديات فتكون من خلال أمرين، الأول ويكون من خلال الحذر العام من حدوث الإرهاب البيولوجي ولنأخذ خبرة مما حدث في الولايات المتحدة عندما هددت بالجمرة الخبيثة ولابد من توقع أسلحة إرهابية أٌخرى ويتوقع العلماء استعمال فيروس الجدري في أي هجوم متوقع.. والثاني ويكون من خلال أن نزيد من مستوى الاستعداد وتتسم بالحذر ويمتد النشاط إلى اربعة اتجاهات المراقبة التامة الشديدة : الاستجابة الطبية السريعة، والمباني والاحتياطات الأدوية والإمدادات، والبحث والتطوير.

وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب " الميكروبات والحرب البيولوجية" لمصطفي عاشور، سياحة عقلية خالية من أي تعصب، بعيدة عن أي إسفاف، مجردة من أي هوي، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ الميكروبات والحرب البيولوجية  نقف من خلالها مع المؤلف علي ما كان للإرهاب البيولوجى وأسلحة الدماء الشامل فى عصرنا الحديث أهمية كبيرة؛ لذا وجب علينا معرفة ما يمكننا معرفته عن هذه الميكروبات متضمناً نبذة تاريخية عنها وأماكن ظهورها.. وبلاشك أن هذا العدو الميكروبية ترجع خطورته لكونه من الكائنات المجهرية، ولعدم إمكانية التعرف عليه بأى من الحواس المادية المجردة إلا بعد ظهور أعراضه الإكلينيكية على الأفراد الذين تعرضوا بأى صورة للإرهاب البيولوجى دون توفر أو عدم جدوى وسائل الوقاية المتاحة.. من أجل ذلك يقدم لنا هذا الكتاب كل ما هو متاح من تاريخ الميكروبات وأنواعها وخصائصها واستخدامها كسلاح قاتل، ليس ضد البشر فحسب؛ بل ضد الطير والحيوان والنبات، ومؤثراً على مياه البحار والأنهار، وما تحوى من كائنات حية وهذا دليل واضح على أن الحرب البيولوجية تدمر المجتمعات.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم