صحيفة المثقف

علم النفس اللغوي والبرهان العقدي للتواصل عند ابن حزم الأندلسي

محمد بنيعيشمشكلتنا مشكلة التواصل، فقد نتصل ولكن لا نتواصل، ونتكلم ولا نتفهم، ونطالع ولا نتعلم، وننصت ولا نسمع:" وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ"" وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ "قرآن كريم.

إن موضوع اللغة جدير بأن يدرج ضمن العلوم النفسية، بل إن الجسور ينبغي أن تبقى منصوبة بين علم اللغة وعلم النفس بصورة رسمية ومسترسلة، وهذا أقرته الدراسات النفسية واللغوية الحديثة، لأنه بعد فقدان علم اللغة ثقته بعلم النفس جاء العلم النفسي اللغوي ليعيد بناء الجسور[1].

فاللغة هي الإنسان وبدونها فليس هو هناك، حتى إن الحد الذي عرف به عند المناطقة هو أنه: حيوان ناطق[2].

هذا النطق له مظاهر كثيرة إلا أنه يقف عند حد واحد، ألا وهو طريقة التوصل فيما بين الإنسان وأخيه .

اللغة الضرورية وبقاء النوع الإنساني والحضاري

يرى ابن حزم أن اللغة مسألة ضرورية في  كيانه وليست مكتسبة، بل هي تلقين       من الله تعالى ابتداء، مستندا في هذا إلى قول الله تعالى "وعلم آدم الأسماء كلها".

أما البرهان العقلي عنده فهو:أن الكلام لو كان ألفاظا لما جاز "أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم وتدربت عقولهم ونمت علومهم ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها واختلافها وطبائعها، وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جدا يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غير، إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لابد منه فيما يقوم معايشهم من حرث أو مواشي أو غراس ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع ويعاني به الأمراض ولابد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك"[3].

فكل إنسان قد كان في حالة الصغر ممتنع الفهم ومحتاجا إلى كافل"والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله لأنه من عمل المصطلحين وكل عمل لابد من أن يكون له أول، فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليها، فهذا من الممتنع المحال ضرورة".

ثم يخلص بعد هذه التحليلات النفسية الدقيقة و الأناسية-إن صح التعبير(الأنتروبولوجية)-حول مصدر اللغة الأصلي إلى القول بأن: هذه الحقائق المذكورة دليل برهاني وضروري على" وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى ومن أدلة وجود النبوة والرسالة، لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام"[4].

من هنا نستخلص أنه يرى اللغة مسألة توقيفية غرزها الله تعالى في نفوس البشر حتى يتسنى لهم التعايش، وبدونها فلا بقاء لجنسهم على وجه الأرض، إذ الانقراض سيكون مآلهم المحتوم.

هذه اللغة قد تكون بالإشارة والحركة أو بالكلام الفصيح:

أما الأولى فهي ضرورية وجدت منذ وجد الإنسان واضطر إلى التواصل مع أخيه الإنسان، فعبر غريزيا بحركات وإشارات تبين غرضه ومطالبه.

وأما الثانية فهي اصطلاحية جاءت بعد الأولى لأنها مؤلفة وتحتاج إلى زمن حتى يتم جمعها، ومن ثم وضعت لها رموز ومعالم مختلفة أدت إلى تنوع تراكيبها وانقسامها إلى لغات متعددة حتى تؤدي نفس الهدف المنوط بها، وعلى هذا فاللغة الضرورية لغة واحدة أما اللغات المختلفة فهي اصطلاحية[5].

هذا الرأي عند ابن حزم قد يجد تقاربا في التحليل عند علماء السيكولوجية اللغوية في العصر الحديث، بحيث قد استنتج بعضهم أن القدرة اللغوية واحدة في النوع، وذلك من خلال ملاحظة الجماعات البشرية التي لا تخلو أية منها من لغة، بالإضافة إلى هذا فقد لوحظ أن الفروق طفيفة في تعقد الأوصاف لمختلف اللغات فيما يخص مجموعة القواعد اللغوية المجردة، وهذه الملاحظات قادت الكثيرين من دارسي العمليات اللغوية إلى الاعتقاد بأن الكثير من وجوه قدرتنا اللغوية فطرية.

ويرى إيريك لنيبرغ أن: جميع الدلائل تشير إلى أن القدرة على تنمية لغة حقيقية هي خاصية نوعية، بمعنى أنها خاصية يتفرد بها النوع الإنساني، كما أنه يجعل تطور اللغة لدى الإنسان رهين نموه الجسدي وذلك"أن الأطفال يتكلمون متى وصلوا إلى مرحلة معينة من النضج الجسدي وليس قبل ذلك أو بعده"، هذا وقد أثبتت أن النمو اللغوي يترابط بالتأكيد مع النمو الحركي ونمو الدماغ"[6].

كما ذهب إلى هذا الرأي تشومسكي موضحا بأن الإنسان يملك قوة فطرية لغوية ذات صفات عامة بين جميع اللغات، وذلك حينما ناقش نظريات سكنر عن السلوك الكلامي، فكان يرى أن" الخبرة والتعلم لا يفعلان أكثر من تقديم معلومات عن صفات الوجوه العامة للغة التي لابد منها من أجل التواصل مع الناس، في مجتمع لغوي معين (عام1969)"[7].

إن ابن حزم حينما أثبت أن اللغة واحدة في أصلها سعى إلى البحث عن اللغة الأم التي تفرعت عنها كل اللغات، فنراه يناقش شتى الآراء حول الموضوع:

"قد قال قوم هي السريانية-أي لغة آدم- وقال قوم هي اليونانية وقال قوم هي العبرانية وقال قوم هي العربية، والله أعلم.

إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمنا يقينا:أن السريانية والعبرانية والعربية، هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير، لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها، فحدث جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي ومن الخراساني إذا رام نغمتهما، ونحن نجد من سمع لغة فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كان أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة، وهذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى يتبدل لغتها تبديلا لا يخفى على من له تأمله"[8].

هكذا يمضي في إقامة دراسة موضوعية وتحليلية للظواهر النفسية والاجتماعية وعلاقة اللغة بها ومستوى الإبداع فيها من خلالها، إذ يرى أن الابتكار رهين بوجود قوة النفس وعزتها ومظهر لوجود الاستقرار السياسي في البلاد، وأنه متى ضعفت السلطة في البلاد وحدثت الفتن لم يعد مجال إذاك للتقدم العلمي، بحيث إن أهم ميدان تطاله الأزمة هو العنصر اللغوي كمظهر رئيسي للمستوى النفسي عند الشعوب والمفتاح الأول للتواصل البشري و التلاقح المعرفي.

فالاضطهاد والظلم والحاجة والمذلة والسخرة تميت الخواطر-على حد تعبيره-، وفي هذا تأثر نفسي واضح وشعور بالإحباط، وعند موت الخواطر يتقلص مستوى الإبداع اللغوي، وفي هذه الحالة لم تبق هناك قوة لربط المعلومات ببعضها وإحداث تشكيلة مناسبة للعصر ومتطلباته، فحينئذ تندثر العلوم وتبيد[9].

2) مشكلة علاقة اللغة بالفكر وتحديد الأسبقية

يبدو أن ابن حزم قد كان أكثر عمقا في دراسة مفهوم اللغة وحدودها الوظيفية وآفاقها الفكرية ممن يرون أن "الأفكار لا تتكون ولا تتشكل إلا عبر كلمات وتجميع الكلام وعن طريق الكلمات وتجميع الكلمات في جمل تصور الواقع في الفكر، ولا تصبح الأفكار أفكارا محددة إلا بقدر ما تكون مسجلة ومثبتة في كلمات وفي كلمات مربوطة في جمل، فالأفكار دون لغة غير موجودة شأنها شأن الأرواح دون الأجساد"[10].

هذه الآراء حول علاقة اللغة بالفكر قد لا تستند فيما يبدو لنا إلى استقراء علمي لمجموع البشر، إضافة إلى ما فيها من التكلف في إدراج النزعة المادية المتعامية في تفسير النشاط الإنساني.

فالإنسان البدائي لم يكن يعرف كلمات أو حروف، والأخرس لا يعرف لغة مركبة ولن يعرفها أبدا، إلا أنه يستطيع أن يفكر وأن يومئ بإشارات يفهم منها قصده وأنه قد فكر من خلالها، وأدلى برأيه في قضية ما.

فالفكر سابق على اللغة و ليست اللغة سابقة على الفكر، وإنما هي مجرد وسيلة للتواصل بين بني الإنسان والتعبير عما يختلج الباطن من أفكار وتصورات ومشاعر، قد تعجز أحيانا عن وصفها اصطلاحا.

من هنا فقد أدرك ابن حزم جيدا هذا الموضوع ومن ثم كانت براعة تفكيره بخصوص دور اللغة تتلخص في القول:بضرورة انقراض الجنس الإنساني إذا لم تكن له لغة، نظرا لتعذر التواصل بين الإنسان وأخيه؛فيتعذر تبعا لذلك التعاون والتعاضد والتناسل وتحقق كل متطلبات الحياة الاجتماعية .

غير أن اللغة التي يقصدها ليست مركبة من حروف وكلمات، وإنما هي غير ذلك قد تمثل تفاهما خاصا بين الإنسان وأخيه لوجود طبائع مشتركة فيما بينهما مهدت لهذا التواصل وسيرته.

هذا التواصل ضروري لبقاء النوع، أما الحروف فليست إلا نتيجة مواصفات وتطورات حضارية عند الإنسان تشكلت عنها لغات شتى بفعل الظروف والبيئة والواقع الاجتماعي والسياسي...كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

من هنا يبدو صاحب القول بأن اللغة موجودة قبل الفكر أو معه التحاما - في النص السابق- قد غلبت عليه فكرته المادية في تصوره للعقل الإنساني وأداة التفكير لديه.

فهو يرى أن الفكر ليس إلا انعكاسا للعالم المادي ومن ثم فليس هناك شيء معنوي خالص من هذه المادة، فأراد أن يربط اللغة نفسها بالمادة، جاعلا من العرض جوهرا ومن الجوهر عرضا، وهذا خلط في المفاهيم والتصورات وتحليل المبادئ البديهية.

بحيث يرى أن"الأفكار لا توجد إلا مجسدة في كلمات أو عبارات معينة فليس للأفكار وجود منفصل غير متجسد بمعزل عن التعبير عنها...وليس النشاط التفكيري للمخ إلا مثل هذه الإقامة للصلات بالعالم الخارجي ولا يتم هذا قبل اللغة ولا بمعزل عن اللغة وإنما بالتحديد بواسطة اللغة فحسب"[11].

فبخصوص مسار اللغة يستخلص أنها" تتطور كوسيلة لتعبير أناس يعيشون في مجتمع ما وللاتصال بينهم، وأنها تنشأ وتتطور في مجرى نشاطهم الإنتاجي وكل ألوان نشاطهم الاجتماعي الأخرى، وأن أفكار الناس-التي يعبرون عنها باللغة- تخضع للمنطق، لقوانين الفكر كانعكاس للواقع المادي.

وفي الوقت نفسه فإن الآراء الاجتماعية التي تجد تعبيرا عنها في اللغة وتصاغ بمساعدة المنطق تتطور على أساس علاقات الناس الاقتصادية، ونشاط ومصالح الطبقة الاجتماعية"[12].

فهذا الرأي كما فهمنا قد لا يمس إلا الشطر الثاني من مفهوم اللغة عند ابن حزم، وهو المظهر الاصطلاحي الذي يتطور حسب الظروف والأوضاع النفسية والاجتماعية والسياسية، أما عمق اللغة وحقيقتها فهذا ما لم يستطع أصحاب الاتجاه المادي في تفسيراتهم للنشاط الإنساني إدراكه أو ملامسته.

فإذا تفحصنا هذه النصوص التي تريد أن تعلل قضايا اللغة بالتعليل النفسي فسنجدها لا تعطي توضيحا لمشكلة اللغة ومصدرها الأصلي، بل إن العنصر الموضوعي والتجريبي في هذه النصوص مفقود.

خاصة إذا قارناها بنصوص ابن حزم في إثبات مذهبه حول طبيعة اللغة ومصدرها ومراحل تطورها وتأثرها بالواقع والأحوال الاجتماعية، وذلك في تحليلات علمية سليمة تجمع بين الروحاني والمادي والتجريدي والحسي من غير لف ودوران في بوتقة التعصب المادي الضيق الأفق.

إن مسألة علاقة الفكر باللغة مسألة شائكة ومعقدة، فلقد تساءل"علماء النفس عما إذا كان من الممكن وجود فكر بدون لغة، وكان جوابهم أنه إذا كان من الممكن نظريا على الأقل وجود فكر ابتدائي بدون لغة فإنه من غير الممكن وجود فكر وتفكير حقيقيين عميقين بدون لغة"[13].

فإذا عمقنا النظر في هذه التساؤلات قد نجدها تنصب على اللغة الاصطلاحية، إذ رغم وجودها فقد بقيت مجالا للتشكيك في استيعابها كل حركات الفكر[14].

من هنا فقد ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن بين اللغة والفكر تأثيرا متبادلا وأن الفكر متقدم على اللغة؛وهو ما فهمناه عند ابن حزم، مستدلين على هذا بأنه:

"لو كانت اللغة شرطا من شروط الفكر-أي متقدمة عليه- لأمكن التعبير عن كل فكرة، إلا أننا كثيرا ما نشعر بالأفكار تجول في خاطرنا من غير أن نوفق للتعبير عنها...

والحق أن اللغة نتيجة من نتائج الفكر المنطقي وشرط من شروطه، فالكلام والفكر ينموان ويرتقيان معا، إلا أن كثرة المفردات تتبع كثرة المعاني، وتطور الألفاظ تابع لتطور الفكر.

إن وراء الفكر التأملي نفسه صورا من المعاني المستقلة عن الألفاظ، حتى لقد بين علماء النفس أن لدى الطفل تفكيرا غير لفظي وهو تفكير مقارن للعمل تنوب الحركات فيه عن التصورات.

ثم إن هناك فكرا تأمليا وحدسيا يتميزان بتقدم الشعور فيهما على الألفاظ، فالفكرة إذن، أغنى من اللفظ ويمكن التعبير عنها بألفاظ مختلفة"[15].

هذه إذن بعض أهم بواكير علم النفس اللغوي عند ابن حزم، وأجمل ما فيها هو ربطه الوجود الإنساني بالوجود اللغوي، وجعله أساسا من أسس البنية النفسية وليس شيئا خارجيا مكتسبا أو متواضعا عليه، ومن ثم فإن النظر في اللغة يبقى دائما له اتصال بعلم النفس لتحديد أسباب تقدمها أو انحسارها[16].فهل نحن في زماننا هذا لنا الشجاعة لاستعمال معصرة فكرية قد تعطي مثل هذا المعنى للغة من حيث التوظيف والتوصيف والتصنيف وبشكل علمي غير متعصب ولا متذبذب؟...

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

...........................

[1] جان بياجي:البنيوية، ترجمة عارف منيمنة وبشير أوبري، منشورات عويدات بيروت باريس ط1982ص68

[2] مجموعة المتون الكبرى:متن إيساغوجي مطبعة الاستقامة القاهرة1378-1958

[3] ابن حزم:الإحكام في أصول الأحكام، مطبعة السعادة مصر ط1-1345ج1ص29

[4] نفس  ج1ص 39

[5]نفس  ج1ص31

[6] فاخر عاقل:أصول علم النفس وتطبيقاته، دار العلم للملايين، ط6-1984ص152

[7] نفس  ص153

[8] ابن حزم الإحكام في أصول الأحكام ج1 ص31

[9] نفس ج1ص32

[10] موريس كورنفرث:مدخل إلى المادية الجدلية، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الفارابي بيروت ج3ص50-51

[11] موريس كورنفورث:مدخل إلى المادية الجدليةج3ص52

[12] نفس   ج3ص59

[13] فاخر عاقل:أصول علم النفس وتطبيقاته ص138

[14] نفس ص139

[15] جميل صليبا :علم النفس  ص518

[16] فاخر عاقل:أصول علم النفس وتطبيقاته ص142

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم