صحيفة المثقف

عبد الله بن أباض.. مثقف الاستقامة العملية

ميثم الجنابيالاهداء الى الدكتور عبد الحليم كاصد، فقيد الروح والعقل والمؤانسة

كان بودي أن انشر هذا المقال لحاله، دون ربطه بشخص ما أيا كان، غير أن وفاة الدكتور عبد الحليم كاصد الأمس قد صدمني بقوة، وجعل من ربط اسمه بشخصية عبد الله بن أباض كما لو انه امر طبيعي. وهو كذلك. فكل ما في عبد الحليم يتمثل تاريخ البصرة بقوتها وحزمها وإبداعها التاريخي الأكبر والأعمق والأعظم في كل تاريخ الثقافة العربية الإسلامية. مع انه لم يكتب مقال في حياته! بينما كان هو من القلائل جدا بين مثقفي العراق ممن يحتوي في اعماقه وشخصيته على معارف جمة. كما كان ثاقب الفكر، نقدي النوازع، عقلاني الرؤية، اضافة الى ثباته في المواقف، انيس لا مثيل له في التعليق والشرح والنكتة. بحيث يمكن ان ترى فيه آثار الخوارج والمعتزلة والفلاسفة والأدباء. وعندما كنت ادعوه وأطالبه بالكتابة في ميدان احترافه (علم الاقتصاد) فقد كانت ردوده مقتضبة تقول بأنه لا يوجد عنده ما يمكنه أن يكون اضافة جدية وكبيرة وعميقة للفكر الاقتصادي. لهذا لا معنى للكتابة. وهو موقف ينعكس فيه أيضا قرفه من هذا الكم الهائل من "المقالات" و"الأبحاث" التي لا يليق بها مكان غير سلة المهملات (الاكترونية!).

لقد نشأ عبد الحليم في البصرة وتغذى من كل ما فيها من هواء وماء وتمر وسمك وشمس وأصالة لا مثيل لها بما في ذلك في العراق. فهو المكان الوحيد في العراق الذي تتعايش فيه على الدوام وحدة العقل والوجدان، والإبداع الحر والتمرد المتسامي. وبالنسبة له لم يكن ذلك وليد الصدفة. فقد نشأ وترعرع في عائلة تتسم بالذكاء والنباهة والعلم والمعرفة والأصالة. فأخوه الأكبر هو الشاعر والأديب العراقي الكبير عبد الكريم كاصد، والأصغر هو سلمان كاصد، أحد افضل النقاد الأكاديميين العراقيين، وبينهما عبد الرحيم كاصد، الذي جرى اختيار قبل سنوات كأحد أفضل الأطباء في بريطانيا. وقد كان عبد الحليم يبدو فيما بينهم الحلقة المفقودة، بينما كان هو الحلقة التي تربط كل هذا الكل وتكشف عما في اعماقه من نسبة جميلة لا يدرك حقيقتها إلا من يعرفه عن قرب وصدق. وقد كان هو صديقي على امتداد عقود من الزمن، وأنيسي الوحيد في موسكو على امتداد العشرين سنة الأخيرة.

حليم! هذا اقل ما يمكنني ان اقدمه لذكراك. وانت في القلب والذاكرة دوما .

***

عبد الله بن أباض.. مثقف الاستقامة العملية

إن صخب العاصفة في ثناياها! مما يجعل من دويها فعلا مسموعا لا مرئيا. وهي الحالة التي حققها عبد الله بن أباض في وجوده وفنائه في تاريخ الثقافة الإسلامية. فقد أثار صعوده الخاطف اهتمام وانتباه الرؤية التاريخية بالشكل الذي جعلها تنسى التمعن في ملامحه الشخصية. إذ تمثل في ذاته وجمع نسيم الثقافة الصاعدة وأعاصير هيجانها العنيف ضد السلطة. من هنا ذوبان ملامحه الفردية في زوبعة المرحلة التاريخية لصعود الخوارج، وتلألؤها في الفرقة الأباضية[1]. ووجدت هذه المفارقة انعكاسها في إطلاق اسمه على الفرقة، بينما لم تحتفظ حتى الفرقة نفسها بمعلومات دقيقة عنه بما في ذلك تاريخ ولادته وموته!

فما نعلمه عنه لا يتعدى القليل جدا، بما في ذلك في أوسع وأوثق وأدق المصادر الأباضية. إذ إننا  لا نعثر فيها على سيرة حياة شخصية، بقدر ما نعثر على صورة قيميية عامة، رغم دقتها البلاغية والفعلية، مثل تلك التي تقول، بأن عبد الله بن أباض هو "إمام أهل التحقيق والعمدة عند شغب أولى التفريق. سلك بأصحابه محجة العدل، وفارق سبل الضلالة والجهل". وهو تقييم يفصح عن موقف أكثر مما يفصح عن حياة. وضمن هذا السياق يمكن اخذ العبارة كما هي باعتبارها تصويرا حياتيا لعبد الله بن أباض. إذ لا يعني تلاشي المعلومات عنه في غياهب الماضي وبقاءه ناصعا في تاريخ الخوارج وإماما للاباضية سوى الصيغة النموذجية لحالة الفناء المتسامي في غيب المستقبل. وهو غيب يستظهر إشكالاته المثيرة فيما يفرزه من قضايا حية للعقل والضمير، وفيما يستبطنه من طاقة في إثارة الجدل النظري والعملي للثقافة والمثقفين. بمعنى استمراره في دهاليز العقل النظري للثقافة والوحي التاريخي للمثقفين. ويستحيل استمرار حدوثه دون أن تكون الشخصية الأولى بحد ذاتها تجسيدا لتجانس الحياة الشخصية والفكرة المتسامية. بمعنى انه استطاع أن يحقق في ذاته وحياته معنى الاستقامة الإسلامية في العلم والعمل، أي في الرؤية والمواقف.

إن المعلومة الدقيقة الموثقة والوحيدة عنه هو انه بصري من بني تميم. عماني الأصل[2]. بينما ينقل عن آخرين انه انتقل من نجد، موطن قبيلته، إلى البصرة[3]. وانه عاش ومات في القرن الأول الهجري دون أن تحدد مراجع التواريخ والسير وكتب المقالات سنة مولده ووفاته. وهي حالة نادرة وفريدة لحد ما. لاسيما وانه الشخصية التي اقترنت بها فرقة الاباضية، بوصفها الفرقة الأوسع والأعمق والأكثر ديمومة وتمثيلا لحقيقة الخوارج والفكرة الخوارجية. كما انه الشخصية التي سطع نجمها السياسي والفكري بحيث أصبح اللسان الناطق للخوارج في مجادلة عبد الملك بن مروان.

كما أنها درجة وحالة لم يكن بالإمكان تبوءها دون المرور بكل دهاليز الصراع السياسي والفكري وعراك الإرادة التي صنعت شخصية عبد الله بن أباض في مجرى القرن الأول الهجري، أي قرن المرحلة التأسيسية، ومرجل الاحتراق الفعلي للزائف من الصحيح على مستوى الفكرة والشخصية. بمعنى انه تعرك في مجرى الامتحان الفكري والأخلاقي، وتكاملت إرادته الذاتية ومعالمه الفردانية التي جعلت منه عقل الخوارج الناطق أمام أسئلة السلطة واتهاماتها. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل المؤرخين يجمعون على انه أدرك معاوية بن أبي سفيان وهو شاب وعاش إلى زمن عبد الملك بن مروان. وهي مرحلة الانعطاف الكبرى في تاريخ الدولة وفكرة الخلافة واختبار الروح الأخلاقي الإسلامي الأول. وليس مصادفة أن يثار الجدل اللاحق بين أتباعه والمعاديين له عما إذا كان عبد الله بن أباض صحابيا أم تابعيا، أو أن يجري تجاهل هذين المكونين في شخصيته الفردية. فهناك روايات تقول، بأنه كان صحابيا لفترة قصيرة، بينما لم يقبل بها القسم الآخر[4]. لكن المشهور عنه كونه من التابعين الذين عاشوا في النصف الثاني من القرن الهجري الأول. انطلاقا من انه عاصر صراعات المرحلة التأسيسية الأولى وصعود الأموية وتوفي في أواخر أَيام عبد الملك بن مروان(65-86 هجرية). كما أنها أيضا إحدى الوقائع والحقائق المتفق عليها، بمعنى أنه كان تابعياً. وهي الحقيقة التي يجري عادة استنباطها من أحداث التاريخ الفعلي وكمية ونوعية الجدل السياسي والفكري الذي قام به عبد الله بن أباض مع عبد الملك بن مروان[5]. ويعكس هذا الجدل استتباب المواقف وتبلور الشخصية الذاتية وتعركها في العلم والعمل، باعتبارها الصفات التي ميزت آنذاك سلسلة الصحابة والتابعين، أي تلك الكمية النوعية التي افرزها ظهور الإسلام وتطوره وانقلاباته العنيفة التي أسست بدورها لتراكم منظومة العقل الثقافي والمرحلة التأسيسية للحضارة الإسلامية ككل.

إذ لا تعني حقيقة "الصحابي" و"التابعي" من الناحية الثقافية سوى المعايشة الفردانية للأحداث التاريخية الجسام والانهماك الفعال فيها. وبالتالي ليس الصحابي والتابعي سوى سلسلة الإرادة الواعية لقيم الإسلام الأول والعمل بموجبها. فليس كل من عايش النبي محمد صحابيا، وليس كل من خلفه تابعيا. كما أن الفرق بينهما هو فرق الزمن لا التاريخ. بمعنى أن القيمة العلمية والعملية لأي منهما يتوقف على نوعية التأثير الذي تركه على مسار الدولة والأمة والثقافة. أما التمايز "الروحي" بالشكل الذي بلورته تقاليد الإيمان، فانه يبقى جزء من آلية فعله الخاصة. مع ما لها من قيمة وأثر عميقين في دهاليز اللاهوت ومخارجه الفاعلة في التقليد. وعموما لا قيمة جوهرية لها بالنسبة لتأسيس العقل الثقافي إلا بالقدر الذي تستثير الرؤية النقدية والإرادة الأخلاقية في مواجهة النفس من اجل البرهنة على أن السمو الفعلي ليس تقليدا، بل التزاما فرديا وفردانيا تجاه إشكاليات الوجود الكبرى للدولة والأمة والروح. وبالتالي، فان الاتفاق أو الاختلاف على ما إذا كان عبد الله بن أباض صحابيا أو تابعيا، لا يغني القيمة التاريخية لأثره الهائل في تاريخ العقل الثقافي والروح الأخلاقي، بقدر ما يغري التقليد الإيماني للفرق. لكنه اختلاف يمكن رؤية ملامحه العميقة في ذوبانه التام في "الاباضية" وتفتحه في أثره الروحي والعقلي بالنسبة لفكرة الاستقامة بوصفها الصيغة العملية والفكرية لفلسفة الاعتدال.

فقد تراكمت فكرة الاستقامة عند عبد الله بن أباض في مجرى التأمل النقدي والعقلي الحر للحروب العسكرية والمعارك السياسية والصراع الاجتماعي ومواجهات القيم. ذلك يعني أن شخصيته الظاهرية وحقيقته الباطنية وأثرهما في تاريخ العلاقة الخاصة بين المثقف والسلطة هي الخلاصة النموذجية لتمثل تاريخ السلف الأول ومعنى الفكرة الإسلامية تجاه إشكاليات الوجود الحية آنذاك. وهو سر "الاختلاف" حول بقايا أو تاريخ الصحابة والتابعية فيه. أما في الواقع، فان الاختلاف الجوهري كان يجري بينه وبين انحراف الدولة من الخلافة إلى الملكية الوراثية، ومن الخلافة الإمبراطورية إلى إمبراطورية الخلافة العائلية والقبلية. حيث ميز هذا الخلاف فكرة الخوارج ومواقفهم العامة والخاصة ووسم مظاهر إحساسهم ومشاعرهم المرهفة تجاه قضية السلطة (الإمامة). الأمر الذي يمكن العثور على ملامحه الواضحة والبارزة بل الناتئة في رسائله إلى عبد الملك بن مروان. إذ تكشف هذه الرسائل عن تراكم الرؤية النقدية العقلية الحرة ومنطقها الصارم في التدليل والوسيلة والغاية. بمعنى إننا نستطيع العثور فيها على منظومة معينة من المواقف النظرية والعملية. وهو الشيء الذي يعطي لنا بدوره إمكانية تتبع اشتراكه المادي والمعنوي، الفردي والجماعي، العقلي والوجداني في صراع المرحلة. وهو اشتراك رفعه بصورة سريعة من ميدان الاختلاف الدامي للسلاح إلى سماء التأمل العقلي والأخلاقي لمجرى التاريخ والفكرة (الإسلامية). كما أنه الشيء الذي يمكن رؤيته في انتقاده ومعارضته لشخصية وسياسة معاوية بن أبي سفيان وخروجه عن "القرآن والسنة"[6]. وهو نقد عقلي وأخلاقي خالص، ومتجرد من نفسية وذهنية الثأر والانتقام. وبالتالي يكشف عن خلوه الأول من "الخروج بالسيف" على السلطة.

بعبارة أخرى، إننا نعثر في مواقفه هذه على انعدام الاشتراك الفعال في معارك السلاح. وشأن كل حالة منتجة لعبارة "وداعا أيها السيف"، كان لابد لها من أن تتحسس وقعه على جوارح الجسد. إذ ليست عبارة "وداعا أيها السيف سوى الصيغة الأدبية والعقلانية لحزّ لسان الشكوى. وأدى هذا السبب إلى قلق العبارة والتقييم المتعلق فيما إذا كان عبد الله بن أباض قد اشترك في الحروب التي دارت رحاها بين المسلمين قبل استحواذ معاوية بن أبي سفيان عليها.

مما لا شك فيه، أن عبد الله بن أباض لا يشبه في مظاهرة زعماء الخوارج الأوائل الذين عاصرهم مثل عبد الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير وعروة بن جدير ومرداس بن جدير وأمثالهم. فقد كانوا أولئك رجال السيف والكلمة. ولا تعكس هذه المزاوجة إلا مظهر الفكرة الخوارجية، التي جرى رفعها لاحقا إلى الصورة النمطية الوحيدة عنهم. مع أن المعلوم والمشهور والأدق هو رجوع الفكرة النظرية للخوارج إلى جابر بن زيد، أي إلى الشخصية التي كانت الفكرة وتأسيسها الصيغة الأكثر إخلاصا وتعبيرا عما كانوا يسعون إليه. غير أن السيف، بالنسبة للوعي الشائع، اصدق أنباء من الكتب! والدماء هي حبر التسطير الغالب عند السلطة والغلاة. فقد أغمرت هذه الحالة رؤية التاريخ المؤدلج وغمرت في مجرى سيولها العارمة تاريخ عبد الله بن أباض وتراكم شخصيته العقلية والوجدانية. وذلك بسبب خروجها على خروج الخوارج المشهور والمعروف عن السلطة والغلاة على السواء. لكنه خروج يصب فيه، بمعنى يوسع شواطئه بالشكل الذي يجعل من الممكن العوم فيه بقوة اكبر. إذ تجعل هذه الفرضية من اشتراكه في معارك السلاح الصيغة الملازمة لشهادة الإسلام الخوارجي الأول. كما أنها الصفة الملازمة لجيله المرّكب من فروسية العربية القديمة ووهج الجهاد الإسلامي.

إذ لكي يكون لسان الحركة وناطقها "الرسمي" في مراسلاته مع ملوك بني أمية في ستينيات القرن الأول للهجرة، فان ذلك يفترض تجاوزه على الأقل عمر الأربعين. فقد توفي الراسبي عام 38 للهجرة وقتل مرداس عام 61 للهجرة[7]. وما بينهما دارت رحى المعارك الطاحنة دون أن تبرز شخصيته العسكرية والقتالية. وهو واقع يشير أما إلى صغر سنه النسبي أو تشابهه مع شخصية جابر بن زيد، أو الجمع بينهما. وهو الأكثر احتمالا ودقة. بمعنى ولادته في عشرينيات القرن الأول، شأن جابر بن زيد، ومعايشته لرجال الخوارج الكبار أمثال أبي بلال مرداس، وبقاءه مدة أطول بقليل أو اقل بقليل من وفاة جابر بن زيد (ت-93)[8]. من هنا انعدام أية معلومات حول اشتراكه في معارك صفين والنهروان. والخبر الوحيد عنه (الذي يورده الشهرستاني) هو الذي يصور خروجه بتبالة في زمن مروان بن محمد، الذي أرسل إليه عبد الله بن محمد بن عطية[9]. وهو خبر لا يستقيم مع التاريخ الفعلي وأحداثه. كما جرى تجاهله منة جانب المؤرخين الكبار كالطبري وأمثاله[10]. غير أن هناك معلومة واحدة موثقة عن اشتراكه في معارك السلاح، تتحدث عن اشتراكه في الدفاع عن مكة بوجه القائد الأموي حصين بن نمير، الذي خلف مسلم بن عقبة (ت- 63 للهجرة)[11]. وهي السنوات الأشد احترابا وخلخلة بالنسبة للدولة والمعارضة على السواء بمختلف اتجاهاتها وتياراتها وشخصياتها. وذلك بسبب تمازج وتداخل شخصية ومأساة الحسين بن علي وصعود عبد الله بن الزبير وثورة الحجاج بن يوسف الثقفي ومعارك الخوارج المتناثرة[12]. وقد اشترك فيها الخوارج بصورة فعالة. ومن ثم ما كان بإمكانها ألا تسحب في سيلها عبد الله بن أباض، وهو في سن القوة والحكمة!

ومهما يكن من أمر الفرضيات المتنوعة بهذا الصدد، فإن ظهوره في البصرة وبقاءه ونموه وتكامله فيها يعكس طبيعة التحول الفكري السياسي الذي بدأ يشق طريقه إلى عقله ووجدانه. مما يجعل من عيشه وفعله في زمن جابر بن زيد وأبو بلال مرداس ونافع بن الأزرق اقرب إلى الواقع وأكثر دقة. كما أنها تكشف طبيعة الطبقات المحيرة في شخصيته. بمعنى قلة المعلومات عنه وأثره في تاريخ الحركة التي جعلت من اسمه رديفا لأحد اكبر الحركات الخوارجية وأكثرها ديمومة وقوة. ونعثر على هذه الحالة في الحادثة التي تصورها بعض كتب الاباضية عن أن المسلمين بعد قتل أبي بلال، اجتمعوا بجامع البصرة وعزموا على الخروج وفيهم عبد الله بن أباض ونافع بن الأزرق وغيرهم. وعندما سمع عبد الله بن أباض أصوات القراء والمؤذنين وغيرهم من المسلمين، عند ذاك قال لأصحابه "أعن هؤلاء أخرج؟" ثم كتم أمره واختفى. وقد حدث ذلك، حسب هذه الروايات سنة 64 للهجرة. وهو تاريخ لا يستقيم مع مقتل أبو بلال عام 61، وظهور عبد الله بن أباض في أحداث الدفاع عن مكة عام 63 للهجرة. إلا إننا نعثر فيها على صدى الأحداث الدرامية الفكرية السياسية وانعكاسها في شخصية عبد الله بن أباض. فقد كان عام 64 فيما يبدو بداية التاريخ المغيّب عبد الله بن أباض، بوصفه بداية التاريخ الباطني الذي تلاشت فيه شخصيته المباشرة لكي يظهر مع مرور الزمن في الفرقة الاباضية. إذ لا يعني "كتم أمره واختفى" سوى التعبير الأدبي عن تغير مواقفه وإعادة بنائها الجديد في تقاليد الكتمان الجديدة لحركات الخوارج، والموقف من النفس، ومن تقاليد الخوارج، وتجاه السلطة والعقائد.

ففيما يتعلق بتقاليد الكتمان الجديدة، كما يمكننا رؤية الانسجام أو التوافق الفكري والعملي بينه وبين جابر بن زيد، بوصفه المؤسس الروحي والنظري لتيار الخوارج الفكري. إذ تشير اغلب المصادر الاباضية إلى أن تقاليد الكتمان أدخلت في عهد جابر بن زيد الذي وجه نشاط الخوارج. كما يمكن رؤية حدوث اغلب انتفاضات وتمر الخوارج في زمنه دون أن يجري توجيه الاتهام له من جانب السلطة الأموية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار انه كان الأب الروحي لمرداس وغيره، كما أن اغلب المصادر الاباضية عادة ما تجعل من عبد الله بن أباض شخصية ثانية أو حتى ثالثة مقارنة بجابر بن زيد فيما يتعلق بتأسيس الحركة الأباضية وقيادتها، من هنا انتشار الفكرة القائلة، بأنه كان يعود في كل ما يفعله ويخطط له إلى آراء وأحكام جابر بن زيد. ونعثر على صدى هذه الفكرة في التقييم غير المباشر عنه في تقاليد الاباضية، التي جعلت منه ناطقا علنيا عن فقه جابر بن زيد كما نراه في صراعه الفكري العلني مع تيارات المعارضة آنذاك مثل القدرية والمرجئة والشيعة وغلاة الخوارج أنفسهم. وهي حالة يمكن تصويرها بعبارة "الاكتشاف الخاطف" للنفس، لكنها كانت تحتوي دون شك على تاريخها الخاص. وهو تاريخ الرؤية النقدية والعقلية الحرة تجاه النفس أولا وقبل كل شيء. ومن المكن العثور على صداها الظاهري في التقييم العام الذي يورده ابن حزم عن أن أكثر علماء الأباضية في الأندلس لم يكونوا يعرفون شيئا عن عبد الله بن أباض. والسبب كما يقول ابن حزم، هو أن ابن أباض تنكر لآرائه الأولى وانضم إلى مجوعة الثعالبة (الصفرية) من الخوارج. من هنا تبرؤهم منه وجهلهم به[13]. ونعثر على نفس الفكرة عند الذهبي فيما اسماه بتراجع ابن أباض "عن بدعته"[14].

وفيما لو جرى وضع هذه الحالة ضمن سياقها الفعلي في حياة عبد الله بن أباض، فإنها تشير إلى طبيعة الخروج الأول على سلوك الخوارج الأوائل. بمعنى الخروج على التطرف والبقاء ضمن تقاليد الخوارج الأولى، كما وجد تعبيره الظاهري الأول في الموقف من غلو الازارقة ولاحقا في مخالفته لبعض أراء ومواقف النجدية والبيهسية. بمعنى وقوفه ضد الغلو العقائدي والسياسي الذي ميز سلوك ورؤية نافع بن الأزرق[15]، وبالأخص أقواله عن اتهام الأمة الإسلامية بالشرك واعتبار دارهم دار حرب[16] في حال القعود عن محاربة ومواجهة الإمامة الجائرة. وهو موقف نبيل يعكس أولا وقبل كل شيء غلو الوجدان. من هنا لم تكن معارضة عبد اله بن أباض له سوى معارضة غلو الوجدان وليس العقيدة اللاهوتية السياسية، كما نعثر عليه في الموقف من قضية "تكفير الأمة".

فقد كانت فكرة التكفير الخوارجية الصيغة المقلوبة والعنيفة لتهيج الوجدان في مواقفه المعارضة للجور والطغيان الذي ميز سلوك السلطة الأموية تجاه الأمة وتهوينها للنخب واستهتارها بالقيم. ووجدت هذه الفكرة تعبيرها المركز والمكثف في رسالة نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن أباض. إذ يقول فيها "أما بعد! فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة والدين واحد ففيم المقام بين أظهر الكفار؟! ترون الظلم ليلا ونهارا، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال (وقاتلوا المشركين كافة)، ولم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الأحوال". وهي فكرة حادة مبدأها وغايتها العدل الصارم. ومن ثم لم تكن صيغتها الغالية سوى الوجه الآخر أو المعارض لغلو السلطة في انتهاكها للشريعة والدين، أي للقانون والحقوق والقيم الأخلاقية. وبما أن مسئولية المثقف هو تحقيق القيم الأخلاقية والقانون، من هنا ضرورة المواجهة مهما كلف الثمن. ولم يختلف عبد الله بن أباض مع هذه الفكرة، بقدر ما انه وجد فيها وجها آخر لاستهتار السلطة. بمعنى الخروج عن حد الاعتدال بالمعنى الشرعي والأخلاقي. من هنا رده المشهور عنه "قاتله الله! أيّ رأيٍ رأى! صدق نافع بن الأزرق لو كان القوم مشركين! كان أصوب الناس رأيا وحكما فيما يشير به، وكانت سيرته كسيرة النبي في المشركين. ولكنه كذب وكذبنا فيما يقول. إن القوم كفار بالنعم والأحكام وهم براء من الشرك. وما سوى ذلك من أموالهم فهو حرام علينا".

بعبارة أخرى، لقد أدرك عبد الله بن أباض إصابة نافع بن الأزرق المجردة، بل وجد فيها تمثيلا واستمرار لسلوك لنبي محمد، غير أنها تتعارض معه حالما يجري وضعها على محك الواقع. لقد انطلق نافع بن الأزرق من الفكرة المجردة ليحكم بها على الواقع والناس والقيم، بينما أراد عبد الله بن أباض الانطلاق من الواقع في فهم الأفكار المجردة. وهو اختلاف في الذهنية والمنهجية والاجتهاد. ووجد هذا الاختلاف تعبيره في جوهرية فكرة "الكفر بالنعمة". بمعنى رفع نفسية وذهنية التكفير العقائدية وإدراجها ضمن مسار الواجب الأخلاقي. ولا تبتعد هذه الباطنية الرفيعة عن الواقع، بقدر ما أنها تجعل منه درجة في سلم الارتقاء الروحي والأخلاقي للفرد والجماعة والأمة. بمعنى أنها لا تجعل من الإدانة تكفيرا، ومن ثم من الخروج (الحرب) معيارا وحيدا للقيم. وبهذا يكون عبد لله بن أباض قد وضع مبدأ الاعتدال العلمي – العملي، أو العقلي الأخلاقي في صلب الموقف من النفس. ومن خلاله تطبيقه على الأفراد والجماعات والأمة. ذلك يعني انه أراد الإبقاء عل الصراع مع السلطة ضمن ثنائية النخبة – السلطة، دون أن يلغي بذلك مسئولية العوام (الجمهور). لكنه لم يجعل من الجمهور الخامد والخائب والخائف هدف التجريح والتبريح والتحريم والتجريم. وبهذا يكون قد تمثل حصيلة التجارب الفكرية والسياسية والاجتماعية للخوارج بما يتوافق مع فكرة الاعتدال[17].

لقد تحول عبد الله بن أباض في مجرى مواجهته العلنية مع الازارقة إلى "رجل الساعة". بمعنى أن صراعه مع غلاة الخوارج جعله مقبولا ومرفوضا بقدر واحد من جانب السلطة والمعارضة. وعادة ما تلازم هذه الحالة ظهور الشخصيات المعتدلة الكبيرة. فالاعتدال الكبيرة شفرة حادة ومسن خشن! وهو السر القائم وراء بروزه الفكري السياسي وقيادة للتيار الخارجي الجديد[18]. بحيث جعل المؤرخين القدماء يربطون به ظهور الصيغة الأولية أو الجنينية للفرقة الاباضية[19]. وبالتالي انتساب الفرقة باسمه[20]. بحيث تحول أيضا إلى شخصية تتصارع من اجل حمل اسمه الفرق الأخرى[21].

وبغضّ النظر عن تنوع واختلاف الفرضيات حول ترابط اسم الفرقة باسمه، فإن اقتران اسم الفرقة به لم يكن معزولا عن تأسيسه للعقائد الجديدة من خلال الصراع ضد غلاة الخوارج والسلطة. ذلك يعني أن انتساب الفرقة باسمه لم يكن اعتباطا، رغم أن الأسس الفكرية ولحد ما السياسية قد جرى وضعها من قبل جابر بن زيد[22]. غير أن نشاط عبد الله بن أباض السياسي والفكري (العملي) هو الذي أعطى لتقاليد الفكرة الخوارجية التي بلور معالمها الأولية جابر بن زيد مذاقها الخاص والبارز في مجرى المواجهة مع الأموية وغلاة الخوارج. إضافة إلى ما في شخصيته من تراث وتاريخ سياسي وروحي، بوصفه احد التابعين الذين عاصروا مرحلة صعود الأموية وانحراف معنى الإمامة والأمة والخلافة والقيم. بمعنى الجمع بين بلورة تقاليد الاستقامة الروحية والعقلية والإنسانية تجاه النفس والأمة والسلطة.

وليس مصادفة أن تبلور تقاليد الرؤية الخوارجية الثقافية الدقيقة تصويرها له باعتباره "إمام أهل الطريق وجامع الكلمة لما وقع التفريق، وعمدة في الاعتقادات والمبين لطرق الاستدلالات والاعتمادات، والمهدم لم اعتمده أهل الخلاف، ورئيس أهل البصرة والأمصار. قنع بالخمول من غير قصور ولا اقتصار، وخالف ورفض آراء الازارقة تجاه الأمة". وهي عبارة دقيقة رغم معاييرها الخاصة. بمعنى إننا نعثر فيها على الأبعاد العامة والكونية في شخصية عبد الله بن أباض بوصفه ممثل ما يمكن دعوته بتيار الاستقامة الثقافي.

لقد تراكمت فلسفة الاستقامة التي بلورت شخصية عبد الله بن أباض في مجرى انتقاد التجارب الذاتية للخوارج امتحانها التاريخي الأول، بينما كان موقفه من الإمامة ونقد السلطة تحقيقها المكمل. بمعنى اختبار مضمون وقواعد الاعتدال الجديد للفكرة السياسية الجديدة. وتمثلت هذه الفكرة روح الخوارج المستقيمة في مواجهة الإمامة الجائرة واعتبارها "دار البغي"، دون أن يقع في غلو الفكرة الفوضوية المتسامية لبعض الخوارج الذين قالوا بإمكانية إلغاء الإمامة (السلطة). والصراع ضد السلطة الجائرة بلا هوادة دون أن يجري حصره بالتمرد المسلح. ولهذا قيل عنه بأنه لم يرفع السيف في وجه الدولة الأموية. بمعنى انه استكمل الطريقة التي ميزت السلوك الأولي لمرادس ولكن حتى النهاية. كما سار حتى النهاية في فكرة حقوق الأمة باختيار خليفتها، بعد أن أسس لفكرة الخلافة بوصفها عقا، والخليفة بوصفه معهودا باتفاق وعلى أسس لا علاقة لها بأصوله الاجتماعية والقومية. بمعنى السير هنا أيضا حتى النهاية فيما يتعلق بمعارضة فكرة "الأئمة من قريش"، والاستعاضة عنها بفكرة الأئمة من المسلمين المستقيمين. لكنها استقامة متنوعة ومتعرجة لحد ما، شأن الحياة والحقيقة والقيم المتسامية. بمعنى تنوعها في الصور والأشكال والألوان ووحدتها في المعنى والغاية. وهي المعادلة التي جسدها عبد الله بن أباض في موقفه من السلطة (الأموية) بوصفها الحلقة المكملة لموقفه من النفس. وبما أن نشاطه الفكري والسياسي والأخلاقي الناضج قد تزامن مع مرحلة عبد الملك بن مروان، من هنا اختبارها الروحي، بوصفه الصيغة المكثفة لما أسميته بالاختبار التاريخي الأولي في الموقف من النفس (الخوارج)[23]. ويستعيد هذا الاختبار خلاصة الموقف المجرد من النفس والسلطة عبر موشور الفكرة الإسلامية المتسامية (القرآن). بمعنى خلو التدليل والحج من "دلائل" الحديث وآراء الفرق وعقائدها، بعد إبراز أولوية الوقائع الفعلية للتاريخ السياسي نفسه. وقد تكون رسالته المشهورة في الموقف من عثمان بن عفان إلى الخليفة عبد الملك بن مروان نموذجا لفكرة الاستقامة والاعتدال.

فهو ينطلق فيها من أن النصيحة ذات معنى للمتقين. وان الحقيقة فوق الجميع، وان المرء يعرف ولا يعرف، وما ينكره ليس بالضرورة منكرا عند الله. وهي المقدمة التي وضعها في محاولته تفسير موقفه من المعضلة السياسية العقائدية التي قصمت ظهر الاستقامة الروحية في الثقافة الإسلامية من خلال تطويع كل الرذيلة السياسية لرفعها إلى مصاف الفضيلة. فقد جسّدت الأموية هذه الحالة من خلال جعل الدفاع عن عثمان "سنّة" بينما لم يجد فيه الخوارج أكثر من شخصية عادية، شأن كل امرئ له ما له وعليه ما عليه. بمعنى تجريد الأفراد والتاريخ من التقديس، خصوصا إذا كان فارغ منه. وإذا كان الموقف من عثمان هو المصيدة التي وضعتها الأموية لكشف "معادن" المعارضة من خلال جعل انتقاده خروجا على "السنة"، فان الإجابة التي قدمها عبد الله بن أباض على أسئلة عبد الملك بن مروان بهذا الصدد تقوم في حرق هذه المصيدة بحطب الرؤية التاريخية الواقعية والفكرة الإسلامية المتسامية. بمعنى تحريرها من جدل العقائد. وهو الأسلوب الذي وضعه عبد الله بن أباض في عبارته القائلة "إني لم أكن أذكر لك من شأن عثمان شيئا إلا والله تعلم أنه الحق. وسأنزع لك في ذلك البينة من كتاب الله". وانطلاقا من هذه الرؤية حلل ونظم موقف الخوارج منه. وهو موقف ابتدأ بعرض حاله على من قبله. بمعنى انه حاول أن يضع شخصية عثمان ضمن سياق الفكرة التاريخية والفضائل الإسلامية المتراكمة في مجرى سيادة الإسلام النبوي وخلافة الأوائل. وبالتالي النظر إلى أفعاله باعتبارها جزء من تاريخه الشخصي والسياسي. من هنا قول عبد الله بن أباض، بان قدم عثمان في الإسلام لا يعني شيئا، لان "الله لم يجز العباد من الفتنة". وان الشيء الجوهري بالنسبة للحق هو عرض سلوك الخلفاء على القرآن. بمعنى ألا يبدل حكما ولا يستحل حراما ولا يحرم حلالا ولا يبدل فريضة. وهو الشيء الذي قام به محمد وبعد أبو بكر وعمر. كل بطريقته الخاصة ولكن ضمن الحدود العامة والملزمة للجميع.

وقد أجمل عبد الله بن أباض موقفه مما اسماه بالنقمة على عثمان في تسع قضايا هي: انه أول من منع مساجد الله أن يقض فيها كتاب الله، وانه طرد ونفى خيار هذه الأمة، وانه أمَّر أخاه الوليد بن عقبة على الناس، فكان يلعب بالسحر ويصلي بالناس وهو سكران، فاسق في دين الله وإنما أمّره من أجل قرابته، وانه جعل المال دولة بين الأغنياء، وانه منع واضع القطر وحماها لنفسه ولأهله ومنع الرزق الذي أنزله الله لعباده متاعا لهم ولأنعامهم، وانه تعدى في الصدقات. وأنقص أهل بدر من عطاياهم، وكنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله، وانه كان يضم كل ضالة إلى إبله ولا يردها ولا يعرفها، وانه أخذ خمس الله لنفسه، وأعطى منه أقاربه، وأخيرا منعه أهل البحرين وأهل عمان أن يبيعوا شيئا من طعامهم حتى يباع طعام الإمارة. وتوصل في النهاية إلى أن عثمان كان يحكم بغير ما أنزل الله. وهو خروج على حقيقة الإسلام، وبالتالي فهو ظلم وجور، وذلك لان (من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) كما يقول القرآن. ولم يجد في موقفه هذا رأيا شخصيا أو مميزا للخوارج، بقد ما وجد فيه موقف عاما من جانب أولئك الذين يحتكمون في ظاهرهم وباطن لحقيقة القرآن والسلوك النبوي. من هنا جمعه بين ما "طعن عليه المسلمون وفارقوه وفارقناه عليه[24]. بمعنى انه تمثل تجارب المعارضة الإسلامية للسلوك الأموي الذي وضع عثمان بن عفان أسسه الأولية. من هنا جوهرية الاستعادة الحية لفكرة الشريعة والفضيلة، والحق والأخلاق في سلوك السلطة والنخبة، باعتباره سرّ الاهتمام الكبير والمؤسس لعبد الله بن أباض في قضايا السلطة والدولة والأمة وقيم العدالة والحق.

***

ا. د. ميثم الجنابي

...........................

[1] من الأمور المؤسفة والسطحية أيضا هو خضوع بعض المؤرخين "الأباضيين" المعاصرين لابتزاز "أهل السنّة والجماعة"، بحيث نراهم يتحدثون عن اختلاف وتباين وتناقض وخروج الأباضية على الخوارج! وأنه لا جامع يجمعهم باستثناء أمور عرضية، كما تجتمع بعض الفرق المتناحرة على مواقف مشتركة! بل ويصل الأمر أحيانا بالبعض إلى درجة نسب الأباضية للخوارج بوصفه فعلا قامت به الدولة الأموية، وذلك بسبب إطلاقها كلمة الخوارج على كل معارض لها! بينما حقيقة الأباضية أبعد ما تكون عن الخوارج! وأنه لا يجمعها بهم غير إنكارهم للتحكيم ومعارضتهم للحكم الأموي. ولعل عدم اتفاق عبد الله بن أباض، بل ومعارضته لنافع بن الأزرق ومن معه من الخوارج دليل قاطع بهذا الصدد. إن هذه الأفكار وأمثالها هي مجرد صيغة أيديولوجية حديثة لا علاقة جوهرية لها بالتاريخ الفعلي للخوارج بشكل عام والأباضية بشكل خاص. فالخوارج تيار كبير وهائل، ومن ثم متعدد الفرق والشخصيات. وله أثره الفكري والسياسي والأخلاقي الهائل بالنسبة لترسيخ قيم الإسلام الروحية والكونية. كما انه احد التيارات الأعمق والأكثر إنسانية من بين التيارات الإسلامية قاطبة في ما يتعلق بقيم الحق والعدالة والحقوق السياسية وفكرة السلطة والدولة. بل ويمثل احدى أرقى صيغ الثبات في المواقف والإخلاص في الشخصية. وبالتالي، فان محاولة إخراج الأباضية من الخوارج هو جهل بحقيقة الخوارج وانتقاص للأباضية نفسها.

[2] ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج3، ص346.

[3] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص566-567.

[4] خير الدين الزركلي: الأعلام، ج4، ص184. وهو الأدق. وذلك لأن بناء سيرته الشخصية من خلال الأحداث والأفكار يخرجه من زمن الصحابة وتاريخهم الخاص، بالمعنى الذي أشرت إليه.

[5] يذكر عبد الله بن أباض نفسه في رسائله إلى عبد الملك بن مروان بأنه أدرك معاوية وأنكر عليه أشياء من أعماله وتصرفاته. ذلك يعني ان عمره كان في حالة يؤهله لتحديد مواقف متميزة ومؤثرة بالنسبة للحياة السياسية والفكرية. كما نعثر فيها على استقلال شخصي وتراكم في الرؤية والمواقف.

[6] رسالة عبد الله بن أباض إلى عبد الملك بن مروان كما يوردها البرادي في كتابه (الجواهر المنتقاة في ما أخل به كتاب الطبقات). ص 163-164.

[7] لقد برز نشاطه وشخصيته بعد مقتل أبي بلال. ويمكن فهم بروز هذا على انه من جماعته، رغم انعدام الأدلة حول مشاركته إياه في الخروج إلى منطقة آسك أو الاشتراك في القتال معه.

[8] التخمين القائل، بأنه مات في وقت قريب من وفاة جابر بن زيد ( 21-93 للهجرة) يستند إلى واقع تولي أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة قيادة الفرقة. ويستند هذا التخمين بدوره إلى ما يورده البغدادي عن أن الحارث الأباضي ترأس مجموعته خلفا لعبد الله بن أباض. وبما أن الحارث الأباضي قد خالف بصورة علنية بعض عقائد الأباضية فيما يتعلق بقضايا القدر، من هنا الاستنتاج القائل باستحالة مرور ذلك دون اعتراض أو نقد من جانب عبد الله بن أباض.

[9] الشهرستاني: كتاب الملل والنحل، ج1، ص 134. وتبالة، بلدة بأرض تهامة بالطريق إلى صنعاء. وهي إشارة تحتمل الخطأ، أو أنها خلطت بين أمور وأحداث مختلفة. وذلك لأن محمد بن مروان هو آخر خلفاء بني أمية، وتربع على الحكم بعد المائة الأولى. ولم يكن ابن أباض آنذاك على قيد الحياة. أو حتى في حال افتراض وجوده، فانه كان طاعن في السن. غير أن تميز محمد بن مروان (72-132 للهجرة) في محاربة الخوارج ومحاولته إعادة الاستتباب للسلطة والدولة قد قرنت في ذاكرة المؤرخين (وبالأخص في الكتب المتخصصة بقضايا الفرق الإسلامية) إمكانية ربط أحداث انتفاضة الخوارج المشار إليها أعلاه ودمج شخصية أبن أباض فيها. وهي فرضية تؤيدها المعلومات المتعلقة باشتراك عبد الله بن يحيى الكندي والمختار بن عوف فيها. وهما شخصيتان عادة ما ترجعهما المصادر الاباضية إلى حلقة أو أتباع أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة. إذ تشير لائحة المراجع الأباضية القديمة إلى أن عبد الله بن أباض وعروة بن جدير كانا من تلامذة جابر بن زيد وعبد الله بن وهب الراسبي وزيد بن صوحان. كما تدل أيضا على أن أبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة كان من تلامذة عبد الله بن أباض ومعاصرا له. وعموما يمكننا القول، بأنه في حال كونه لم يكن احد أتباعه، فانه على الأقل من معاصريه الأصغر سنا والأكثر تأثيرا بالنسبة لنشر الأفكار "الاباضية". ومن ثم يؤيد المعنى القائم في تلمذته على يد ابن أباض وأساتذته.

[10] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج7، ص48، ص399-402. ويؤيد هذا الاستنتاج الدرجيني في كتابه طبقات مشايخ المغرب، ج1، ص231 – 232.

[11] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص563.

[12] يمكن الرجوع بهذا الصدد إلى كتابي (المختار الثقفي – فلسفة التوبة والثار).

[13] ابن حزم: الفصل في الملل والنحل، ج4، ص191.

[14] إن المراجع الأباضية لا تقر بهذا الانطباع والأحكام والتقييمات. وهو أمر طبيعي! إذ تعتبرها جزء من تاريخ التشويه المتعمد، والذي لم يكن بدوره معزولا عن غطاء الأسرار الذي لف حياة عبد الله بن أباض، بحيث جعل من الممكن تخيل مختلف الصور عن حياته وموته، كما نراه على سبيل المثال فيما أورده ابن حوقل عن موت عبد الله بن أباض وعبد الله بن وهب الراسبي في جبل نفوسة!

[15]المبرد: الكامل في التاريخ، ج3، ص1031-1032.

[16] الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص86؛ الشهرستاني: كتاب الملل والنحل، ج1، ص179-186.

[17] ومن الممكن هنا الرجوع إلى آراء ابن حزم في كتابه (الفصل في الأهواء والملل والنحل، ج4، ص188-191) حول تطرف الاتجاهات وسببه في اندثارها (إبادتها)، أو ما يدعوه ابن حزم بشنائع الخوارج. بمعنى رؤيته النقدية لما في الشنائع (الغلو) من اثر لما اسماه بإبادة الحركات، أي اندثارها التاريخي. وهي رؤية دقيقة ونقدية من الناحية المجردة، لكنها بعيدة عن الواقع فيما يتعلق بالخوارج بشكل عام وبالاباضية بشكل خاص.

[18] المبرد: الكامل في التاريخ، ج3، ص1040؛ ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج1، ص261.

[19] الذهبي: لسان الميزان، ج3، ص248.

[20] ابن خلدون: كتاب العبر، ج2، ص656.

[21] البغدادي: الفرق بين الفرق، ص 62. ذلك يعني أن شهرته لم تك معزولة عن نشاطه العلني. وفيه يمكننا العثور على معالم شخصيته الاجتماعية والسياسية والفكرية. فمن بين الفرق التي اعتبرت عبد الله بن أباض قائدها تجدر الإشارة إلى المعمرية. كما قالت به الحارثية، أتباع الحارث بن مزيد، بعد وفاة أبي بلال مرداس. (هنا أيضا إشارة إلى تعايشهما وتأثيرهما المشترك)

[22] لم يكن الأباضيون في البداية يستخدمون اسم الأباضية ؛ بل استخدموا عبارات "أهل الاستقامة" و"أهل الدعوة". ولم يرد ذكر اسم الأباضية في الأعمال الأباضية الأولى. إلا أنهم اعترفوا في وقت لاحق بهذا الاسم وقبلوه. وقد ظهر لأول مرة في الأعمال الأباضية المغربية في رسالة عمروس بن فتح (ت- 280 للهجرة).

[23] لقد كان عبد الملك بن مروان (26-86 للهجرة) احد النماذج الرفيعة لرجل الدولة الإمبراطورية. فقد ولد وتربى بالمدينة. وأتقن المعارف الإسلامية الأولى. وورث الدولة وهي مهددة ممزقة. لكنه استطاع توحيدها من جديد بعد القضاء على مختلف مظاهر الفتن والتمرد والانتفاضات والتجزئة. فقد قضى على عمرو بن سعيد في دمشق وقتله في حادثة "كلاسيكية" للتخلص من المنافسين (انظر ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج2، ص27-28) ثم قضى على مصعب وأخيه عبد الله بن الزبير. ثم ولى الحجاج على الحجاز ثم الكوفة. بدأت في عهده حركة تعريب الدواوين، واستبدال الموظفين العرب بالأعاجم. كما أقيمت دور لصك العملة التي حملت كتابة عربية. كما قام بإصلاحات كبرى في الزراعة والتجارة والبناء (قبة الصخرة) وكسا الكعبة. وضمن هذا السياق يمكن فهم مراسلاته مع عبد الله بن أباض على سعة أفق الرؤية السياسية لعبد الملك بن مروان، وكذلك إدراك عبد الله بن أباض قيمة الدولة والسلطة السياسية. وهو السبب الذي طبع رسائله بتقديم ما يمكن دعوته بالنصيحة التاريخية السياسية الأخلاقية من خلال توحيد وقائع التاريخ ومرجعيات الفكرة الإسلامية المتسامية.

[24] إننا نعثر على كل هذه الانتقادات الدقيقة والمرتبة بهذه الصيغة لاحقا في كتب (الملل والنحل)، أي الكتب التي عممت تجارب الرؤية النقدية أو أسباب الخلافات في مجرى ظهور وتعدد الفرق الكلامية والمدارس الفلسفية.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم