صحيفة المثقف

فِي ظِلالِ الثَّقَافَةِ المِصْرِيّةِ الحَدِيثَةِ والمُعَاصِرَةِ

بليغ حمدي اسماعيللم يكن في خاطر أو هواجس محمد علي باشا وهو يدشن لامبراطوريته المصرية أن دعائم الثقافة التي سعى إلى تكوينها وتأسيسها ستكون باعثا قويا ودافعا إيجابيا لحرية الوطن الذي تربع هو وأسرته متعددة الأنساب والأصلاب على عرشه قرونا طويلة . الأمر نفسه الذي لم يكن بخاطره وخاطر المؤسس الثاني للدولة المصرية الحديثة  الخديوي إسماعيل باشا أن المؤسسة العسكرية نجحت مرتين متتاليتين في العصر الحديث والعصر الراهن في تمصر الوطن والحفاظ على هويته الرئيسة التي لا يمكن أن تشوبها عاطفة سياسية موجهة أو تقتنصها تيارات وفصائل لها أطماع ومطامح أيديولوجية معينة.

فالمرة الأولى التي نجحت فيها المؤسسة العسكرية أن تعلن تمصيرها كانت أثناء الثورة العرابية حينما أعلن الخديوي توفيق حاكم مصر الضعيف والبليد سياسيا ضميره بقوله المشهور " لقد ورثت أنا ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا "، ووقتها أطلق عليه الزعيم الخالد البطل المصري أحمد عرابي قولته الأكثر شهرة وذيوعا وانتشارا حتى لحظتنا الراهنة " والله الذي لا إله إلا هو لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، والله أننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم " .

ومنذ هذا المشهد المحفور في ذاكرة الأمة والمؤسسة العسكرية هي صوت الشعب وسلاح الوطن ضد كل فاسد أو جائر، وما هذا التصرف إلا نتيجة طبيعية لحالة الثقافة التي انتشرت منذ تولي محمد علي باشا حكم المحروسة، وأن مقومات الدولة المصرية الحديثة لم تبدأ منذ غزو الحملة الفرنسية مصر كما هو معهود ومشهود لدى الكثيرين بل هذه المقومات بزغت بالفعل بمجرد إعلان تأسيس الدولة المدنية عن طريق إيفاد البعثات العلمية إلى فرنسا وإن كان معظمها من رجال الأزهر الشريف إلا أن صبغة الدولة آنذاك كانت مدنية خالصة .

ورغم التغلغل الثقافي الأجنبي الذي تسلل خفية إلى الرجال الأوائل الذين خططوا للدولة المدنية الحديثة إلا أن مصريتهم كانت هي الهوية الأساسية التي لا يمكن التنازل عنها أبداً حتى ولو كانت تحت سطوة الدولة العثمانية لأنها بالفعل دولة لا يمكن تحديد هوية محددة لها وخير دليل على ذلك محاولة كمال أتاتورك في انتزاع تركيا بعيدا عن التأصيل العربي والإسلامي صوب الشاطئ العلماني انتهاء بأردوغان الذي لا يزال يهرول زاحفا تارة ومتنازلاً عن تاريخ حضارته تارة أخرى من أجل رضا الاتحاد الأوروبي عليه والإنعام بانضمامه كشريك حيوي في الكيان الأوروبي .

أما المرة الثانية التي استطاعت فيها المؤسسة العسكرية أن تحافظ على التمصير والهوية المصرية للبلاد والعباد فكانت مع شرارة ثورة يوليو المجيدة في عام 1952، حينما قرر المؤسسة العسكرية الوطنية أن تحافظ على الوطن ومقدراته وتنأى به بعيدا عن مفاسد ومظالم حكم وراثي جائر، حينما قضت على آخر أطماع اللامبراطورية التي أسسها الأجنبي محمد علي باشا في مصر وتمصير السلطة الوطنية لأول مرة في تاريخها الضارب في القدم، ولاشك أن معادلة النهضة الثقافية التي كرسها وشيدها محمد علي باشا ومن بعده إسماعيل كانت هي الضربة القاضية التي أودت بحياة الأطماع العلوية في مصر الأمر الذي لا يمكن أن يتناساه الكيان التركي الذي يسعى إلى زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي في مصر اليوم ويلازمه الفشل .

هذا المرور السريع على دور المؤسسة العسكرية الوطني لم يغفل عن حقائق مهمة وهي أن الجيش المصري العظيم هو أقدم مؤسسة مصرية استطاعت أن تحافظ على الوطن وسلامة أراضيه، وأن هذا الحفاظ وراءه كتيبة من المثقفين المصريين الذين ساعدوا في بناء الدولة المصرية المدنية الحديثة بدءا من الأزهري رفاعة الطهطاوي مرورا بأسماء لامعة في تراثنا الفكري والثقافة كالمجدد الإمام محمد عبده وعبد النديم وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد والشيخ مصطفى عبد الرازق والعبقري طه حسين وغيرهم ممن أثروا فكر العرب ومصر على السواء .

ومثلما انحازت المؤسسة العسكرية للشعب وتمصيره في العصر الحديث المنصرم، نجحت أيضا في انحيازها إلى أطياف الشعب ضد من سعى إلى اقتناص الوطن ومقدراته والعبث بوطن ضارب بجذوره في أعماق الأرض، وكان الانحياز في العصر الراهن أيضاً مرتين ؛ الأولى حينما أدركت المؤسسة العسكرية الوطنية أن مبارك ونظامه يسعون جاهدين إلى إعادة إنتاج الحكم الوراثي وإعادة تشغيل الماكينة السياسية القديمة في تكريس وتعضيد حكم خلافي يدوم، فكانت انتفاضة  يناير 2011 والتي أطلقها المصريون بدعوات ثقافية تؤكد على أن الثقافة على أرض هذا الوطن أكبر من كلمة الحرية، إن الثقافة في مصر معركة بقاء بدليل أن إسقاط مبارك ونظامه كان نتيجة أقلام سطرت، وأصوات خطبت، ومفاتيح إليكترونية ضغطت فكانت النتيجة سقوط مبارك ونظامه ورجاله ومن ثم كانت المؤسسة العسكرية الوطنية على موعد ثالث جديد في تمصير البلاد والانحياز إلى شعب عظيم .

أما المرة الرابعة التي أثبتت فيها المؤسسة العسكرية انحيازها النهائي والمطلق للشعب المصري وأطيافه وطوائفه حينما أدرك المصريون هوية وتكوينا أن ثمة استلاب ومحاولات اقتناص علنية تسعى لتقويض الوطن لصالح فصيل واحد، وأن جماعة سعت منذ وصولها إلى حكم البلاد والعباد لم تتعلم دروس التاريخ السابقة ففكرت في إعادة إنتاج حكم الخلافة الطويلة والتحكم في مفاصل الدولة العميقة وذلك خلال عام واحد من وصول مندوب جماعة الإخوان المسلمين إلى كرسي حكم مصر، فجاءت الولادة الثقافية المتعسرة هذه المرة شرارة أولى لتندد بممارسات استلاب الجامعة للوطن .

وليس مصادفة أن تنجح الثقافة المصرية الوطنية في إسقاط الرئيس المعزول محمد مرسي ونظامه وجماعته، وليس مصادفة أيضا أن تتناول الأقلام المصرية فترة حكم الجماعة لمصر سواء من حيث الرصد أو التحليل والتأويل، لكن المثير أن المنتمين لنظام مرسي وفكر الجماعة يعلنوا ليل نهار أن الإعلام المصري والأقلام الصحافية وقفت ضدهم وكانت السلاح الأول في إسقاط هذا النظام.

لكن برجوع تاريخي يسير لتاريخ الثقافة المصرية نلتقط أسماء كمحمد عبده والبارودي وقاسم أمين وعبد الله فكري وعيد الله النديم وطه حسين وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل والعقاد وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وجمال حمدان وأمل دنقل وغيرهم من رموز الثقافة والإعلام استطاعت أن تحرك المياه الراكدة الآسنة التي استمرأ بعض فئات الشعب البقاء في براثنها وتغيير بوصلة الشارع، لذلك يمكن القول بإن الثقافة المصرية رغم تعدد أشكالها وأنماطها وروافدها أيضا إلا أنها في النهاية تصاغ على كونها ثقافة مركزية واحدة بنكهة مصرية أصيلة.

وعود إلى دور المؤسسة العسكرية مرة جديدة حينما انحازت إلى أصوات المصريين المنددة بممارسات الجماعة وتسلطها الفكري عن طريق تسيدها سدة الحكم في مصر، فلقد أنصتت المؤسسة الوطنية إلى زئير المصريين الذين خرجوا في يونيو 2013 ضد جماعة الإخوان وكانت بحق طوق نجاة لتلك الأصوات .

وفي الوقت الذي اندفع فيه المؤيدون لجماعة الإخوان باتهام الذين خرجوا بأنهم ضد الإسلام وضد الشرعية وضد الضد، تحولت الثقافة المصرية من تجلياتها التنظيرية والذهنية الجافة إلى ممارسات وأفعال وتصرفات راقية سرعان ما تحولت إلى آليات بتفويض المؤسسة العسكرية الوطنية لمواجهة الإرهاب والتطرف.

والحقيقة لا يمكن توصيف الثقافة المصرية عبر نضالها التاريخي بأنها ثقافة علمانية، وبالتأكيد ليست بالدينية الأصولية، إنما هي ثقافة مدنية تولدت خصيصا من أجل بناء الدولة المصرية الحديثة منذ بدايات حكم محمد علي باشا. هي ثقافة واحدة لشعب واحد صبغت كافة الثقافات الفرعية بلونها واحتكمت تلك الثقافات بشرائطها وضوابطها المصرية الخالصة.

لذا يمكننا التأكيد على حقيقة مصرية أصيلة مفادها أن الدولة المصرية المعاصرة كانت نتيجة طبيعية ومنطقية للترابط والتوافق بين الثقافة وطروحاتها النظرية منذ ظهور رفاعة الطهطاوي على مشهد الحياة الثقافية في مصر انتهاء بشباب الفيس بوك المثقفين وبين المؤسسة العسكرية الوطنية على حد وصف المفكر المصري غالي شكري العمود الفقري لتأسيس المجتمع المدني المصري.

وهذه الثقافة المصرية الفريدة هي السلاح الذي يتصدى لكل من يسعى لاستقطاب الوطن والمواطنين، وهي الدرع المنيع الذي يتصدى لكل ممارسات ومحاولات اقتناص الوطن، لاسيما الحركات الإسلامية المتطرفة، ومن غريب الرصد أن كاتبا سياسيا ومفكرا جغرافيا مثل العبقري المصري جمال حمدان يندد بتلك الحركات المتطرفة ومساعيها غير المحمودة، وهو الوصف الذي ذكره المفكر المصري غالي شكري في كتابه الماتع " ثقافة النظام العشوائي .. تكفير العقل وعقل التكفير "، يقول جمال حمدان في حواره الصحفي مع مجلة المصور المصرية في أبريل 1994 : الحركات الإسلامية المتطرفة هي وباء دوري يصيب العالم الإسلامي في فترات الضعف السياسي أمام العدو الخارجي، وهي نوع من التشنج الطبيعي بسبب عجز الجسم عن المقاومة " .

وفي جملة الوصف لتحديد ملامح الثقافة المصرية يمكن القول بأنها ثقافة عقلانية وسطية أخذت طابع الوسطية من الدين الإسلامي الحنيف، ومن فطرة الإسلام النقية التي لا تقبل التطرف ولا تغتر بالغلو والتفريط ولا تسمح للمتهوكين بنزع فتيل الفتنة الطائفية بين نسيج الوطن .

حتى الثقافة الدينية الإيجابية كشكل من أشكال الثقافة المصرية نجحت بكفاءة وفعالية في رأب الصدع تجاه أية محاولات مشبوهة من قبل بعض المتطرفين دينياً لإشعال الفتنة بين الأقباط والمسلمين، ودعوات تجديد الخطاب الديني جاءت في البدء ثقافية وليست دينية وهذا دليل على خصوصية الحالة الثقافية في مصر.

وربما أكثر ما تخشاه إسرائيل وينكد المشهد على الكيان الصهيوني هو الثقافة المصرية المتجذرة أي الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، فبرغم محاولات ومساعي الكيان الصهيوني لزعزعة الاستقرار المجتمعي في مصر والمبادرات التي تتبناها الإدارة الأمريكية من أجل تدعيم الديموقراطية في مصر تحت مسميات متعددة ومن خلال منظمات وجمعيات مختلفة، تظل الثقافة المصرية بأسماء رموزها في الوعي المصري الجمعي، فرجل الشارع البسيط العادي يعرف طه حسين ودوره التنويري، وبائع الفاكهة يفطن على الفور صورة أمير الشعراء أحمد شوقي وتوفيق الحكيم، وحارس المدرسة يقر بدور السيدة هدى شعراوي الوطني وإن لم يكن يعرف طبيعة الدور .

هذه مصر التي يصعب مراسها ومن الأصعب استقطابها أو استلابها، لأنها بحق وطن عبقري .. تحيا مصر .

***

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

كلية التربية ـ جامعة المنيا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم