صحيفة المثقف

الجاحظ: فلسفة العقل الثقافي والسياسي

ميثم الجنابيتقديم: إن أغلب العقول العربية الحديث والمعاصرة هي عقول مستلبة، بما في ذلك ما يسمى بالمفكرين منهم. إذ لا علاقة في الأغلب لاهتمامهم وهمومهم وما يتناولوه من قضايا وإشكالات بتحليل ونقد التجارب المتنوعة إن مهمة هذا المقال تقوم بالكشف عما ادعوه بالعقل الثقافي. وهو العقل الذي تتراكم صيرورته وكينونته في مجرى التجارب الذاتية للأمة. وما عداه يمكن أن يكون كل شيء باستثناء أن يكون عقلا بالمعنى الدقيق للكلمة. وهي قضية منهجية وثقافية ومستقبلية بقدر واحد.

فعندما نتناول إنتاج اغلب تيارات وشخصيات الفكر العربي العقلاني الحديث والمعاصر، فإننا نتوصل في نهاية المطاف الى انه لا عقلانية فيها ولا عقل. والسبب يكمن في أن أغلب عقول المثقفين العرب المعاصرين في مختلف الميادين، تتسم بقدر هائل من الاستلاب الثقافي. من هنا انهماكها في تحليل ودراسة شخصيات وفلسفات أوربية لا علاقة لها بإشكالات العالم العربي الواقعية الحالية منها والمستقبلية. وحتى حالما يجري التطرق إلى بعض المدارس والشخصيات الفكرية والثقافية منها، وهو عمل مهم أيضا، فإنه يجري تجاهل تطويعها تجاه إشكالات العالم العربي. الأمر الذي حدد معنى وطبيعة هذه الاستلاب. فالعقل الثقافي هو الوحيد الحق، حتى حالما يخطأ في تحليله وتأسيسه للأحكام والمواقف، وذلك لأنه يساهم في تعميق الوعي النقدي وتأسيس الحقيقة وغرسها في الوعي النظري والعملي. وهي مهمة العقل الأولية والنهائية أيضا.

فكل ما بلورته الثقافة العربية الإسلامية في ميدان الوعي والنظري كان نتاجا لعقلها الثقافي. من هنا بقاؤه في العقل والضمير والذاكرة التاريخية للعرب، بينما تضمحل وتتلاشى النظريات والفلسفات الأوربية مع كل ظهور جديد فيها سواء من جانب من ينفيها أو يكملها، كما لو أنها لا شيء. فالانهماك والإفراط المثير للغثيان بعقلانية ديكارت، على سبيل المثال، بينما هي صغيره وزهيدة مقارنة بعقلانيات الثقافة العربية الإسلامية، أو أن تتحول موضة "نقد العقل العربي" إلى مفخرة فلسفية وإبداع كبير بينما هي مجرد نقد لا يخلو من الحذلقة الفكرية ولا علاقة له "بالعقل العربي"، وخصوصا حالما يجري وضعه ضمن قوالب وقواعد لا علاقة لها بالواقع التاريخي والثقافي العربي القديم والمعاصر. غير أن الاعجاب بها يكمن أولا وقبل كل شيء في الاستلاب الثقافي أمام "العقل الغربي" أو "الأوربي". وفي كلتا الحالتين لا قيمة علمية فيهما ولهما بالنسبة لتأسيس العقل وغرسه في مسام الوعي الفردي والاجتماعي والقومي. وذلك لأن العقل الثقافي هو الوحيد الذي يمكنه أن يكون مصدرا لوعي الذات القومي والثقافي. وما عداه يمكن أن يكون مصدرا من مصادر الوعي المعرفي. من هنا قيمة ما ادعوه بالعقل الثقافي، الذي نعثر على نماذج واعية ومتنوعة له في الثقافة الإسلامية.

***

لقد كتب الجاحظ عدد من الرسائل لمختلف شخصيات الدولة (العباسية)، حيث وضع فيها وجهة نظره حول مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفكرية والدينية. وفيها نعثر على نموذج خاص لعلاقة المثقف بالسلطة هي علاقة المثقف الحر والعامل من اجل إضفاء العقل والعقلانية على السلوك والمعنى السياسي للدولة. فقد كانت علاقة الجاحظ بالسلطة (العباسية) في الأغلب ايجابية الطابع. وهو موقف شاطره المعتزلة بسبب تلاقي الرؤية والمواقف والغاية. وقد بنى هذه الفكرة والموقف على أساس الحديث القائل:"من لم يشكر للناس لم يشكر لله". غير أنه وجد لهذه الفكرة اساسها في الفطرة والعقل. من هنا استنتاجه:"فمن كفر بنعم الخلَق كان لنعم الله أكفر"[1].

إننا نعثر في هذه المقدمة على إدراك يقترب من الحدس عن قيمة ما أدعوه بالعقل الثقافي بالنسبة لتأسيس الرؤية والمواقف. بل إنهما ينبعان من تراكم التجربة التاريخية الإسلامية في مختلف الميادين وتهذّبهما بمعايير تجاربها الخاصة. فكل ما كتبه بهذا الصدد يبدأ بالرؤية العقلية وينتهي بأحكامها. لكنها في الوقت نفسه هي رؤية عقلية من طراز خاص تكمن في جوهرها الثقافي. بمعنى إنتاج وتأسيس المواقف بمعايير ما أدعوه بالعقل الثقافي. وقد كانت تلك السمة التي ميزت شخصية وتاريخ المعتزلة وفرادتها في الثقافة الإسلامية ككل. وضمن هذا المفهوم فقط يمكن إدراك وفهم خصوصية مواقفهم من السلطة.

إن المقصود بالعقل الثقافي هنا هو العقل العامل بمرجعيات الثقافة الخاصة واستشراف آفاقها المستقبلية بوحي تجاربه الذاتية، أي العقل المتراكم في مجرى تجارب الأمة وهمومها. وما عداه هو "عقل مستلب" أي ليس عقلا بالمعنى الدقيق للكلمة. وقد أبدع الجاحظ وأسس مواقفه من الدولة ورجالها بمعايير هذه المرجعية الكبرى، كما لو أنه أراد البرهنة على أن علاقة المثقف الكبير أو أهل العلم والمعرفة بالسلطة إشكالية كبرى، لا يحلها إلا العقل الثقافي وقدرته على تأديب الروح النظري والعملي لرجال الدولة. لهذا نراه يضع في رسالته عن (الحجاب)، أي احتجاب السلطة عن المجتمع، أولية الآداب (الأدب) وإشكالية الدين والدنيا. وذلك لأن واقع وحالة الحجاب بحد ذاتها هي خروج على آداب الثقافة العربية الاسلامية من جهة، ومنافاة للآداب العقلية من جهة أخرى. وليس مصادفة أن يربط الجاحظ هذه الظاهرة السياسية بصعود وسيطرة الأموية. ففيها بدأت تقاليد احتجاب الولاة. وفي منطلق نقده لهذه الظاهرة، استعمل الحديث النبوي الموضوع، وغير المتعارض في الوقت نفسه مع مضمون الفكرة المحمدية في الموقف من الإنسان والمجتمع، اضافة إلى التقاليد العربية آنذاك. فالاحتجاب معيب، لأن القوة الحاسمة في دفع حقيقة الشخصية تقوم في الإقدام والعزة والفروسية والسؤدد. وهذه كلها تتعارض تماما مع الحجاب والاحتجاب. ومضمون هذا الحديث يقول:"ثلاث من كن فيه من الولاة اضطلع بأمانته وأمره. إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون غيره، وأقام كتاب الله في القريب والبعيد". وقد طوّع الجاحظ بأثر عقله الثقافي أغلب ما وصل إليه من أقاويل وأحكام ومواقف مختلف الشخصيات بما في ذلك تلك التي يعارضها. من هنا استعماله لكلمات معاوية والحجاج. غير أنه يضعها ضمن سياقها الفعلي. وأورد بهذا الصدد موقف هانئ بن قبيصة في معاتبته ليزيد بن معاوية في قول يشدد على أن احتجاب الخليفة يجعل من الضروري خلعه ومبايعة من لا يحتجب عن المسلمين. حينذاك أجابه يزيد:"والله لولا أن أسُنَّ بالشام سُنَّة العراق، لأقمت أوَدَك"[2]، أي لرميتك في الدواهي! وهذا تبرير أرذل من غايته. لكننا نعثر فيه على حقيقة الأموية واحتجابها السياسي، بوصفه خوفا وهلعا من المعارضة. ففي عبارة يزيد بن معاوية نعثر على تفرقة في المواقف تجاه أهل الشام والعراق. فأهل العراق هم أعداء بني أمية "بالفطرة والسليقة". وفيهم التحدي والجرأة. كما أن لهم "سنّة" خاصة في السياسة الأموية مستقلة بحد ذاتها لا علاقة لها بالمناطق الأخرى للخلافة تقوم على القمع والإكراه والسجن والتعذيب والتشريد والقتل.

وقد جمع واستعرض الجاحظ في رسالته عن (الحجاب) الكثير من المواقف التي تكشف عن تزايد النقد الشعبي لظاهرة احتجاب الحكام والخلفاء. بمعنى إننا نعثر فيها على الصيغة المبطنة لمواقف الجاحظ تجاه نقد ظاهرة اغتراب السلطة عن المجتمع. من هنا تأسيسه لقيمة الآداب في السياسة، أي القواعد الضرورية التي تجمع في ذاتها بين وجدان الأمة وثقافتها الأخلاقية ومتطلبات المنافع العامة، أو السياسة الوضعية العقلية.

فالآداب بالنسبة له هي آلات تصلح للاستعمال في الدين والدنيا. كما أنها توضع على أصول الطبائع، كما يقول الجاحظ. بمعنى إن الآداب واحدة من حيث أصولها بالنسبة لكافة نواحي الحياة ذات الصلة بشئون الدين والدنيا، أو المادي والروحي، أو السياسي والأخلاقي وغيرها من الجوانب. لقد سعى الجاحظ في تقديم وتأسيس موقفه من الحجاب على مثال ربط إشكاليات الوجود الكبرى آنذاك (الدين والدينا). انه سعى لربط مهمات الدين والدنيا من حيث صلاحيتهما للإنسان والمجتمع. فالأصول بالنسبة له واحدة. بمعنى أن "امور التدبير في الدين والدنيا واحدة. فما فسدت فيه المعاملة في الدين فسدت فيه المعاملة في الدنيا. وكل أمر لم يصحّ في معاملات الدنيا لم يصحّ في الدين"، كما يقول الجاحظ. .

ولم تعن الوحدة المترابطة بين الدين الدنيا هنا سوى الربط بين قضايا الروح والجسد بمعايير الرؤية العقلية وأحكامها. من هنا قوله، بأن "من كان ليس له من العقل ما يعرف كيف دبرت أمور الدنيا، فكذلك هو إذا انتقل إلى الدين"[3]. والعكس هو الصحيح. بمعنى أولوية الرؤية الحياتية وجوهريتها أيضا بالنسبة للدين. والدين بالنسبة للجاحظ هو منظومة القيم المتوحدة بمعايير العقل ومتطلباته. فهو الحاكم الفيصل والنهائي في كل ما له علاقة بحاضر الإنسان ومستقبله. وضمن هذا السياق يمكن فهم استشهاده بالآية القرآنية (من كان في هذه (الدنيا) أعمى فهو في الآخرة أعمى وأظلَّ سبيلا). ومن ثم يمكننا القول، بأن هذه الفكرة كانت تحتوي على نقد وجود رجال الدين والفقهاء وضرورة الاستعاضة عنها برجال الدولة العاملين بالروح العقلي وآدابه. من هنا ضرورة التقوى. فمن لا يتمسك بها سيكون مصيره مصير من مضى وعبرة للآخرين.

وليس اعتباطا أن يكتب الجاحظ رسالة في (الفتيا)، والتي ينطلق فيها من الفكرة الكامنة في الحديث المنسوب للنبي محمد "لَمَا يَزَعُ الله بالسلطان أكثر مما يَزَعُ بالقرآن".  بمعنى أولوية السلطة والسياسة والدولة بالنسبة لتنظيم الوجود الإنساني. وقد اعتبر الجاحظ هذه الفكرة (الحديث) هو موقف اهل العلم والتجربة. ففيهما يمكننا العثور على مختلف أساليب وأدوات ونماذج الحصيلة القائلة، بأن القوة هي التي تكف المرء عن اقتراف الكبائر أكثر مما يمنعه القرآن (أو النصائح). بمعنى إنها هي التي تجعله يقف ويتمسك بحدود القانون والأخلاق. من هنا فكرته عن أنه بغض النظر عن كون السلطان والرعية أشياء متباينة، لكنه لا يمكن توقع إصلاح أحدهما دون الآخر. وهو موقف حددته المبادئ المعتزلية العامة وبالأخص مبدأ العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. من هنا توكيد الجاحظ على أن ما يهم المعتزلة أمثاله هو تحقيق "العمل الصالح" و"التعاون على مصلحة العباد، ونفي الفساد عن البلاد"[4]. من هنا قيمة المعرفة العلمية والعقلية الدقيقة، انطلاقا من أن "العلم هو على الدوام أشرف الأشياء"، حسب عبارة الجاحظ. [5]. ومن هنا أيضا عودته إلى من حيث بدأ عن أهمية العبرة أو التجربة التاريخية المختزلة في المفاهيم والرؤية النظرية. وهذا كله مرتبط بالنسبة له بواقع التطور الدائم في المعرفة ومن ثم تغيرها بأثر الممارسة. من هنا استنتاجه القائل:"ينبغي أن يكون سبيلنا فيمن بعدنا كسبيل من قبلنا فينا. على إنا قد وجدنا من العبرة أكثر مما وجدوا. كما أنَّ من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا"[6]. ووضع هذه الحصيلة العقلية والعقلانية الدقيقة في موقفه من المبدأ الجوهري للإفتاء. بمعنى، إن العبرة المتراكمة في مجرى السياق الفعلي والتطور التاريخي، ينبغي أن تكون محكومة بالعقل والمعرفة، والمؤيدة بدورها للدولة العامة بمعايير العدل والحق، والمستندة الى تأمل تجارب الاسلاف والماضي.

وليس هذه النتيجة بدورها سوى التعبير الدقيق عن الحقيقة القائلة، بأنه كلما يتوسع ويتعمق العقل النقدي في تناول إشكاليات الوجود التاريخي كلما يرتقي أكثر فأكثر صوب الرؤية الثقافية. ووضع لهذه الحقيقة منطلق يقوم في ما اطلق عليه الجاحظ نفسه عبارة "العقل هو وكيل الله في الأرض". وتعادل هذه الصيغة بمعايير الثقافة الإسلامية الفكرة التي قال بها انكساغورس عن أن العقل هو الذي يحكم العالم. ولا معنى هنا لعبارة انه "وكيل الله" سوى كونه يتصرف بالوكالة. فالله هو عقل. والعقل هو القوة التي تنظم شئون الوجود وتتحكم به. وعلى المستوى الإنساني المباشر يعني أن يكون العقل الحاكم الأول والأخير في المواقف والأحكام والرؤية. من هنا قوله:"وكيل الله عندك هو عقلك"[7].

فمهمة العقل بالنسبة للجاحظ تقوم، كما هو الحال بالنسبة للمعتزلة ككل، في الكشف عن علل الأشياء. وفي مجال القضية المتعلقة باحتجاب السلطة عن المجتمع، يضيف لمهمة العقل المشار إليها مهمة إدراك أسباب "ما اتفقت عليه محاسن الأمم"[8].  وضمنها يعيد تأسيس وتوسيع مدى الرؤية العقلية لإشكالية الدين والدنيا بمعايير العقل العملي والمنفعة. فالأدباء السابقون، كما يقول الجاحظ، "لم يكشفوا عن العلل والأسباب، رغم اقترابهم من الحق"[9]. وذلك لأنهم لم يفعلوا سوى أن "قاموا بأداء الأمانة ولم يبلغوا فضيلة من استنبط". بينما مباشرة اليقين ممكنة فقط عن طريق كشف علل الأشياء وأسبابها. وذلك لأن المعرفة السابقة في أغلبها ظنون. بينما في كثير من الحق مشتبهات لا تتضح وتنجلي إلا ببعد النظر. ولا يمكن بلوغ اليقين فيها إلا بعد معرفة الأصول والفروع. فقد كانت الغاية من وراء كل هذا التقديم النظري بالنسبة للجاحظ تقوم في ما اسماه برؤية ومعرفة "المعقول في كل طبيعة"، أو كل وجود[10].

إن معرفة طبيعة الأشياء هي المقدمة الضرورية لمعرفة العمل والسلوك الضروري بالنسبة لرجل الدولة. وقد وضع الجاحظ هنا وحل قضية غاية في الأهمية من الناحية النظرية والعملية، ألا وهي قضية تحديد ماهية وحقيقة المفاهيم. وبالتالي التعامل معها بما فيها وبما تتطلبه من مواقف. من هنا دعوته الى ضرورة النظر إلى المفاهيم بصورة ملموسة كالشجاعة والجود وغيرها[11]. وفي مجرى تحقيقها العملي نراه يقدم رؤية تتعلق بما يدعوه بتحصين الأسرار والإكثار من الوعيد للأعداء، والتعامل المتمايز تجاه الفئات الاجتماعية، واستدعاء محبة العامة بالتواضع[12]. وكذلك معرفة ما جرى في حال استحالة الاطلاع عليه مباشرة، عبر تواتر الأخبار والمقارنة ومن أية جهة قدمت هذه المعلومات. فالعلم الذي لا يدركه احد بعيان (مثل سرائر القلوب)، فإنما تدرك بآثار أفاعيلها وبالغالب من أمورها، كما يقول الجاحظ.

إن مهمة التفكر والتفكير والتمسك بمنطق الرؤية السببية والوصول إلى العلم اليقيني في ما يخص طبيعة الأشياء والظواهر من اجل تحديد المواقف المناسبة، قد ادى بالجاحظ الى بلورة فكرة عميقة للغاية وضعها في عبارة تقول:"الهزيمة مع التفكير لأفضل من التفريط مع الفوز". "فالمقادير ربما جرت بخلاف ما تقِّدر الحكماء، فنال بها الجاهل في نفسه، المختلط في تدبيره، ما لا ينال الحازم الأريب الحذِر. رغم ندرة ما يحدث مثلها"[13]. ولا يعني ذلك سوى اهمية وجوهرية التراكم المعرفي في التجارب الذاتية والعمل بموجبها. فالأخطاء في الأعمال والأفعال المبنية على تقدير العقل ليست خطيئة. على العكس. إنها تعمل باتجاه تراكم الحكمة العقلية والعملية. والخطيئة هو ما يعاكسها، رغم نجاحها المؤقت. وذلك لأنه فوز عابر ومخرب بقدر واحد.

وضع الجاحظ هذه الرؤية النظرية العميقة في صلب ما يمكن دعوته بالقواعد العملية للسلطة في التعامل مع النفس والمجتمع. من هنا طالبته لرجل الدولة بما اسماه بضرورة المؤانسة، انطلاقا من إن المرء لا ينتفع "بعيش مع الوحدة"، ثم النظر في تاريخ الرجال، ومحاربة الكذب وعدم القول به، وذلك لأنه دليل على صغر قدر النفس. وتجنب الغضب، لأنه لؤم وسوء مقدرة. إضافة إلى ما فيه من ثمرة هي خلاف ما تهوى النفس. وتجنب الجزع والحسد. فالأول هو انعكاس لضعف الشخصية، والثاني يلتهم بما فيه من دناءة، الأقرب فالأقرب.

وبالمقابل وضع ضرورة تربية النفس بصفات الصبر والحلم والصدق والوفاء. فالصبر هو مفتاح الانتصار في العاقبة. والحلم يفترض حسن المعاملة مع الجميع والضعفاء منهم بشكل خاص. والاكتفاء بالصدق أيا كان شكله ومضمونه. أما الوفاء فهو الوفاء لمن لا حاجة في رجائه ومخافته. ووضع حصيلة كل هذه الرؤية العملية والعقلية تجاه السلوك السياسي لرجل الدولة في موقف عام مهمته خدمة ما ندعوه الأن بالجماهير، أو المجتمع ككل. وكتب بهذا الصد ما يلي: "فأجهد أن يكون أغلب الأشياء على أفاعيلك كل ما تحمده العوام". وهذا بدوره ليس إلا العمل على تذليل النفس من أجل الأمور المحمودة[14].

إننا نقف هنا أمام نموذج لتراكم الرؤية العقلية الثقافية، أي المحكومة بتجارب وقيم النفس الثقافية. من هنا تغلغل الرؤية العربية الإسلامية، بوصفها رؤية ثقافية، كما في قوله، إن حياة الإنسان هي ابتلاء في العسر واليسر، غير أن الابتلاء هو اختبار. وأن الله غفور، غير أن حكم الآخرة هو حكم الدنيا. وهذه جميعها "بدون مقارنة (موازنة) العمل لا يصبح للميزان معنى يعقل"، حسب عبارة الجاحظ.

إن هذه الوحدة الحية بين مرجعيات الرؤية الثقافية (الإسلامية) وتجارب الخلافة السياسية والثقافية العامة كما نراها في ربط وتلازم الابتلاء بالإرادة، وحكم الآخرة بوصفه حكم الدنيا تعادل معنى ضرورة العمل بها بما يتطابق مع متطلبات العقل. وبدون ذلك لا يصبح للميزان معنى. فالميزان معادلة محكومة بالعمل أولا وقبل كل شيء. ومن ثم تحتوي على تحرير النفس والعقل من ابتزاز النفس والآخرين بعفونة الاخطبوط اللاهوتي. وبالتالي جعل الإرادة والعقل، والإرادة العقلية مقياس ومعيار العمل الضروري في كل شيء وتجاه كل شيء. فالإرادة، كما يقول الجاحظ تقتضي على كل امرئ بما يتوافق مع عمله. فالطبيعة (الفطرة) المميزة للإنسان لا تجعله يعمل بصورة مطلقة. فكل ما تأخذه النفس تصرفه آجلا أم عاجلا[15]. من هنا ضرورة التأديب. فهو الأسلوب الضروري الذي ينبغي أن يلازم كل عمل. وبالنسبة لرجل الدولة يفترض الجمع المعقول بين الترغيب والترهيب، على أن يكون ميزانهما العدل بما يتطابق مع العمل. فالسياسة مبنية على اساس الترغيب الترهيب. لاسيما وأنهما أصل كل تدبير[16]. وهي حصيلة مبنية على اساس تأمل التجربة السياسية التاريخية للخلافة واستحضار ما هو حي فيها بمعايير الرؤية العقلية الصرف. وليس مصادفة أن نعثر في مفاهيم ومواقف وأحكام الجاحظ على شبه كبير، بل شبه متطابقة مع الآراء التي وضعها الإمام علي بن ابي طالب في رسالته أو وصيته السياسية لمالك الأشتر (النخعي)[17]، وبالأخص ما يتعلق منها بفكرة جعل العدل والإنصاف واحدا تجاه الجميع في الثواب والعقاب، وأن يعرف للجميع منازلهم وأقدارهم، وكذلك مشاورة الخواص[18]. من هنا تحذيره من ظاهرة وسلوك الإفراط بوصفه منافاة للعقل. وكذلك أن يجري فهم المنفعة على أنها محبة، والصدق على انه ثقة، والعدل على انه اجتماع القلوب. وهذه كلها ليست إلا الصيغة العملية السياسية لتحرير النفس العادية ورفع شأنها إلى مستوى النفس الثقافية، أي العاملة بميزان العدل العقلي. مما حدد بدوره المبادئ الكبرى الأساسية لهذه السياسة العملية، حيث حصرها في كل من "تربية النفس على كل أمر محمود العاقبة"، و"تثمير المال آلة للمكارم وعون على الدين"، و"تقدير الأمور على قدر الزمان". بمعنى الربط الدقيق والعملي والعقلاني لتربية الإرادة (النفس)، واستثمار الثروة المادية بالشكل الذي يخدم الكينونة المعنوية للإنسان والمجتمع، وتطبيق ذلك بما يتوافق ويستجيب لمتطلبات الواقع الحي والمباشر. وهذا في كله ليس إلا الحصيلة النظرية المجردة لتأمل التجربة الذاتية للأمة وتهذيب رؤيتها العملية بما يتوافق مع ما ادعوه بعقلها الثقافي التاريخي. وبالتالي، فإن حقيقة الفكرة السياسية الضرورية هي المتنورة بالعقل وآداب الثقافة الذاتية، أي حصيلة التجارب التاريخية الذاتية وتحقيقها في الأقوال والأعمال بالشكل الذي يخدم إصلاح ومصالح الأمة والجماعة والأفراد والدولة.

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

[1]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ضمن مجموعة (رسائل الجاحظ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1964،ج1، ص95.

[2]  الجاحظ: الحجاب، ضمن مجموعة (رسائل الجاحظ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1964،ج2، ص41-42.

[3]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص99.

[4]  الجاحظ: الفتيا، ضمن مجموعة (رسائل الجاحظ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1964، ج1، ص314.

[5]  الجاحظ: الفتيا، ج1، ص316.

[6]  الجاحظ: الفتيا، ج1، ص316.

[7]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص92.

[8]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص95.

[9]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص96.

[10]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص98.

[11]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص114.

[12]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص115-118.

[13]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص121.

[14]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص123-127.

[15]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص103.

[16]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص105.

[17]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص106-107.

[18]  الجاحظ: المعاش والمعاد، ج1، ص108.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم