صحيفة المثقف

أين تكْمُن قوةُ المجالِ العامِ؟

سامي عبد العالهناك فارق حَذِر بين القوة والسلطة رغم إحلال الكلمتين أحياناً داخل اللفظة الواحدة نفسها: power، إذ تنطوي القوةُ على أبعاد ماديةٍ وأخرى رمزية تمنحُ وجودَّها معنى بعيداً. وهي أيضاً القدرةُ على بث فاعليتها الخفية عبر نفوذها المقبول داخل المجتمعات، مثل فكرة القوة الناعمة soft power للدول التي صاغها المفكر الأمريكي جوزيف ناي. حيث تحدث عن الانتاج الثقافي والفني وأثره في السياسات الخارجية وأهميته للدول وبخاصة أمريكا.

أما السلطة فهي الجانب الصلب hard من القوة، لدرجة أنَّها تتميز بطابع ملموسٍ. مثل سلطة الدولة التي تشمل إنفاذ القانون وإدارة المؤسسات والضبط السياسي،  وكذلك سلطة المجتمع في دائرة العادات والتقاليد حيث يصعب مخالفتها وتُشعِر الأفراد بعقاب فوري- قلَّ أو كثر- عند الخروج عليها. والفارق المشار إليه يؤكد أنَّ القوة بإمكانها الذهاب إلى فضاء أكبر شأناً، إذ تجري على نطاق تأويلي، فهي حيث تسري، تجسدُ وضعاً مؤوَّلاً في وجود نظامٍ رمزي سائد.

من هنا ترجع آفاق القوة الخاصة بأيِّ كيان عام إلى طبيعة النتائج المترتبة عليها، وإلى أي مدى ستغدو القوة مؤثرةً، وإلى ماذا ستتحول. وفي هذا قد يقول المنطق السياسي إنّ أهمية المجال العام ترتكز على قاعدة الدولة، لأنَّها ستمارس آثاره المحتملة على نطاق ابعد، لتلتقط الأنظمة الحاكمة طرف الخيط من الشعوب (فهي القاعدة العريضة والأساسية للدول) وتعيد ترتيب أولويات وجودِّها الجمعي.

لكن أحوال الواقع المراوغ تذهب بالمجال العام إلى حد التشوّه تحت سقف الأنظمة المستبدة. فلرُبما تكون غطاءً زائفاً (كبُرقُّع الحياء) يُظهر أكثر مما يُخفي. أي أنَّ هيكلاً تنظيمياً اسمه الدولة هو وسيط مهترئ لا يمنع التلاعب بالإرادة العامة، بل قد يُنكِّل بشعوبها إلى حدِّ الإنهاك اليومي. وإذا كانت الدولة جهازاً سياسياً لإدارة شئون المجتمعات، فالسلطة غالباً ما تحكم قبضتها على الأوضاع العمومية. وبالمقابل فإنَّ هاجس الرفض لسياسات الهيمنة على الشعوب لا يغيب مطلقاً، بل يلِّحُ من حين لآخر. ولكي يجري ترويضها ستكون الدولة على موعد مع " تقنيين" فاعلية مجالها العام بحسب ما تريد .

قصداً هي تحدد أيَّة قوى يمكن أنْ يعكسها، والانعكاسreflection كلمة ضرورية في مكانها القلق هنا. حيث أنَّ أغلب معوقات الأنظمة السياسية تكمن في تأجيل أية قوى كلية الجانب (مثل إرادة الشعوب) وحجب تأثيرها على النطاق ذاته. وأنَّ الدولة لصالح السلطة تسعى لاحتكار الفعل السياسي من جانب جنسه وطبيعته وآثاره وتحولاته التالية.

عندما وصف توماس هوبز الدولة بأنَّها تنين أسطوري، أي اللوفيثان Leviathan(الكلمة اسم لوحش أسطوري ورد ذكره في التوراة)، لم يكن مستغرباً سريان هذا التوحش الشرس في أنفاس الأنظمة السياسية، حتى غدا قدرة مراوغةً على إقامةٍ ثقيلة الوطأة فوق أنفاس الشعوب ذات الإرادة. ومنذ ذلك الحين كان على الدولة ألاَّ تخيف مواطنيها وحسب، إنما أنْ تنتج الخوف في أشكال ضرورية (قوة ردع رسمي وعمومي من جنس المجال العام). وعليه كان ينبغي للدولة برأي ماكس فيبر أنْ تحتكر استعمال العنف وتعيد انتاجه. وبالتدريج يتحول العنف من دائرة التقنيين المرتبطة بــ" القوانين" إلى أسلوب عمل وآلية رمزية لهش المناوئين للأنظمة (انتاج صولجان السلطة).

والبرجماتية السياسية تذهب إلى مدى أوسع في صلب المؤسسات العامة، لأنَّها بخلفية السلطة تجعل من ذاتها ملْحاً ضرورياً في أية أفعال يومية. فالمواطن قد يجد أشباحاً بلا وجوه (رموز- شعارات- خطاب – أشخاص) تتحدث باسم الدولة وقد يجد استعصاءً أمام فهم الشئون العامة. لأن نظاماً حاكماً ليس يقتفي أثر شيء قدر ما يتحسس كتلة مجاله العام(الشعوب). فلئن وجدها متمردة وباستطاعتها فك القيود المفروضة، فإنه يخضها لقانون جاذبية من نوع خفي كالقوانين وعمليات الضبط السياسي، بحيث تستطيع الدولة إدارة فيزياء المجال العام بسهولة .

وليس بعيداً عن الفكرة السابقة أنَّ بعض الدول العربية- حتى بعد الربيع العربي العاصف- تتعامل مع الجماهير بلغة الكتلة المادية، أي الحشود (التجمع، الغوغاء، الرعاع، الدهماء). وهي كلمات لا تخرجُ عن قاموس السياسة الذي يزن التصورات بأفعال حسيةٍ ويبرز انعدام الأخذ بالتنوع.

حاصل ذلك أنَّ الأثر الإيجابي للمجال العام (أي يفعل ويثور) تجاه نفسه هو صفة " مضافة " إليه. لأنَّ مجالاً كهذا يوازي في أعين السياسيين فوضى غير خلاقة بالمرة، في خلط معيب بين المجال كفضاء رمزي وبين تصورات مسبقة حول أفعال الكائنات الإنسانية. كأنَّهم مجموع من شواش بشري عضوي organic chaos على طريقة الفيلم السينمائي المصري (أفواه وأرانب).

حان الآن سؤالٌ يبدو متأخراً: كيف يتسم هذا المجال بقوة أصيلة ؟ وهل هي قوة خاصة أم يكتسبها من شيء آخر؟ في هذا الشأن يعد المجال العام أكبر عناصر  الوجود السياسي تأثيراً. وهو كذلك غير قابل للاحتواء ولا التدجين... وحتى لو حدث الاحتواء تاريخياً نتيجة ظروف قمعية قاهرة فلن يفلح في بلوغ مآربه.

إنَّ قوة المجال العام ليست إلاَّ هو بشحمه ولحمه (الاجتماعي + السياسي). فلأول وهلة يسير ذلك الفضاء بحسب قانون الهوية الأرسطي: أ هي أ (أ  أ) لكن ستمثل ممارساته المتغيرة عملية تنقض هذه المعادلة. أي أنَّ عنصر الزمن حاضر دوماً في بنيته عن بكرة أبيها. وهاهنا تكمن القوة كلها في هذه السيرورة process المحققة لغاياته دون إدراكها إلا بتطورات وأحداث. فهو مسار متواصل ونسبي لا يكف عن التحول إلى ذاته لا إلى أي شيء آخر، وقد كسب المجال العام  حقوقاً تاريخية من مرحلة إلى أخرى. لأنَّ الهوية التي نظن أنَّها تمسك عليه حركته إنما هي درجة تطابقه مع عناصره المختلفة، المتغايرة، المنفلتة، المتمردة، المتقلبة. بيد أنَّ مفارقة الاختلاف تجعل التطابق لأي مجال عام مستحيلاً بحكم عناصره السابقة. إذ تفرض على وجوده تغيراً مستمراً نحو الأفضل، نحو تحقيق أهدافه، وسيكون تنوعه دافعاً لهدم أية سلطة تحاول الهيمنة عليه.

يُفترض أنْ تكون القوة التي يجسدها المجال العام جامعةً مانعةً، لأنَّها تمثل حائط صد سياسي لكل شيء سواه. وجزء من المفارقة أنْ تؤدي أوضاعه المفترضة دوراً في عدم استيفاء شروط قبوله لأية نظام حاكم إلاَّ مؤقتاً. ذلك من حيث كونه مجالاً لا يخضع للوصف الإيجابي. أي: أننا لا نضمن القول بأنَّه سيقبل مجاناً هذا الحاكم أو ذاك، ولا أنه سيؤيد هذا الوضع أو ذاك، ولا أنّه سيؤكد هذه السياسات أو تلك. بهذا التفكير كأن المجال معنى عام يتخصص لأجل اللفظ المحدود بينما الأصح أن يصاغ اللفظ ليناسب المعنى الأكثر اتساعاً.

إذن طبيعة المجال العام وأوصافه وتحديداته تسير بطريقة اللاهوت السالب negative theology، فاللاهوت ضمن هذا الاتجاه يستعمل ميتافيزيقا السلب من أجل إثبات ما لا يثبت. حيث يقول عن الله: هو ليس محسوساً ولا مادياً ولا فكرة ولا كائناً اعتيادياً ولا صورة ولا شكلاً... إلى آخر التحديدات التي لا تحتوي في الحقيقة على أي تحديد. وإذا كانت الأوصاف السالبة تتحقق بالتقريب من خلال تفاعل عملية الوصف مع ذهنية الواصف، فهي تتلخص في ماهية المجال العام بالطريقة ذاتها. والمسألة أن  معنى الإله عندما يدخل وجوده الدنيوي لا يوجد في دلالته الميتافيزيقية، بل يُتأوَّل بحسب آليات الواقع وممارساته . وبالتالي فالمجال العام ليس أحادياً ولا ديكتاتوريا ولا وسلطوياً، إنه يتنوع ويقلب كافة الإمكانيات دون نهاية.

إنَّ مفهوم هذا المجال كأبرز نتاجات الحداثة السياسية مازال يردد صيغة النفي اللاهوتي بأسلوب دنيوي. فالوجود الكلي المتميز به دون انحياز إنَّما يؤخذ كمرجعية للتشريع والسلطة والتواصل الإنساني. والطريف أن التحول لم يقض على الصدى الميتافيزيقي، إنما أعطاه خاصية الاستقلال العمومي. ونحن نعرف أن الميتافيزيقا حين تخضع لما هو إنساني، تتقمص شكلاً آخر من التأثير. ويلعب عدم القابلية للتحديد دوراً رئيساً في فتح المجال العام أمام احتمالات لا تتوقف، أمام أوجه ثرية، أمام تغيرات غير متوقعة إذ يعطي وجوده زخماً كلياً. ولذلك كانت الشعوب هي المحك في تغير المجتمعات وتحقيق الاهداف العامة.

وستأتي قوة المجال العام (كل القوة) في تجسيد معالم خاصة لا مجرد كتلة عينية concrete mass تنطوي على فراغات للحركة. والقوة من ثمَّ هي تلك المعالم نفسها بمنطق السلب كما أشرت. كلما تمَّ سلب خاصية سيجري البحث عن خواصٍ أخرى.. وهكذا دواليك.  فلا توجد دولة تعيش عصرها (أو هكذا تريد) يمكن أن تغفل تطلعات شعبها وكيف سينال حقوقه وتنميتها إلاَّ إذا كانت دولة متخلفة. وهذا ما يضعها تحت التساؤل والنقد المتواصلين.

أولاً: المعيارية:

يمثل المجال العام معياراً لوجوده وبناءً لتحقيق أهدافه دون مبارحةٍ. وبالتالي لا يقبل التعيُّن بصورة واحدةٍ داخل سياج مغلقٍ يفرضه النظام الحاكم. سياسة المعيار لها سلطة السلب التام إزاء تغليب أية فئة أو طبقة على أخرى، بمعنى أنه لكي يحقق المجال ذاته عليه أن يسلب غيره (الذي يناقض عموميته وتنوعه وحقوقه ومكتسباته). فالنظام السياسي لن يستوفي أية شروط يخصصها المجال العام وإن انطبقت عليه. وستمثل السلطة نمط العجز السائد وليست القوة المنتظرة. لأن الذي ينتج أية سلطة عامة واضعاً إياها في حالة اختبار- أو هكذا يفترض- هي إرادةٌ جمعيةٌ لا تنحاز إلي السلطة بالضرورة.

بالتوازي تتجسد قوة المجال في معايير تتفلت من أي انغلاق ومن أي تطابق معها. أي هي نقصان مزدوج نحو الطلب المباشر لأجل تحقيق الأهداف المبتغاة لمجتمع مليء بالاختلافات فكراً وفعلاً. والدليل أن الأنظمة السياسية تتغير وتتبدل في إطار ما تحققه للمجتمعات من عدمه. والمعايير تعنى أن النموذج المتصور لمطالب الحالة الإنسانية هو نموذج يتميز بصلاحية زمنية فقط. لأنَّ المجتمعات مليئة بكل الأطياف والمذاهب والأفكار والأيديولوجيات وتقتضي المعايير الأخذ بهذا الزخم الحي. فالمعيار من طبيعة ما يريده الناس ويسبقهم نحو المستقبل. وما النظام السياسي (أو أي نظام) إلاَّ إمكانية نسبية لأوضاع غير قابلة للاختزال Irreducible.

والمعيارية تستجيب لمسألة مهمة كالتالي: كيف يمكن أن يعبر أي نظام سياسي عن تطلعات شعبه دون إقصاء؟ وهل الحق في الوجود المختلف يعد أكبر من أية قوة ولو كانت هيكل الدولة؟ من ثم تكون الأسئلة ناقدة بالدرجة الأولى. وربما لا تنتظر الحالة السياسية حتى يرتكب النظام الحاكم أخطاءً متكررةً. لأن الطابع المعياري ينقض ممارسات الأنظمة ويلقي بثغراتها على قارعة الحياة العامة. وهذا هو السر وراء تغيُر الأنظمة من وقتٍ لآخر لمجرد أنها لم تكن على مستوى التطلعات الشعبية. والديمقراطية من تلك الجهة تلبي فقط استجابة السياسة لإمكانيات تالية ضمن مرحلة مختلفة. الديمقراطية هي الصورة الأقرب لحقائق أي مجال عام. بطريقة واضحة هي "أفضل أسوأ " الحلول للتعبير عن معايير الحياة العامة بمضمونها الثري، أي هي صورة مرنة وباستطاعة المجال إدخال تطورات عليها بحسب خصوصية المجتمعات.

ثانياً: الرفض:

ليس الرفض قرارا تتخذه الجماهير إزاء نظام سياسي ما ولا إزاء ممارسات تمس حياتها. وبخاصة أن القرار يعتبر أخر مرحلة لعمليات من المعرفة والتفكير والحوار والمناقشة والتواصل وتكوين الآراء العامة. الرفض عبارة عن وعي قائم على تنوير العقول وتوافر الشفافية والحرية اللتان تتيحان التعبير والنقد الثوري.

وتتناسب قوة المجال العام في هذه النقطة طردياً مع زيادة درجة الوعي. فالأخير ليس صعيداً نظرياً لكنه " وعي عضوي " بطريقة انطونيو جرامشي(المثقف العضوي). أيضاً هذا الوعي تاريخي ويتميز بالقدرة على الفعل الذي يتسق مع معيارية المجال العام، بحيث ينخرط الفرد في أنشطة عملية كاشفةٍ وأنْ يكون وجوده السياسي جزءاً من الحركة اليومية.

ونظراً للتباين الذي تحرسه السلطة وتتلاعب به بين الغايات والوقائع، فلسان الحال والمآل سيمثل علامة استفهام حول الأوضاع السياسية. وإذا كانت الديمقراطية تبلور الرفض عبر صناديق الاقتراع، فإن آلياتها هي تطبيق فاعل لمنطق الرفض على نحو آمن. فالناخب يذهب ليرفض سياسات بعينها، لكنه أيضاً يمارس إنسانيته التي تعمل وفقاً للقانون الأكثر عمومية.

الرفض عبارة عن توجهات وآراء ومشروعات تحمل إمكانية التأثير في الواقع بكل تراكمه. فالمواطنون بتنوعهم لديهم إمكانيات متاحة من الرفض. ذلك بحكم كونهم أعضاء فاعلين في السياق العام، وهم دوما قادرين على فرز المواقف ونقد الآراء. ونتيجة الوعي الذي يتوافر لدى الأفراد سيكونون جزءاً من المشهد سلباً وإيجاباً.

والرفض من تلك الزاوية قوة حرة للمجال العام قادرة على إعادة تشكيله، وهو تلقائياً سيكون الإجابة المعمول بها إزاء أية انحرافاتٍ. وفي الغالب سيطرح البدائل المتاحة وصولاً إلى الأفضل. وإذا كان النظام السياسي يهتم بتكريس سلطته فإن مجالاً عاماً بإمكانه أن يساءل الوضع من جذوره. والخطورة المحدقة: أنَّ السياسيين يندمجون في حالة من الحضور الأعمى blind presence للسلطة، فيفقدون إحساسهم بحركة الواقع. السلطة عادة هي حاجز الصوت الذي يحافظ على الأوضاع السائدة في المجتمعات. وإليها ينتمي الخطاب وأنماط العزل وأساليب القبول الاجتماعي. لكنها قد تصيب أصحابها بعدم القدرة على التمييز والبلاهة إمام خطورة الأحداث كأنها مخدر موضعي قوي التأثير.

ثالثاً: التنوع:

سياسياً ليس التنوع صيغة رياضية تفيد جمع الأفراد إلى بعضهم البعض كأنهم أحجار، لكن التنوع حالة تعبر عن الأفراد والجماعات والمذاهب والثقافات كما هي دون نقصان. فضلاً عن أنَّ تلك الأشياء لا تُجمع لكونه منطوية على خصوصية تثري أي مجال عام.

ولنا أنْ ندعها عناصر حرة طليقة إلاَّ ما يفيد التواصل المشترك ويحقق ثراء التنوع إلى مداه الأبعد. والسلطة التي تحاول جمعاً حسابيا إنما تنسى شيئاً مهماً: أنَّ التنوع هو الأصل في القضايا المشتركة، وأن القضاء عليه تحت سياج شامل يجعل من المجتمع كهفاً لا خروج منه.

ولذلك ما لم تجل كل التوجهات والعقائد مكانها الكامل متمثلة كما هي فلن يحقق المجال العام وجوده. والمبررات هنا غير منطقية لأن التبرير يعني مساءلة شيء لا ينبغي مساءلته. أي أن التنوع كذلك لأن المجال العام هو التنوع ذاته، والتبرير سيتم بالتبرير كتحصيل حاصل، لأنَّ الوضع برمته هو وضع إنساني. إذن المجال العام بوصفه إنسانياً غير قابل للتبرير. ولنتابع كون التنوع طبيعياً بالدرجة الأولى، أي هو يختلف في ذاته بحكم تنوع البشر. وما يحافظ عليه هو هذا الاتفاق الضمني حول الاعتراف المتبادل بالاختلاف، لكن لا يحُول ذلك دون الالتقاء لدى المصالح المشتركة بين أطياف المجتمع.

رابعاً: الاختلاف:

وهو يشكل طبيعة التنوع الإجمالي بمعناه السابق. بصيغة أخرى يعد الاختلاف عملية إنتاج لزخم الحياة العامة. وما لم يكن راسخاً في جميع الجوانب: الحياة، الثقافة، المذاهب، الأيديولوجيات، الديانات، الأفعال، فلن يأخذ المجال العام أسمه الفعلي.

ليس الاختلاف بين عناصر الشعوب وسيلة ولا خطوة مرحلية، لكنه أساس بنائي، هو جذور داخل نسيج التنوع البشري. وكل تطور وكل طرح لبدائل إنما يرتكز زمنياً على الاختلافات. وهو الذي يترك المجال العام عمومياً بهذا الوصف الذي يكاد يكون مطلقاً. إن وجود الأطياف المتباينة داخل المجال العام ليس مصادفة ولا هو غطاء سطحي. وهذا يعني أن تكوين المجال سيظل متنوعاً مهما حاولت الأنظمة السياسية حجبه في فترات الاستبداد.

ويأخذ الاختلاف شكل الحياة وتنوعها كموقف ايجابي هذه المرة. أي أن المجال العام ما عليه إلاَّ أن يجسد تباينها إلى حد التناقض. والمفارقة أنَّه كمجال سياسي لن يستطيع رغم الرؤى والمواقف المشتركة أن يخفف من حدة الاختلافات، ورغم ذلك هو أمر مطلوب حتى يتطور الوضع إلى الأفضل. وهذا يشير إلى كون أي اختلاف وقوداً لمزيد من النظر في الأحوال الجارية وعدم تمكين أية سلطة من المكوث دون خلخلة.

وخطأ السلطة القائمة أنْ تفرض نوعاً من وحدة المكونات زعماً بضرورة الاتفاق، وهذا الأمر سيكون مصيره الفشل في النهاية، لأنَّه ليس مطلوباً أن يصبح الناس نسخاً مشوهة من بعضهم البعض، كما أنه من المستحيل ضم الاختلافات تحت سقف واحد. إن المجال العام هنا قبول ضمني لتبادل الآراء والتسليم بالحقوق الإنسانية بحيث يتيح للكل التعبير عن وجوده دون حواجز. وبالوقت نفسه فإن فرض تمط واحد من الوجود ليس فقط إهداراً لقيمة التنوع بل يمثل خرافة.

خامساً: الاستمرارية:

لا يوجد مجال عام غير مفتوح على فعل الزمن. وهو فعل تطوري بالأساس. من ثم كانت الاستمرارية هي الطريق الذي يواصل دفع المجال نحو أهدافه. لأن الاختلاف لا يسمح بركود سياسي دون تحريك دفة التغيير. وهذا ما يجعل الاستمرارية عملاً مقصوداً على نحو جمعي. ليس يقطعه الناس بمفردهم بل لكونهم متنوعين فهم يرمون إلى ما هو قادم.

وإذا أردنا صيغة للاستمرارية فهي الاختلافات في التنوع غير القابل للاختزال. مما يكشف طبيعة الأنظمة السياسة ويدفع المجال العام إلى البحث عن نظام آخر أقرب إلى ما يريد. وهذا مؤداه:  وجود قوة كامنة في صلب التنوع الإنساني بالمفهوم السابق، ولنلاحظ أن أغلب أحداث الربيع العربي كما وقعت كانت نتيجة الصور الذهنية لتنوع مجتمعاته. فالفاعلون يريدون استمرارية تخص تحرير المجال العام من الاستبداد والديكتاتورية. ونظراً لأن المستقبل حاضراً فلن تغلق الطرق المؤدية إلى الاختلاف الذي هو وقود الاستمرار.

صحيح يمكن أن يتباطأ المجال العام في إيقاع حركته وقد يتقلص، غير أنه سينفض عن نفسه غبار، ولن يكل من فتح آفاق أخرى نتيجة العصر الذي يعيشه. فالتنوع الذي يفعل أفعاله بالداخل سرعان ما يلفت النظر إلى وجود مسارات أخرى للسياسة والمعرفة والتاريخ، وذلك شريطة توافر الوعي الجمعي الناضج. وهو وعي ناقد، متمرد بالضرورة وإن لم يكن ليبدو كذلك للوهلة الأولى.

سادساً: عدم القابلية للتوظيف:

يصعب استعمال المجال العام لأغراض خاصةٍ تحت قهر التسلط وعنف الدولة طوال الوقت. وبالآن ذاته ينبغي الحذر اليقظ من طبيعة التوظيف إنْ وُجد. لكون المجال بيئة سياسية خصبة لفوضى شاملة أول ضحاياها النظام الحاكم. في جميع الأنظمة الديكتاتورية قد تتبني السلطة أيديولوجيا ومصالح للسيطرة على المجتمعات، إلاَّ أن حالة التنوع والاختلاف لن تصمت طويلاً. فرغم اللعب على الشحن الأيديولوجي لكن نهايته معروفة، إذ يؤدي إلى سيادة النمط الواحد مما ينذر بانفجار الثورة من أقرب نقطة ممكنة.

وهنا تكمن القوة في الوعي الفارز للموقف والأفعال، ولذلك تحاول الأنظمة الديكتاتورية قمع الوعي تحت بند الحفاظ على هيبة الدولة والخوف من الفوضى. والأغرب أن يتحول القمع أو التوظيف إلى خاصيتين تنضمان لصالح المجال العام. فالواقع سيسرع بانفجار الأوضاع كما رأينا في بعض مجتمعات الربيع العربي على ما ذكرت. وهذا يصب تاريخياً لصالح المجال لا ضده، لأن أي نظام لا يمكنه تجاهل أسباب انفجار الأوضاع. من قبل.

والقوة أيضاً في عدم التمكن إطلاقاً من عنق الإنسان العمومي بالمعنى السابق. وبالطبع هناك مناطق ضعف وثغرات، لكنها هي نفسها مناطق القابلة للتغير. ففي المجال العام تصبح السلبيات دلائل على أن الأوضاع الآسنة لن تدوم.

سابعاً: فضاء متخيل:

المجال العام ليس حيزاً مكانياً معروف الحدود والأشكال، لكنه فضاء مرن بحكم اختلافاته وتنوعه. والخيال هو القوة الوفيرة التي تتحقق نتيجة فائض الحياة الإنسانية، نتيجة سيولة الفكر وسيرورة الوعي، إذ يرسم آفاق الزمن القادم مع الآمال المطروحة لواقع أفضل. وهو جانب رحب تلتقي لديه أخيلة الأفراد والجماعات دون أن تندمج في هوية واحدة.

إن الخيال في هذا المجال ليس آلية ولا مجرد حشو وهمي للأدمغة، لكنه فعل على صعيد القوة، بل هو إحدى القوى الكامنة في نسيج المجال العام وتحولاته. وربما الخيال في إجماله غير متعين بإطار صارم، فمن الصعوبة بمكان التحدث عن الخيال الاجتماعي أو عن الخيال السياسي سوى أن هذين الجانبين متوافران بإدهاش في الوجود المؤول لكل مجال عام. لكونه يشد التطلعات إلى آفاق جديدة كما يترقبها الفاعلون الاجتماعيون.

ودون شك فإنَّ الخيال يترك آثاره البعيدة فيما يسكن الواقع أحياناً، لأنه بمثابة منتج الصور المدهشة التي ترسم للحياة بشكل تلقائي. وفي عصور الأزمات يشتعل الخيال كما لو لم يكن من قبل، لأنَّ العلاقة طردية بين الاستبداد وبين تفتق الخيال عن إمكانيات غير معهودة. وبالتالي سيكون الخيال منفذاً لتصورات جديدة وطريفة تماماً- كما يقول تشارلز تايلور  - حيث يتبلور المجال العام على هيئة صور وسرديات وقصص تحمل آفاق مشتركة بين الناس، وكيف يتصورون حياتهم وأهم الآمال المعقودة عليها بخلاف قيود الواقع.

وأخيراً... ربما تتجمع المعالم السابقة لتشكل ثورة تحت الرماد في عصور الانحطاط السياسي والخنوع والغسق الإنساني. ولو تشمم الحاكم المستبد بعضاً منها فقط، لأيقظت هواجسه الدفينة كأنَّه سيزيف يحمل صخرة المصير المتدحرجة دون تثبيتها بالأعلى. وهي التي ستدهسه مراراً تمهيداً لرفعها كرة أخرى. ومع ذلك لم يتعلم ديكتاتور ولا طاغية، ولم يرتدع نظام سياسي قامع للمجال العام إزاء ملهاته الساخرة حتى يرى بأم عينه.

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم