صحيفة المثقف

حسن طلب.. الأديب الفيلسوف

محمود محمد عليهناك الآلاف ممن يمارسون الشعر.. يزاولونه.. يكتبونه في المدارس أو الجامعات أو حتي في الهيئات والأمسيات الأدبية.. يكتبون ويقولون.. وإنما من كل هؤلاء الآلاف هناك أفراد قليلة جداً هم الشعراء والشعراء الحقيقيين.. وللشعر لغة خاصة، لا نعني بها اللغات الألسنية السائدة والبائدة، لكنها لغة مختلفة لغة محلقة في فضاءات غير محدودة من المتخيل الذي تتخطى من خلاله حدود التصريح والتقرير والتسمية المنطقية.. هذه اللغة قوامها المجاز، ومحور ارتكازها موهبة سيالة لا تقتات على البقايا ولا تعرف الجمل الاستهلاكية المعلبة مسبقا.. يصف البلاغيون في كتاباتهم الشعر بأنه كلام موزون مقفى ولكن هذا التعريف وإن كان مقبولا في زمن معين، وفي إطار وعي معين، فهو غير صالح على الإطلاق في هذا الزمن الذي يحيل هذا التعريف الى الأرشيف أو يقصره على النظم، بعيداً عن الشعر الحقيقي.. ولذلك يتعب الشاعر الحقيقي في تجديد أفكاره، ولغته، ورؤاه المختلفة، ليكون مختلفا قدر الاستطاعة في زمن التشابه، ليقترب أكثر من اللغة الشعرية التي تحوّل الحديث الى كائن حي له كيانه وله شخصيته، وليس مجرد أداة تعبيرية جامدة.

وهناك نظريات كثيرة لتصنيف الشعر الحقيقي المختلف عمن يمارس الشعر.. ولكن هناك حالة اقتناع بأن الشاعر الحقيقي له صوتاً خاص ومعني خاص ومفرد خاص.. وعندما تستمع لشعره لا تقع أسيراُ للمعني ، ولكن تتأكد أن هذا الشعر يخص فلان وهو من مذاق فلان.. كل هذا ينطبق علي الأستاذ الدكتور حسن طلب ، صحيح أنه أستاذ فلسفة، ولكن الشعر هو دينه وديدنه ؛ كان الشعر عند الدكتور حسن طلب له الأولوية الأولي في حياته، وشعور بالإلتزام يتملكه نحو شعره ؛ فبالرغم من كونه أستاذاً للفلسفة إلا أن شعره يأتي دائماً في المرتبة الأولي.

عرفت الدكتور حسن طلب ، حيث كان زميلي بكلية الآداب- جامعة حلون ؛ تسلمنا العمل معا في عام 1995م ، عُين سيادته في درجة مدرس علم جمال ، وعُينت أنا في درجة " مدرس منطق وفلسفة علوم " ، كان حسن طلب ( مع حفظ الألقاب) قمة في التواضع ، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للأدب الروائي والشعر: تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات شاعر وأديب يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل دواوينه تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

كان الشاعر والزميل والصديق حسن طلب قبل دخوله الجامعة نائب رئيس تحرير مجلة إبداع الأدبية الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، ثم كان رئيساً لتحرير سلسلة (الذخائر) التى تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وعضو في الوقت ذاته بلجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وأحد رموز الثقافة المشاركين في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ51، علاوة علي أنه كان أحد المؤسسين لجماعة "إضاءة" للشعر عام 1977 م.

ولد حسن طلب بمركز طهطا بمحافظة سوهاج عام 1944م ، وقد ظهرت موهبته الشعرية منذ طفولته.. انتقل حسن طلب للالتحاق بالجامعة ووقع اختيار الشاب الصغير حينذاك علي قسم اللغة العربية بكلية الآداب لكن طلب اكتشف أن جزءً كبيراً من المناهج هناك يعرض لأمهات الكتب العربية، والتي كان قد اضطلع بالفعل علي عدد منها خلال قراءاته اثناء دراسته بالثانوية ، فقرر الانتقال إلي قسم الفلسفة لقناعته بأن دراستها ستساعده علي اضفاء العمق علي شعره ، ثم بدأت رحلته الأدبية منذ حصوله على ليسانس الآداب، قسم الفلسفة، من جامعة القاهرة في الرابعة والعشرين من عمره، ثم واصل دراسته الأكاديمية بحصوله على الماجستير في الفلسفة، ليُكمل الدكتوراه حتى حصل عليها في عام 1992 وذلك تحت أستاذتنا الدكتور "أميرة حلمي مطر" .

بالانتقال إلي القاهرة انتقل حسن طلب إلي عالم أوسع فبعد الاقتصار علي حضور الموالد والاحتفالات الصوفية بالقرية ، أتيحت له الفرصة لحضور الأمسيات الشعرية والندوات لكبار الشعراء.. فخرج طلب من الجامعة 1968م وعُين مشرفا ثقافيا بها ، لكنه واصل كتابته للشعر ونشر أول قصيدة عام 1971 م في مجلة المجلة وهو ما شجعه علي التوجه إلي الناقد الراحل رجاء النقاش ليعرض عليه أعماله.. اعجب النقاش بتلك الموهبة الشابة ونصح طلب بنشر قصائده ، وشاءت الأقدار أن يكون حسن طلب واحداً من كبار الشعراء المعاصرين وذلك حين جاءته دعوة للمشاركة فى الدورة الخامسة من الملتقى الدولى للشعر والذي كان يقام باستمرار فى المجلس الأعلى للثقافة.

كما شارك "حسن طلب" بإسهامات أدبية كبيرة، يأتي من بينها أنه أحد المؤسسين لجماعة "إضاءة" للشعر منذ عام 1977، وقاده ذلك نحو الحصول على العديد من الجوائز، فحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة في عام 1990، ثم جائزة كافافيس اليونانية للشعر في 1995، وجائزة السلطان قابوس للإبداع الثقافي في 2006 والتي جاءت كمناصفة مع الشاعر العمانى سيف الرحبي.. ترك "حسن طلب" بصمة أدبية بالعديد من البلاد، وذلك من خلال مشاركته في العديد من المؤتمرات الأدبية والشعرية في اليونان، وفرنسا، وكولومبيا، والدانمارك، والمغرب، والأردن، وسوريا.

ولحسن طلب العديد من المؤلفات الأدبية والفلسفية ونذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر وذلك علي النحو التالي :-

- وشم على نهدى فتاة - دار أسامة القاهرة 1972.

- سيرة البنفسج: 1986 م.

- أزل النار في أبد النور- دار النديم القاهرة 1988.

- زمان الزبرجد : 1989 م.

- أية جيم (قصيدة طويلة)- الطبعة الأولى هيئة الكتاب القاهرة 1992 الطبعة الثانية دار التلاقي للكتاب 2010

- لا نيل إلا النيل -دار شرقيات القاهرة 1993

- بستان السنابل مختارات شعرية - مكتبة الأسرة 2002

- مواقف ابى على وديوان رسائله وبعض أغانيه المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2002

- دراسات فلسفية.

- المقدس والجميل مركز القاهرة لحقوق الإنسان القاهرة 2001.

- أصل الفلسفة دار عين القاهرة 2003.

- دراسات تناولت حسن طلب بالدراسة الإيقاع في قصيدة السبعينيات ،عادل بدر، كلية الآداب، جامعة عين شمس ،القاهرة،2001.

- المقدس والجميل : 2003 م.

- متتالية مصرية 2006 م.

- مصادرة الفن باسم الدين والأخلاق والسياسة 2013 م.

ليس هذا فقط بل تنوع نتاجه الثقافى، حيث صدر له حتى الآن عشرون ديوانًا، نشرها المجلس الأعلى للثقافة فى أربعة مجلدات تحت عنوان: "ديوان حسن طلب" ، كما صدر له عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ديوان: "سفر الشهداء" وهو المتمم لثلاثية "إنجيل الثورة وقرآنها"، وصدر له كذلك ديوان: "ما كان فى الإمكان كان" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. كما تمكن حسن طلب من إتمام مشروع شعرى جديد بعنوان: (الثلاثية الصغرى) ويشمل قصائد بعنوان: "كفوا عن التضليل" و"تمردنا.. ولكن" ثم : "لا شك فى البطل"..

خلال تلك الدراسات والدواوين كان حسن طلب علامة مميزة من علامات القصيدة العربية المعاصرة ، إذ لم يقتصر سعيه علي إنجاز بصمة مميزة بين السبعينات المصري والعربي من القرن الماضي والمنصرم ، بل ينطوي أيضاً علي إنجاز بصمة مميزة في الكتابة الشعرية الراهنة ، وحينما احتفلت الأدبية بمصر مؤخراً عبر لجنة الشعر بالمجلس الأعلي للثقافة ببلوغ حسن طلب عامه الستين من عمره المديد كانت تحتفل – من خلاله - بالشعر وبالاجتهاد والخيال الأصيل . و" أدب ونقد " حينما تحيي هذا الشاعر الفرد ، إنما تحيي فيه الاتقان والإبداع والصلابة الإنسانية ، حيث وصفوه بالبستاني ، الجواهرجي، المهندس" ولم تكن هذه الصفات الثلاث التي اطلقتها عليه مجرد لغو كلمات، بل كانت ولا تزال - تحديداً دقيقاً لطريقة عمله مع الشعر. فشأن طلب مع الشعر شأن البستاني الذي يتعهد حديقته بالري والتسميد والحرث والتشذيب والتقليم والتنسيق بين الجذور والفروع والغصون والسيقان والأوراق والثمار والزهور. كما ان شأنه مع الشعر شأن الجواهري الذي يتعهد مصاغه بالصهر والتشكيل والنقش والتلميع والتنضيد والتمييز بين العيارات. ثم أن شأنه مع الشعر شأن المهندس الذي يتعهد معماره بالأساس والمداميك والمنظور والطول والعرض والارتفاع والتناظر والتقابل والكتلة والفراغ والطوابق والشرفات والتهوية وأرابيسك الأبواب.. ووصلت «بستانية» هذا الشاعر الى حد ان ارتفع بزهرة من الزهر الى مستوى المركز المطلق (البنفسج)، لتغدو هي الأنثى والوطن والجحيم والقصيدة. بل ان هذا البستاني لم يقصر اهتمامه على الحدائق وحدها، وانما مدّه ليشمل حشرة الحدائق (الخازباز) ليصل بها الى مستوى تجسيد المأساة العربية، في واحدة من فرائده الفريدة.. وقد وصلت «جواهرجية» هذا الشاعر الى حد ارتفع بواحد من الأحجار الكريمة الى مستوى الرمز المطلق (الزبرجد)، حتى صار هذا الحجر الكريم علامة على الشاعر، وصار الشاعر علامة على هذا الحجر الكريم، على نحو غدا معه هذا الرمز المطلق طوّافاً على كثير من مناخات الشاعر و "زمانه".. كما وصلت «هندسية» هذا الشاعر الى حد ان صارت معظم قصائده ابنية معمارية متلاصقة، تتجاوب فيها عناصر الكتلة والفراغ وتتراسل فيها نسب الاسمنت والقرميد والجص، وتتجادل فيها الوشائج بين الشكل والوظيفة، كل ذلك في نسق يعيد بعث الصلة القديمة بين الفلسفة والرياضيات، أو بين التجريد والهندسة، أو بين الجبر والميتافيزيقا. (ناهيك عن أن شاعرنا صمم نصاً شعرياً على هيئة هندسية مباشرة، عمادها المثلث والمستطيل. مثال: بنفسجة للجحيم).. على أن ثمة ثلاثة شروط كبرى، توافرت في تجربة حسن طلب، من دونها يصبح البستاني محض منمق، ويصبح الجواهرجي محض منضد، ويصبح المهندس محض منظم، أول هذه الشروط الثلاثة الكبرى هو: الفطرة الشعرية المطبوعة (أو الروح الشعري الدفين) التي تأخذ النص من الاصطناع الى الصنع الجميل، وتمنح الحرية والتنوع، وثاني هذه الشروط الثلاثة الكبرى هو: القدرة اللغوية (والمُكْنة الموسيقية) التي تأخذ النص من الثبات الى الحركة، ومن الجمود الى دفق الليونة، وتتيح وفرة الاختبارات والبدائل والحلول، وثالث هذه الشروط الثلاثة الكبرى هو: ربط البستاني والجواهرجي والمهندس فيه بهموم ذاته وذات جماعته الوطنية، وهو الربط الذي ينأى بالبستاني عن مفهوم الزينة، وينأى بالجواهرجي عن مفهوم «الاكسسوار»، وينأى بالمهندس عن مفهوم النمط.. هذه احدى مغامرات (أو معادلات) حسن طلب العظمى: دخوله الى البستان ومحل المجوهرات والهندسة، مسلحاً بالفطرة الهادرة والقدرة الطاغية والشوق الجماعي، لينتج لنا - عبر التجادل الخصب بين ذلك جميعاً واحدة من التجارب الشعرية المتميزة في الحركة الشعرية العربية المعاصرة وذلك كما قالت عنه دار الحياة في احتفاليتها عنه "تحت عنوان ستون الشاعر المصري حسن طلب: اللاعب بالنغم... الراقص بالحرف"..

وقد وصفه الدكتور مصطفي النشار في مقال عنه بعنوان " حسن طلب.. والأصل المصرى للفلسفة"، فقال عنه بأنه " واحداً من سدنة مزج الفلسفة بالشعر عبر التاريخ؛ إذ يمكن أن تقارنه ما شئت بإخناتون ملك مصر الفيلسوف الذى عبر عن رؤيته الدينية والفلسفية فى القصيدة الشمسية الشهيرة أو «باكسينوفان» ذلك الشاعر اليونانى الجوال الذى قضى ستين عاما يعبر بالشعر عن رؤاه الفلسفية والدينية فى حقيقة الوجود وجوهره الواحدى أو بتلميذه بارمنيدس صاحب أشهر قصيدة يونانية عبرت عن حقيقة الوجود الواحد ولا ماديته وهى تلك القصيدة التى انبعثت منها فلسفة أفلاطون المثالية كما استندت عليها فلسفة أرسطو الميتافيزيقية".

أما الدكتور سعيد توفيق فقد أفاض في الحديث عنه عندما أخذ يعدد مؤلفاته ودواوينه وإنتهي إلي أن مسألة «أولوية اللغة» لاحظها الكثيرون في شعر «طلب»، والسبب يرجع لمتانة لغته، واستحضاره بلاغة القدماء، حيث يتجلى في شعره استعمال القوافي والجناس والسجع والطباق وغير ذلك من بديع اللغة، وكأنه يحاول ترصيع قصائده ببعض الأحجار القديمة العتيقة، التي لا نكاد، نحن المعاصرون، ندرك قيمتها أو نفقه جمالها.. ونفى سعيد توفيق ما أشيع حول أن شعر «طلب» يقوم على الاستعراض اللغوي، وأنه يميل للزخرفة والاعتماد على الصورة، مؤكدًا أن هذا سوء فهم لشعره؛ وأشار إلى أن «طلب» لجأ لتحولات تدريجية في شعره من أجل الخروج من هذا الإطار، فقدم بعض الدواوين ذات الأبعاد السياسية والاجتماعية؛ كديوان «لا نيل إلا النيل»، الذي لخص عشق و«إيمان» حسن طلب بالنيل؛ فهو ليس متغيرًا كقلب الأنثى، بل باق بقاء الله والوطن.. كما كشف توفيق أن نقطة التحول هذه جعلت «طلب» أكثر اهتمامًا بالشأن العام، وبعالم الإنسان الذي يلقى شتى صنوف الظلم والعدوان في هذا العصر، فظهر ديوانه «قربان لإله الحرب» الذي صور الفظائع التي ارتكبتها أمريكا بحق العراق منذ احتلالها عام 2003، وإسرائيل بحق جنوب لبنان، حيث تخيل «طلب» في إحدى قصائد الديوان «هذه كربلاء وأنا لست الحسين» وجود شهيد سقط في هذه المعركة ولكنه يرمز للشهداء في كل زمان ومكان.

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور حسن طلب بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر مبدع في أعمال كثيرة ومتنوعة، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطوله وعرضه لخدمة الثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمت من جهود.

تحيةً لحسن طلب الذي لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم