صحيفة المثقف

كيف زلزلت تكتيكات جين شارب عرش الرئيس ترامب بمقتل جورج فلويد؟

محمود محمد عليمنذ أن صعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلي سدة الحكم في عام 2017 والجميع من خصومة الديمقراطيين يتهمونه بأنه" مخادع وغشاش ومراوغ .. لم يكتفوا بذلك بل سعوا إلي محاكمته برلمانياً بتهمة إساءة استغلال السلطة والدعوة إلي لاتهامه بتقويض الأمن القومي والمس بنزاهة الانتخابات.. بيد أن كل هذه الاتهامات فشلت في عزله.

وهنا قرر خصومه أن يلجأوا لأساليبهم القديمة، وهي حروب الجيل الرابع والقائمة علي استخدام القوة من خلال حركة أنتيفا لزعزعة استقرار نظام ترامب من خلال ترويج الشائعات والأكاذيب عن طريق استخدام تكتيكات جين شارب القائمة علي حروب اللاعنف من خلال التظاهرات والاحتجاجات والعصيان المدني، وهذه المرة يتم استغلال حادث مقتل رجل أسود يدعي جورج فلويد البالغ من العمر 46 عاما بعد القبض عليه أمام أحد المحال التجارية في منطقة مينيابوليس في مدينة مينيسوتا، لضباط الشرطة الممسكين به أنه "لم يكن يستطيع التنفس"، وذلك في يوم الثلاثاء الماضي الموافق السادس والعشرين من شهر مايو.

وهنا استغل الخصوم هذا الحادث من خلال نشر فيديو تسجيل لرجل شرطي أبيض يضع ركبتة فوق عنقة . وهو يستغيث قبل أن يفارق الحياة وهو يجاهد لالتقاط الأنفاس، وذلك في محاولة لاستدعاء مقتل المناضل الأسود (مارتن لوثر كينج) في مدينة ممفيس عام 1968م؛ مما تسبب في موجة عارمة من الاحتجاجات في عدد من الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يقتصر الأمر على أمريكا فحسب بل امتد إلى دول أجنبية عدة عبر مواطنوها عن استنكارهم للحادث.

وإلي الحزم إذن دعا الرئيس ترامب مشددا علي التعويل أكثر علي الحرس الوطني في إعادة الهدوء إلي الولايات والمدن الأمريكية التي عمتها الاحتجاجات الغاضبة علي مقتل فلويد، وترامب شدد علي ضرورة وضع حد لهذه الاحتجاجات التي تخللتها أعمال نهب وتخريب وشهدت اعتقال الآلاف .. لكن أصوات أخري داخل الولايات المتحدة تؤكد أن الحكمة تستدعي معالجة الاحتجاجات بروح العدل والانصاف، لأنه حتي لو نجحت إدارة ترامب في السيطرة علي موجة الغضب الراهنة، فإنها قد تندلع مجدداً، ذلك أن مقتل فلويد لم يكن سوي قطرة زيت جديدة سُكبت علي نار تضطرم تحت الرماد.

فمع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية لم يجد خصوم ترامب من وسيلة لإزاحة ترامب من الانتخابات سوي اللجوء لهذا الحادث، وهذا الحادث يمثل نوعاً من أنواع تكتيكيات جين شارب والتي تدخل ضمن ما يسمي الثورات اللاعنيفة أو النضال اللاعنيف ضد الأنظمة المستهدفة، حيث ينطلق في كتابه " من الدكتاتورية إلي الديموقراطية" من فرضية أساسية مفادها أن النظم الديموقراطية هي البديل الحقيقي للشعوب الخاضعة لنظم دكتاتورية، وأن نضال اللاعنف يمثل الطريقة الوحيدة للوصول إليها، حيث "تأخذ شكل المظاهرات، والاعتصامات، والمقاطعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. إن النضال اللاعنيف والعنف يعملان بطريقة مختلفة كلياً، فإن استخدام المقاومة العنيفة حتي ولو بشكل محدود أثناء حملة التحدي السياسي سيعود بالضرر علي الحملة، لأن المقاومة العنيفة تعطي الفرصة للحكام الدكتاتوريين لاستخدام سبل يتمتعون بالتفوق الكبير فيها، وهي الحرب العسكرية . من هنا نستنتج أن الانضباط اللاعنيف هو مفتاح النجاح، ويجب المحافظة عليه بالرغم من الاستفزازات والممارسة العنيفة التي يقوم بها الحكام الدكتاتوريين".

وقد انطلق (جين شارب) في أطروحته الفكرية، عن المقاومة المدنية أو السلمية أو غير العنيفة، من أن" الحكومة تعتمد في أساسها على طاعة المحكومين وتعاونهم، وأي خلل في هذه الطاعة يترتب عنه تحلل في قوة الحاكم إلى درجة فقدان السلطة والسيطرة على زمام الأمور".

وعليه يعتبر رفض التعاون مع الحاكم أمراً خطيراً وأداة سلمية ناجعة لقيادة الثورة والعصيان، وفي هذه الحالة "قليلاً ما تسعى الحكومة إلى تقديم تنازلات، وتسعى كثيرا إلى أساليب الإكراه والعنف لمحاصرة عدم تعاون الشعب؛ إذ يتم استخدام أساليب الردع والعقاب عبر الأمن والشرطة والجيش"، ورغم ذلك تظل المجموعة الحاكمة قابلة للتفكك وتلقي الضغط المؤثر؛ فحتى استعمال أساليب العنف من طرف المجموعة الحاكمة يكون فعالاً بقدر تعاون المحكومين وخضوعهم لهذه الأساليب الإكراهية، ولكن تبقى سلطة المجموعة الحاكمة مقيدة ومحدودة؛ إذ رفضت مجموعات مظلومة كثيرة، في مثل هذه الحالات، التراجع أمام كل المخاطر، بدافع من سلاح سلمي فعال هو "الإرادة" التي تغذي أسلوب عدم التعاون مع المجموعة الحاكمة. وعندما "يكون عدم التعاون شاملاً تتقلص قوة المجموعة الحاكمة، بقدر عدد السكان المشاركين في العصيان. لذلك تستطيع القوة السلمية الهادئة والمقدامة، بنظر جين شارب، حل مشكلة قوة الحاكم التي تبدو مطلقة، وذلك من خلال عدم التعاون والاستمرار فيه".

إن مصدر القوة إذن ليس هو العنف، كما أن الذي يحسم الصراع"، ليس الذي يملك أكثر أدوات العنف (المجموعة الحاكمة في حالتنا)، بل الإرادة والقدرة والوعي هي التي تحسم الصراع ".

ومن جهة أخري يؤكد شارب علي فرضية خطيرة، وهو أن حرب اللاعنف، هو التكنيك الجديد للغزو بلا تدخل عسكري، حيث" يتم الضغط على النظام من الداخل، عن طريق الطابور الخامس، بإضعاف أجهزة الدولة، واختراقها، وتهكيرها، وإحراقها، وإضعاف النظام في الدولة عن طريق الإضراب، ولزوم المنازل، ورفض التعامل مع مؤسسات الدولة، لإسقاط الدولة في الفوضى والديون، وبالتالي تدميرها بدون تدخل خارجي..

والسؤال كيف تنفيذ هذا المخطط ضد الرئيس بالنسبة لترامب؟..

والإجابة تتمثل من خلال اتهامه بالعنصرية ولترامب منذ أن وصل لسدة الحكم في عام 2017 وهو متهم بالعنصرية من قبل خصومه الذين يسجلون صباح مساء حركاته وأقواله وسكناته ولا ننسي مقولاته الشهيرة التي تعج صباح مساء بالعنصرية من تلك المقولات الشهيرة التي أخذت عليه منها قوله مثلاً : " لنجعل أمريكا عظيمة مجددا .. قالوا : أمريكا أولا وهذا قد يكون عنصريا .. قلت عنصريا ؟ لماذا هذا عنصري ؟ .. لنجعل أمريكا آمنة مجدداً .. عدم السماح للمسلمين بالدخول إلي أمريكا.. تم ترويج ذلك بنجاح من أجل الخروج للتظاهر ضد ترامب، وهذا ما حدث بالفعل؛ حيث انتفضت مدن أمريكية بمظاهرات واسعة، احتجاجا على وفاة الأمريكي فلويد ذو الأصول الأفريقية أثناء اعتقاله.

ومع اتساع دائرة الاحتجاجات في الكثير من الولايات الأمريكية المختلفة تصدر هاشتاج 2020 قائمة تداول أمريكية علي تويتر وتداول من خلاله المغردون صورا من الاحتجاجات علي مقتل جورج فلويد علي يد الشرطة في ولايات عدة، كما انقسمت الآراء عبر الهاشتاج حول أعمال الشغب التي أظهرتها مقاطع متداولة، وندد مغردون باستخدام الشرطة العنف ضد المتظاهرين السلميين علي حد قولهم .

كما شهد محيط البيت الأبيض في واشنطن مصادمات بين المحتجين والشرطة وتداول مغردون صورا لأحد إطفاء البيت الأبيض فيما قالوا إنه إجراءً لحماية احترازي، كما أكدت وسائل إعلام أمريكية نقل الرئيس ترامب إلي مخبأ سري تحت البيت الأبيض مخصص لمواجهة أي تهديد كإجراء احترازي بسبب اقتراب الاحتجاجات علي مقتل جورج فلويد، وتداول مغردون صوراً أظهرت استخدام الشرطة بقنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين من محيط البيت الأبيض .

أحدثت الاحتجاجات في واشنطن صدي واسعا علي منصات التواصل خاصة بعد خروج المحتجين في ظل حظر التجوال المفروض في عدة مدن أمريكية، وقد أبرم محتجون النار في بالطابق السفلي من كنيسة "سانت جونز"، وسيارات، ومباني، وأحياء قرب البيت الأبيض قبل سريان حظر التجوال .

وبالأمس كان اليوم السادس علي التوالي، حيث ينادي المحتجون في ولايات مختلفة باسم جورج فلويد مطالبين بالعدالة له وللأمريكيين من أصول أفريقية الذين قتلوا علي يد الشرطة، في ولاية شيكاغو طوق المحتجون "برج ترامب " .

والسؤال الذي أود أن أطرحه هنا في هذا المقال : من وراء أعمال الشغب؟

تعددت وجهات أصابع الاتهام علي منصات التواصل، وفي هذا الإطار رصد ناشطون عبر هاشتاج عبر تويتر قيام عدد من الأشخاص الذين يرتدون زياً أسود وهم يهاجمون المتاجر والممتلكات العامة، بالإضافة إلي مهاجمة رجال الشرطة، وأثار الرئيس ترامب جدلاً علي تويتر بعد تغريدة له قال فيها :" ستصنف الولايات المتحدة الأمريكية "أنتيفا" كمنظمة إرهابية"، وهنا وجدنا الكثير من منصات التواصل الاجتماعي يعلقون علي كلامه، نذكر من ذلك أحد الهاشتاجات ؛ حيث تقول :" هذا بكل بساطة كبش فداء خالص، لا يرغب ترامب في معالجة أوجه عدم المساواة الاقتصادية، والعرقية، والمجتمعية الأساسية التي وصلت إلي نقطة الغليان، لذا فهو يكتفي بلوم أنتيفا علي أنها البعبع، هذا لن يحل أي شئ، لأن أنتيفا ليست مسؤولة .. في المقابل أيد السيناتور تيد كروز مقترح ترامب " قائلا :" هذا بالضبط الخطوة الصحيحة، العام الماضي دعونا أنا والسيناتور بيل كاسيدي لتصنيف أنتيفا كمنظمة إرهابية محلية، هؤلاء المتطرفون العنيفون يلحقون الدمار في المدن في جميع أنحاء البلاد، يجب أن نوقفهم قبل أن يصاب المزيد من الناس أو يقالوا".. والعازف الأمريكي " مايكل جوليت" كتب في تغريدة قال فيها :" أنتيفا ليست منظمة، لم تقتل أنتيفا شخصا واحدا، أنتيفا تعني ببساطة مكافحة الفاشية، إنها حركة صغيرة، وإلي حد ما لا مركزية بشكل كبير، ما يحاول ترامب فعله هو تصنيف أي شخص يتحدث خلافه بأنه إرهابي وهو ما يفعله كل الديكتاتوريين ..

إذن حركة أنتيفا هي حركة يسارية، ضد أشكال التمييز العنصري، وتناهض السياسات القومية تجاه المهاجرين والمسلمين ؛ فمع تصاعد الاحتجاجات في الولايات المتحدة إثر مقتل الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد علي يد شرطة منيابوليس في مينيسوتا، ترامب يتوعد حركة انتيفا اليسارية منظمة إرهابية ويحملها مسؤولية إثارة الفوضي في البلاد، في وقت اتهم فيه مسؤولون "متعصبين "و"محرضين مندسين، باستغلال الوضع لتنفيذ أجندتهم الخاصة .. فما هي أنتيفا التي تتصدر عناوين وسائل الإعلام هذه الأيام ؟

أنتيفا هي حركة مناهضة للفاشية ولأفكار النازيين الجدد، متأثرة بالتيارات اليسارية التي ظهرت في أوروبا منتصف القرن العشرين، وتعارض الحركة ونظيراتها في أوروبا كافة أشكال التمييز العنصري، وترفض السياسات التي تستهدف المهاجرين والمسلمين، وارتبط اسم انتيفا بالعنف والفوضي المسلحة خلال الاحتجاجات، لكن المنتمين للحركة والذين يُعرفون بارتداء ملابس سوداء وأفنعة ينفون استخدام السلاح إلا في حالة الدفاع عن النفس .. كثفت أنتيفا نشاطها في الولايات المتحدة مع صعود ترامب إلي الحكم، وليست هذه هي المرة الأولي التي يدعو فيها ترامب إلي تصنيفها ضمن لائحة الإرهاب .. حتي الآن لا توجد معلومات عن عدد المحتجين المشاركين في أنتيفا في المظاهرات الحالية، أو ما إذا كان أي من أعضائها مشاركاً في الأصل ... وللحديث بقية خلال الأيام المقبلة .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم