صحيفة المثقف

إبراهيم السعيد.. فضل الريادة في ثقافة الطفل (مجلتي)

جمال العتابيمن يزيل الصدأ عن التجربة؟

كان لعدد من الأدباء والكتاب، منذ أواسط القرن الماضي، فضل تمثيل الإتجاه الجديد في الكتابة للطفل، الذي بدأ يتنامى في  بعض كتاباتهم، وذهب إبراهيم السعيد بالنصيب الأكبر في فضل الريادة والتوجيه، لتحويل هذا الإتجاه إلى حقيقة شاخصة في الواقع العملي، فأضحى مشروعاً ثقافياً رائداً، تمكّن بفضل مقومات شخصيته العقلية والنفسية، أن يقنع أجهزة الثقافة والإعلام بعد إنقلاب تموز 1968 بتوفير الدعم والرعاية له، وهو مامكّنه كذلك للقيام بهذا الدور التاريخي في صحافة الطفل .

لهذا السبب، ربما نخص هذا الرجل (البعيد عن أرض الوطن الآن) بإهتمامنا . إذ لم تغادر فكرة الكتابة عن (مجلتي) . التي إقترنت بإسمه منذ مرحلة  التأسيس الأولى، والتنبيه لدوره المتميز في تحقيق هذا المنجز الثقافي، لما يتمتع به من عقل ناقد، وعزيمة ماضية، وبصيرة ترنو من وراء الحُجب إلى آفاق المعرفة، وإرادة تُحيل الضعف إلى قوة، والقيد إلى حرية وإنطلاق .

فطنة إبراهيم السعيد قادته إلى الثراء الكامن في الروح العراقية، المتمثل بطاقات هائلة يحملها عدد كبير من المبدعين العراقيين، رسامين، وكتّاب، فمنحهم فضاءً حراً غير مسبوق بإشتراطات سلطوية أو حزبية جائرة، فهو مؤمن أشد الإيمان إن المثقف والفنان يرتكز أساساً على الحرية في مداها الواسع، فأطلق مشاعرهم في التعبير .. وكان له أبعد الأثر وأعمقه في نجاح التجربة وفرادتها في سنوات التأسيس الأولى .

بعد ما يقارب خمسة عقود من الزمن، أجد من المهم والإنصاف والوفاء، أن نسجل لهذا الرجل مأثرته بهذا الفعل الذي ظل على الدوام يحمل بصماته الأولى، على الرغم من كل محاولات التشويه، والإسفاف، التي لم تتمكن النيل من مضمونه الإنساني الجميل ومعانيه الرائعة بمخاطبة الطفل .. سواءً كان ذلك في تسيس المشروع، أم في إختيار بعض الإدارات الحزبية التي تسللت إليه، لم يكن للشرط الإبداعي دور في الإختيار، فأسهمت في توظيف الأهداف لأغراض سياسية ودعائية في مراحل لاحقة، ومن الإنصاف أن نستثني إدارات أمل الشرقي، ومالك المطلبي، وفاروق سلوم، إذ شهدت المؤسسة إزدهاراً ملحوظاً في التنوع والإنتشاربعد أن تحولت إلى مديرية عامة لثقافة الأطفال،وبفضل الدعم المالي اللامحدود لها، إستطاعت أن تطبع إصداراتها في دول متقدمة، كاليابان مثلاً، وإتسعت منافذ توزيعها إلى معظم البلدان العربية، ولا سيما في بلدان شمال أفريقيا، وفي أغلب الأحيان كانت توزع  بصيغة الهدايا .

إن قدرة السعيد تتجلى بهذا الإنفتاح الواسع على الخبرة والكفاءة والإبداع الذي قطع أشواطاً بعيدة في منهجه، وكيانه الفكري، بإسلوب فيه طابع العصر، وجاذبيه الجديد، ولم يكتف بتوظيف تلك الإمكانات . بل حوّل (مجلتي) إلى ورشة عمل دؤوبة لتدريب الطاقات الشابة، فكانت المدرسة التي ضمّت العديد من الأسماء .. والتي أصبحت بفترات لاحقة عناصر مهمة وأساسية في إستمرار التجربة، وغيرها من التجارب الصحفية .

أتذكر جيداً تلك الأعوام الأولى من السبعينات . التي إلتحقتُ فيها بمهنة التدريس خارج العاصمة، وتحديداً في مدينة الفلوجة،إخترتها بعناية لكي أواصل العمل في بغداد مساءً، وأنا أقطع المسافات يومياً بين المدينتين ذهاباً وإياباً، في الوقت الذي بدأت فيه أضع خطواتي الأولى في العمل الفني الصحفي، مع نخبة من المبدعين في (مجلتي) في أوقات العمل المسائي .

ذات يوم قائظ، شديد الحرارة، قادني إبراهيم السعيد، وبتواضع شديد، وبساطة متناهية، إلى مبنى وزارة الثقافة والإعلام في ساحة التحرير، سرعان ما وجدنا أنفسنا في مكتب المرحوم الشاعر زكي الجابر (المدير العام في الوزارة)، المشرف العام على المجلة . بعد أن قطعنا المسافة بين مبنى وكالة الإنباء العراقية المطلة على شارع أبي نؤاس، الذي تشغل (مجلتي) طابقيه السابع والثامن، ومبنى الوزارة مشياً على الأقدام، إذ لم يخطر ببال السعيد أن يمتلك سيارة خاصة به، أو يستخدم إحدى سيارات (الحكومة) .

لم أتخيل إنني سأفلت من (الفلوجة) بهذه السرعة، بعد أن قدمني السعيد للسيد الجابر، ملمحاً لحاجة (مجلتي) لخدماتي، وتجاوزاً لكل الروتين والتعقيد البيروقراطي . نُسبت للعمل فيها .. وصدر أمر وزاري بالتكليف . كنت حينذاك في غاية السعادة، لا لسرعة إنجاز الأمر، إنما لموقف (رئيس التحرير السعيد) الذي كان متسقاً مع نهجه الواضح في العمل .. فأنا لا أرتبط معه بصداقة بعيدة العمق . ولم تتجاوز فترة العلاقة الوظيفية سوى بضعة أشهر .. لكنه لم يكن يعمل على وفق هذا المنطق، إنه يتحرك بإيمان عميق، بحرية التفكير والفن، وكان يتطلع دون تدخل مباشر منه إلى ممارسة هذا الدور بإبداع، وصدق في التعبير، هو معني بحاجة المجلة للكفاءات، وبمقدار مساهمتي في العمل، والمشاركة فيه بإخلاص وجد، والتفاعل الإيجابي مع الآخرين، ألا تستحق هذه التجربة من يزيل عنها الصدأ .. ويعيد ألقها وفتوتها .. أم أننا إعتدنا أن نقتل الأشياء الجميلة، ونطمرها .. لا لنذرف الدموع عليها .. إنما لنستعد لتشييع خضرة أخرى؟

إن أحد أسباب نجاح تجربة (مجلتي)، أنها إستطاعت أن تستقطب أكثرالرسامين والفنانين والكّتاب إبداعاً، ومن حق العراق أن يعتز بالإنجاز الذي حققه أولئك الذين إمتلأ بهم ثراءً، أعتذر سلفاً إن خانتني الذاكرة في ذكر بعض الأسماء المبدعة، لكنني لا أنسى : طالب مكي، فيصل لعيبي، صلاح جياد، وليد شيت، بسام فرج، عصام الجبوري، ضياء الحجار، مؤيد نعمة، نبيل يعقوب،أديب مكي، كاظم شمهود، منصورالبكري، عبدالرحيم ياسر، ميسرالقاضلي، قيس يعقوب، مصدق الحبيب، حسام عبد المحسن، صبيح كلش، عادل صبري، وغيرهم من الرسامين، وبمشاركة أبرزالكّتاب، وفي مقدمتهم: فاضل العزاوي، يوسف الصائغ، سالمة صالح، وصادق الصائغ، عبد الاله عبد الرؤوف، كاظم صالح، عدنان حسين، عبد الرزاق المطلبي، محمد شمسي،سامي الزبيدي، زهير رسام، طلال حسن،خالد يوسف، سهيل سامي، نبيل ياسين، فاروق سلوم، ومن ثم جيل آخر يتقدمهم، حسن موسى، فاروق يوسف، جعفر صادق، كاظم المقدادي، منى سعيد، سعيد شنين، شفيق مهدي، مها البياتي، إسماعيل خليل، وعدد كبير من المساهمين من خارجها من الشعراء، وكتاب القصة أو السيناريو .

وبمعية أولئك، عدد من المصممين والخطاطين والمصورين : عامر العبيدي، عارف علوان، حميد ياسين، جمال العتّابي، بلاسم محمد، سعدي الموسوي، ثامر الخفاجي،ومع الكادر الفني، كاك صلاح ومخلد المختار وعادل العرداوي،وفي إدارة المجلة والمكتبة،جواد عباس، وقسيمة البدري، وميعاد القصاب .

في وسط حاشد من المبدعين، ظهرت قدرة إبراهيم السعيد في التمكن من إدارة هذا الجمع . بغض النظرعن إنتماءاتهم، وتلويناتهم الفكرية والسياسية .. إذ لم يشهد الوضع السياسي أنذاك صراعات طائفية أو مذهبية أو عرقية . كان إبراهيم يجد في العمل الصحفي الخاص بالطفولة صيغة جمال مطلقة، فإعتمد أساليب عمل نيرة وساحرة، مختلفة عن التقليد وترفض الجمود، وأسهم في حالة الإنطلاق الأولى، لتصبح بالإرادة والتحدي ظاهرة تفرض نفسها على الآخرين، والسمة الأبرز في أجواء العمل آنذاك، لأن السعيد يدرك تماماً أن الخوض في هذا الميدان يتطلب عناءً ومشقة، وعليه أن ينأى بالمشروع من سلطة الفكر الشمولي، وتوجهات الفكر الشمولي من جهة، والتأسيس لأدب راقٍ ينسجم مع عقلية الصغار لتطوير قدراتهم وتجديد إبداعاتهم من جهة ثانية، فكانت خطواته الأولى على هذا الطريق الشائك والوعر .

وإنفرد إبراهيم السعيد بخصال كثيرة، أبرزها خصلتان، حكمتا مسلكه الصحفي والثقافي عبر مسار تجربته الصحفية، وهما : مهنيته الفريدة، وتجرده عن الأنانية ومحبته للآخرين، ونختار للسعيد هاتين الخصلتين لأنهما في تقديرنا يفسران إسلوبه ومنهاجه في العمل، وما فجّره من طاقات بين العاملين في (مجلتي) . وإذا أردنا أن نتحدث عن صداقاته، وتواضعه، وإخلاصه، وتفانيه في العمل، فتلك مزايا لاحدود لها .

وجد السعيد نفسه فيما بعد، أنه أسير أنماط جامدة متوارثة، حاولت إغلاق أبواب الإبتكار، وأمعنت في شل قدرات التغيير، فتحدى إبراهيم الجمود، ونظر إلى صحافة الأطفال، على أنها قوة الحياة، فكانت المجلة بيتاً مليئاً بالحيوية والفرح والحب، بما أشاعه من أجواء مودة وإلفة وصفاء بين العاملين، فكنّا لا نبارح المكان، ولا نتقيد بساعات عمل روتيني .. ولا تتسلل لنفوسنا الكآبة والملل، فأن شئنا نفتح النوافذ المطلّة على دجلة المنساب هادئاً نحو الجنوب بزرقة باهتة .. وهو يعدنا بنزهة أو جلسة على ضفافه، وأخرى في كافتيريا نادي الإعلام تزيح متاعب العمل، إنها النوافذ المفضية إلى قلب المدينة .

أكاد أقول بكل إعتزاز وثقة، إن التجربة تلك تستحق أن تكون نموذجاً رائداً للعمل والإدارة في كل المؤسسات والهيئات والجمعيات الثقافية، وهي دعوة كذلك لهذه الجهات أن تدرس أسباب النجاح، والتمكن بالفعل الجاد من وضع مفردات التقدم وتجاوز الصعوبات موضع التطبيق، إن هذه المؤسسات بحاجة إلى طعم فني في الأداء، وهواجس ثقافية عميقة، وصدق العلاقات، وقبل كل هذا، الشعور بالمسؤولية الثقافية الوطنية، بتجرد وأمانة .

ومن حقنا التساؤل عن وجود أي اثر لهذا النموذج في السلوك أو الإدارة بين مؤسسات الإعلام والثقافة اليوم .. أكاد اشك أن تتكرر هذه التجربة بنفس المواصفات، ومن غير المنطقي نسخها بكل تفاصيلها . وبمعانيها الإنسانية النبيلة، لذا فأن مزيداً من الشعور بالإحباط يداهمني، وأنا أرى الدار تتعثر في مسيرتها وأدائها منذ عام 2003، لأسباب عديدة، شانها شأن المؤسسات الثقافية الأخرى، ومعظم دوائر الدولة .

فأين نحن من إبراهيم السعيد؟ الحالم، الذي أراد تغيير العالم بالكلمة . فواجه بثبات ألآت المؤسسات الحزبية التي أرادت أن تصادر منه بيان الأفكار وطعم الطفولة، وعلى الرغم من قوة صموده، فأنه فقدَ قوة المواجهة، حينما حاولوا أن يجبروه على تبني توجهات الحزب القائد، فرفض الإنصياع، وإختار الأصعب، وهوالفرار، لكن إلى أين؟ إلى مملكة الحرية ... إنه الموقف الذي حررّ به نفسه من رواسب الإملاءات المقيتة،  ليتناغم مع إسلوبه في إستعادة ذاته، منسجماً مع معايير الزمن المتجدد، لكي لا تسوقها أفاعي السياسة السامة .

تحية لك أيها السعيد، الباحث عن الضوء، وسط ظلام وصخب العالم وفوضاه، تحية لك أيها الباهر، ومعذرة إن تأخرنا عنك، لكنني أشعر بالغبطة والإرتياح، بعد أن سددت ديناً  برقبتي، وأزحتُ هماً عن نفسي رافقني منذ عشرات السنين، وليس لي شأن بما سيتركه هذا الوفاء من صدى عند الآخرين. على الأقل عند أولئك المتسيدين للمشهد الثقافي، فأنا مطمئن أن البعض منهم غير معني بإبراهيم السعيد، ولا أجداد إبراهيم، ولا بمبدع آخرغير إبراهيم، فليذهب حيث إختار في أقاصي الدنيا .!!

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم