صحيفة المثقف

الأسطورة في الشعر وتمثُّلاتها الواقعيّة.. قصيدة: يتهادى حُلماً لماجد الغرباوي أنموذجاً

يطرح نص الشاعر: ماجد الغرباوي مقولته انطلاقاً من الواقع الذي يبدو مثالاً يستقي  الشاعر منه معطيات قراءة بصرية تنعكس في لغته التي تتمرأى أبعاد التجربة بما فيها من آمال وآلام، وإذا  كان الأدب بشكل عام يبني اشتراط رؤيته بما يستطيع التعبير عنه؛ فإن الشعر يبدو وفق هذا الفهم أكثر قدرة على نقل الواقع، وتجلية إرهاصاته، ويظهر في شعر: ماجد الغرباوي  أنَّ النص الشعري يجسّد تمثلات الواقع وفق بعدين بعد الواقع الحقيقي، وبعد الواقع المثال، وهو ما يتبدّى في قصيدته الموسومة بــ: (يتهادى حُلماً) التي يعلن فيها العنوان عن أولى تبديات تلك العلاقة في بعدي الواقع المثال، الواقع الحقيقي، فقد جاء تريب العنوان على النمط الفعلي، وهذا البناء يرمي إلى تأكيد الحركة التي تتولّد عبر صيغة الزمن للفعل الحاضر يتهادى، وما يحمل هذا الفعل في بنيته الصرفية من إيحاءات دالة على الحركة التي تتشكّل وفق نمط يقوم على التدرّج والمتابعة وهو ما يتساوق دلالياً مع حالة الارتقاء التي تستبطن دال (حلماً)، والحلم هنا دال تعبيري على العلو، ورغبة في تحقيق مأمول بعيد المنال .وبهذا يُؤسّس العنوان لعلاقاته البانية للمتن في السياق النصي الذي يبدأ بالحالية يقول:

نافرةً هوتْ زنابقُ البحرِ

توقاً الى رَعشةِ اندهاشٍ

سَرَقَتها آلهةُ النارِ

فَطافَتْ بها سبعةً ..

تَتَهجد ...

تُرتّـلُ قداساً مكتومةً أنفاسهُ

وتَطوفُ حولَ مَدارٍ

مشدودٍ لذلك الفجر

لأولَ يومٍ تَمايلتْ فيه الريحُ

تُشاكسُ دَمدَمات المَطر

وتُدندنُ أغنياتٍ مهمَلةً

لا تُداعبُ زَغبَ العَصافير

يكشف عن  مثال الواقع  والواقع المثال؛ فمثال الواقع  يتمظهر بدوال: (البحر، النار، المطر، الريح، العصافير، جاءت هذه الألفاظ واقعية مرتبطة بالحالة الحسية للإنسان؛ فهي مما يرى ويُسمع) فيما يتجلى واقع المثال بدوال: (توق، اندهاش، طافت، تتهجد، الفجر، عشة، ترتل، قداس،) فهي ألفاظ ترتبط بالجانب المعنوي للإنسان ومشاعره السامية ، وفي هذا الجمع بين طرفي الواقع والمثال يبدو النص الشعري مرتهناً للحظة إبداعه التي تتشوّف إلى رؤية خاصة تُمكّن من الجمع بين الواقعين في إطار العاطفة التي تجمع الشاعر بالمرأة الحبيبة يُماهي بين الجسد والروح في لحظة توهّج عاطفي:

يبدو الواقع المثال والمثال الواقع واقعاً يمازج فيه الشاعر بين الممكن والمستحيل، والأمنية والحقيقة، وهو ما يتكشَّف بإظهاراته اللغوية التي جاءت في الزمن الحاضر عبر ترداد أربعة أفعال: (يتوهَّج، يُغازل، تراود، تُطارد) وإحالات هذه الأفعال غير خافية في دلالتها الزمنية التي تعني الاستمرارية في الحدث المستقبلي، وعلى الحركة المتنامية على المستويين الحسي الانفعالي  ولنتأمل قول الشاعر:

أَغدو وأنا المُتَيمُ ... شفقاً

يَتَوهجُ فوقَ شَفَتَيكِ

يُحيل الفعل الأول:  يتوهَّج على التألق والإشعاع، وإضفاء النور على المدى المؤطّر للحالة الموصوفة، وفي قوله:  حينما يُغازلُ دفؤكِ لهاثَ أنفاسي نلحظ أنَّ الفعل يُغازل يشير إلى اللغة، (كلام الحب)، وهذا الكلام هو من أجمل أنواع الحكي؛ لأنه من أكثر الفنون جاذبية للإنسان،وأكثرها قدرةً على منح المتحدّث طاقة خلَّاقةً مُضافةً، إنها تعبير عن تشظّي الدلالات القادرة على تطييف ألوان اللغة بإشاراتها الرامزة التي تنهض باللغة وفق مستويات من التشكيل الذي ينحرف عن مسارات اللغة بمواضعاتها المعجمية المألوفة إلى انزياحات تُسهم في توليد لغةٍ من اللغة:

تُراودُ أَحلامي جَمراتُ شَوقٍ

وحَفنةُ آهاتٍ تُطاردُ ظِلاً

يُسابقُ البَنَفسَجَ عطرُهُ

إنَّها لغة تنداح في مساقات لا متناهية من الرؤى والأخيلة التي تتفتّق عبر موشور رؤيا الباصرة والبصيرة، وقدِ اقتنصتْ منَ التَّزامن الحسيّ عبر تبادل وظائف الحواس، وأدوارها تقنيةً أسلوبيَّة فالبنفسج المرئي بالبصر يسبق رائحته، وهي من حاسة الشمّ، وحفنة الآهات، وهي من دائرة الصوت، وتقع في حيز حاسة السمع تطارد الظل، وهو من معطيات حاسة  البصر .

إنَّه الواقع المثال الذي يُحلّق الشاعر في آفاقه عبر مرجعية لغوية مستعادة على شريط الذاكرة التاريخية، وتراثية الحالة الواصفة، إذْ يستعيد عيون المها التي ذكرها الشاعر: علي بن الجهم  باستهلال قصيدة له:[1]

عيون المها بين الرصافة والجسر      جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

" ضاحكةً عيونُ المَها

تُلامسُ شغافَ قلبٍ

يَسهو في مِحرابهِ

يتبتلُ ساعةً وأخرى

يَعكفُ "

ترمز مرجعية تمّوز أو دموزي في الواقع المثال إلى الأساطير السومرية،، وهو إله الزراعة والرعاة والخصب، وتُشير الأسطورة إلى أنَ تمّوز أو دموزي هو خامس ملوك مدينة باد تييرا قبل الطوفان، وقد اقترن بفصل الربيع، ونمو  النباتات وإله الرعاة، وتروي الأسطورة أنَّ عشتار: (إلهة الحب والحرب) أحبَّتْه ثمَّ قتلته وأعادتْهُ إلى الحياة، وبهذا أصبح يُجسّد انبعاث الطبيعة في فصل الربيع، [2] " وتعتقد شعوب الشرق القديمة أنه مات في الصيف نظراً لجفاف الأرض، وزوال الخصب، ولهذا يُعلن الحداد في سومر على وفاة دموزي في شهر (تمّوز) الذي يقع في منتصف فصل الصيف؛ وتُشير القصيدة السومرية إلى المنافسة بين دموزي والفلاح أنكيمدو  لكسب ودّ عشتار التي فضّلت تمّوز في نهاية المطاف، وتنتهي القصة برغبتها بزيارة العالم السفلي، وتعرضها للموت هناك بمكيدة أختها التي تقبل بإحيائها بعد تدخّل إنكي  إله الحكمة والذكاء والحِرف ، وتوسّطه الذي ينتهي بإحيائها وإعادتها إلى عالمها بشرط  إيجاد بديل لها يحلُّ محلها في العالم السفلي، وهو ما وجدته في تمّوز الذي وجدته سعيداً بغيابها، وقد جلس على كرسيها ما أثار غضبها، ودفع بها إلى إنزاله مكانها إلى العالم السفلي، غير أنها تعود وتُشفق عليه؛ فتمنحه فرصة العودة إلى العالم الحي كل سنة مرة، وهكذا تتناوب دورة الطبيعة والفصول حسب الأسطورة بعودة تموز أو نزوله إلى العالم السفلي .

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنَّ أسطورة تمّوز قد حظيت باهتمام الشعراء كثيراً، ويأتي الشاعر: بدر شاكر السيّاب في طليعة شعراء الحداثة العرب احتفاءً بتوظيف الأسطورة التموزية إلى جانب الشاعر السوري أحمد علي سعيد إسبر  الذي لقَّب نفسه بأدونيس، وهو الاسم الإغريقي لـ: (تمّوز) في قصيدته البعث والرماد [3]  حتى إنه سُمّي به . وقد نوّع الشعراء في تكنيك استخدامهم الأساطير ما بين الرمز العام العابر، والرمز المستثمر للمغزى: " لما تتصف به الأسطورة من حيويّة قادرة على إكساب الشاعر مجالاً أوسع  للتعبير؛ ليُفصح عمّا يجول في ذهنه من فكر، وما يعتمل في نفسه من رؤى وأفكار في إطار جمالي، يُحلّق بالنصّ الشعري بعيداً عن التقريرية والسرد والمباشرة، ويعصم نفسه منَ المساءلة،  ويتجنّب أذى المتابعة  . ووفق هذا الوعي للأسطورة؛ فإنَّ إفادة الشعراء من تلك الأساطير تجعلنا نتلمَّس المنابع الأصلية لإنسانيتنا، إذْ إنهم ربطوا ماضي الإنسان بحاضره في حيويّة تحفّل بالتدّفق، وتتخطّى العادي؛ لتقيم علاقة مع الأبدي ". [4]

وهو ما يُشكّل علامةً فارقةً في نمطية التكنيك التي لجأ إليها الشاعر الحديث الذي   " يفترق عن الشاعر الكلاسيكي في استخدام الأسطورة؛ فالشاعر الكلاسيكي استخدمها لمجرد مغزاها الذاتي، أو كلصق استعاري في أدنى مراتبه، بينما نجد الشاعر الحديث يستخدم الأسطورة والدلالة الميثولوجية كنوع من التوحّد بين الرمز الذي تهيّئه الأسطورة وبين ما يرمز إليه " كما أنّ استغلال أسطورة تموز في الشعر العربي الحديث يُعدّ من أجرأ المواقف الثورية فيه، وأبعدها آثاراً حتى اليوم؛ لأنّها تٌؤسَّس على  استعادة للرموز الوثنية، وتوظّفها في مفهوماتها الإشارية للتعبير عن أوضاع الإنسان العربي في هذا العصر، أضف إلى ذلك أنَّ لهذه الأسطورة جاذبية خاصَّة، لأنّها تصل بين الإنسان والطبيعة، وحركة الفصول وتناوُب الخصب والجدب"[5]،

أما في المثال الواقع؛ فإنَّ لتموز ارتباطه بالزمن الذي يُحيل على استيلاء داعش على بعض مدن  العراق، وإعلان البغدادي نفسه خليفة للمسلمين في دولته الجديدة، وكان ذلك بتاريخ 29 يوليو 2014 م . وهو ما يقابل تسميته تموز في بلاد الشام والعراق،

كما يرتبط  الواقع المثال بالزمن الماضي الذي لا يُمكن أن يعود إلا بالذكرى،آية  ذلك أننا  نجد أفعال الحاضر التي احتشدت في لحظة الذكرى بكثافة: (يُلامس، يتبتل، يسهو، يعكف، يُرتّل) جاءت مُكتنزةً بإلماحاتها التعبيرية الفائضة بتجليات السموّ والتجلّي والتلّذذ، وسرعان ما تنداح في مثال الواقع الذي يُغيّر تلك الحالة  في واقعيّة المشهد الذي يُرجع الشاعر إلى أرض مثاله المُشاهَد، إذْ يبقى الواقع المثال مُجرّد قراءة مُستعادة يقوم بها الشاعر، وهو:

يُرتّلُ آياتٍ ..

مرَ بِها طيفُكِ ساعةَ سحرٍ

فظلّتْ مَركونَةً في زوايا ذكرياتٍ

وبقايا أُمنياتٍ تَسربلتْ

ويقوى المثال الواقع بكلّ ما فيه من عتمة، وانسداد أفق؛ فيأتي:

حُزناً سَرمدياً

جادَ به تَموز

فما عادَ لنا فرحٌ

والموتُ يَنشرُ راياتَهُ السود

فوقَ سحابات بلدٍ خانتْ به

نفوسٌ أدمنتْ الغدر

وفي هذه النهاية تتبدّى لنا قصيدة السيّاب: "أغنية في شهر آب" التي يقول فيها: في شهر آب يمّوز يموت على الأفق وتغور دماه على الشفق في الكهف المظلم والظلماء " [6]

فأية أقدار تلك التي تُعيد الزمن في دورته ؟! وكأنَّ التاريخ يُعيد دورته الزمنية من جديد؛ ليلتقي تاريخ السيّاب وتاريخ الغرباوي في إطار المأساة الجامعة الدامعة .

ويُوحّد اللون الأسود تلك الثنائية: بين الواقع المثال، ومثال الواقع؛ ليُصبح واقعاً أوحد؛ فاللون الأسود في إحالته المرجعية يشير إلى الرايات السود التي ترمز إلى قيام الخلافة العباسية على أنقاض الدولة الأموية، وما في هذا التحوّل من تغيير للتاريخ، والمصير العربي في تلك الحقبة من الزمن، ويُشير تموز الواقع المثال إلى الأسطورة المرتبطة بـ دموزي أو تموز، وهو إله الخصب او اللون الأسود في إحالته النصية ترميز إلى شعار دولة الخلافة الإسلامية في بلاد الشام والعراق التي عُرِفتْ باختصار: (داعش) وهو ما حوّل مصير الدول التي وقعت تحت سيطرتها في تلك المدة من التاريخ، وجعلها تعيش واقعاً يُمثّل أسوأ حقبة في تاريخها ربّما ــ رغم أنَّ الخلافة الداعشية الزائلة لم تختلف كثيراً عن الخلافة الداعشية اللاحقة لها إلا بالتسمية، والتوصيف، واكتسابها شرعنة؛ فالخلافة التالية لخلافة الداعشية لم تختلفْ عنها بالممارسة الأدائية إلا من حيث المظهر، إذ استبدلت العمامة والعباءة والكوفية بالبنطال والقبعة الأجنبية، وعلى ما تأسَّس نجد القصيدة التي كُتبتْ عام 2016 م إنما كانت بوصلةً حدَّدت سمت رؤية ورؤيا الواقع من خلال الحقيقة والرغبات، ولذلك بدا الواقع مُتشظّياً بين واقعين يُجسّدان: واقع الحال البشري ، وواقع الخيال الشعري .

للاطلاع على القصيدة في المثقف

يتهادى حُلماً / ماجد الغرباوي

 

د. وليد العرفي

  ............................

هوامش

[1] ــ ديوان:علي بن الجهم، تح: خليل مردم بك، دار صادر، بيروت، ط 3، 1996 م  .

[2] ــ يُنظَر: موسوعة المورد: منير البعلبكي،  دار العلم للملايين، بيروت، 2005 م، ص 167.

[3] ــ الأعمال الشعرية الكاملة: أحمد علي سعيد إسبر (أدونيس)،ج 2، ديوان أغاني مهيار الدمشقي، دار العودة، بيروت، 1988، ص  331.

[4] ــ يُنظَر: لغة الشعر  ــ قراءة في الشعر العربي الحديث ــ : رجاء عيد، منشأة المعارف، 1998 م، ص 229.

[5] ــ يُنظر: اتّجاهات الشعر العربي المعاصر: إحسان عباس، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مايو / 1978 م،   ص 65.

[6] ــ  المجموعة الكاملة: بدر شاكر السيَّاب، دار العودة، بيروت، 1971 م،  1/ 328 .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم