صحيفة المثقف

النهايات المفتوحة قصيدة: (خلجات) للشاعر: عادل الحنظل أنموذجاً

وليد العرفي تتناول قصيدة الشاعر عادل الحنظل موضوعة الغربة والبعد عن الوطن، وطالما كانت الرحلة من الموضوعات الرئيسة في القصيدة العربية منذ شعر ما قبل الإسلام وليس انتهاء بالعصر الحديث ؛ فقد كانت موضوعة الرحلة من الأركان الرئيسة البانية في هندسة القصيدة العمودية التي انتهج الشعراء مسارها وفق نمطية لم يحيدوا عنها، وعدّوا الرحلة ركناً أساسيّاً تقوم عليه، وتُبنى على أساسه، وليس بعيداً عن الذهن أنَّ الرحلة كانت في تلك الحقبة من الزمن رحلة بحثٍ عن كلأ، وسعياً وراء مصادر المياه، وإمكانية الاستقرار.

ولم تتغيّرْ الدوافع كثيراً على الرغم من تباعد الأزمنة غير أنَّ الأسباب أصبحت أكثر، وأقسى وفي نص الشاعر عادل الحنظل

خلجات يقدّم العنوان مفتاح الدخول إلى النص فالدلالة المعجمية للفظة تُشير إلى تلك الغصّة التي يشعر بها الإنسان في غربته .

ساءَلْتُ العطّار

عنْ نبتٍ يشفي داءَ التَّرحالْ

ويزيلُ الغربَةَ في النفسِ

ويطَرّي يَبَسَ الأحزان

أخبَرَني

ما عادتْ في بَلَدي أمكِنَةٌ

يهواها الزرعُ .. أو ماء

حتَّى الرّيح

تحملُ أدرانا .. وترابا

تذروهُ بأعين مَنْ عشقوا

في الليلِ مناجاةَ الأقمار

تلك الغصة التي تحتاج للتعبير عنها إلى بوح يفترض وجود أذن تسمع، وقلب يصغي للشكوى، وهو ما يتبدّى بافتراض طرف آخر، ومن هنا يبدو استدعاء الشاعر للعطار بما تُحيل عليه دلالة التوصيف من إحالة مرجعية على مأثور المثل الذي يقول لا يُصلح العطّار ما أفسد الدهر، وبهذا يظهر النص أول تلك الغصات التي تكشف عن استحالة التغيير، وهو ما يكشف عنه الحقل الدلالي للألفاظ التي اتَّشحت بالقتامة، أدران، تراب، تذروه، وهي ألفاظ دالة على القفر الذي بدأ مشهده بإخبار العطار للشاعر عن خلو البلد من أماكن الخصب، والمياه التي تدل على الحياة في دلالتها الأخيرة، "وجعلنا من الماء كل شي حيٍّ "، وعلى الرغم من أنَّ لغة القصيدة سعت باتّجاه البوح والتعبير أكثر من انشغالها بالتصوير إلا أنَّها لم تغفل اقتناص اللحظة التي جاءت غايةً في الحيوية، ومكتنزةً بقدرتها البلاغية التي تجسّدت في هذا التركيب اللغوي: " ويطَرّي يَبَسَ الأحزان" التي منحت الأحزان حيزاً فيزيائياً، وهيئةً تملأ الفراغ الذي يعتمل في نفس المغترب، وقدْ نقلت الأحزان من مجال المشاعر والأحاسيس إلى مجال المدركات الحسيَّة الملموسة .

 وتتكشَّف الخلجة الأولى في قفلة المقطع بما تحمله الريح للعشاق الذين يناجون القمر من تراب وأدران تذروها في عيونهم، وهنا تبدو مفارقة المشهد بإحالته على ما هو غير متوقع بين مناجاة العشاق للقمر في الليل، وفعل الرياح وما تحمله لهم .

مسحوا عنْ وَردِكَ يا وطني

قَطَراتِ ندى الأصباح

خدشوا في الليلِ حياءَ الصَّمت

جعلوا أُمّا تبكي

أختا تندبُ مَن راح

وأبا ما عادتْ في عينيه

غيرُ خيوطِ العزّةِ

تنسجُ في وهنٍ

سترا يخفي جبلَ الاحزان

سرقوا يا وطني

منكَ صلاةَ الفقراء

ذبحوا ايمانَكَ قرباناً

لعبادةِ أوثانِ الغُرَباء

وفي المقطع الثاني الذي نهض على خلجة جديدة تمثَّلتْ بفعل الأحداث التي حصلت في هذا الوطن، وما جرته من متغيرات بفعل مقصود، ويدٍ متعمدة، وهو ما جاء بدلالة الضمير واو الجماعة الذي أسند إليه أفعال: (مسح، خدش، ذبح، سرق ) وإنَّ تأمل هذه الأفعال يكشف بجلاء عن مدى الأذى، وهول الفعل الذي ألحقه هؤلاء بالوطن، وفي العلاقات الرابطة بين الفعل، وما أحدث فيه أو عليه ثمة إضاءات أخرى لتلك المآسي فنلاحظ: أنَّ العلاقات بين الأفعال وما أحدثت فيهم جاءت بصورة تجسيدية ما يفيد بتعميق المعنى فقد ارتبط الفعل مسح الذي يرمز إلى تجفيف السائل، أي بلوغ مرحلة الجفاف، والجفاف في دلالته الأخيرة يعني الذبول والموت، وفي الفعل خدش ثمة إشارة إلى مدى الألم الناتج عن الخدش لحياء الصمت، وهو دلالة واضحة عن مدى الانحلال الأخلاقي الذي جردهم من الشعور بالخجل من اقتراف أي فعل، وهذا ما جعلهم يبكون الأم والأخت والأب، وهؤلاء الثلاثة هم من أكثر من يجب إحاطتهم بالرعاية والمرحمة، وعندما تتقطع تلك الصلات، فإنَّ الإيمان بلا شك سيكون لدى هؤلاء محل ريبة وارتهان لغير ما فطرت عليه النفس السوية والفكر النبيل . 

وتوضيحاً للعلاقة بين الفعل وما وقع عليه نُبيّن ذلك بالجدول:

الفعل -  النوع  -  الحدث -   الرمزية -  المآل والدلالة الأخيرة

مسح   تجفيف      ندى      إزالة       ذبول

خدش  ألم          تبكي       أسى      حزن

سرق  عبادة     صلاة     كفر        شرك

ذبح    عقيدة     إيمان    إلحاد       ضلالة

 ففعل المسح الواقع على الندى يؤدي إلى جفاف مصدر الماء عنه، وهو ما يعني حالة انعدام الحياة والموت، وفي الفعل خدش ثمة حالة من القسوة الحاصلة بفعل تجاوز العُرف والأخلاق، وهو ما يُسبّب ألم أعز الناس ممن يتوجب على الإنسان احترامهم، وتوفير الحماية، وصون الكرامة، وغير خاف ما تحمله مقصدية كل من الفعلين: سرق و ذبح من إشارة على استشراء حالة المخالفة لدى هؤلاء، وما آلت إليه حالتهم من البطش، وتجاوز كل قوانين الشرائع، وتوصيات الأخلاق .

أنبأني

شيخُ الأديان

أنّ عمامَتَهُ

تحوي أسرارَ الكونِ

وخبايا الخلقِ

وتفاسيرَ كتاباتِ الإنسان

من آدمَ حتى الآن

يعرفُ أين هوى الجدُّ الأكبرُ

لمّا رَفَستهُ الى الأرض

أقدامُ الرحمن

حدّثني

أنّ علومَ الإنسِ وأخبارَ الجان

منْ تحتِ عباءَتِهِ

أخرجَها الكفّار

أنّ بهاءَ سماحتِهِ

تكشفُ كلّ الأقدار

تغفرُ ما فاتَ وصار

لمَ يا شيخُ إذنْ

في بلَدي

يُقتَلُ مَنْ قالَ لكمْ ..

لا

وفي المقطع الأخير يسرد الشاعر ما يمكن للشيخ بوصفه قارئاً للغيب، ومطَّلعاً على التاريخ الماضي، وما آلت إليه الأحداث في الزمن الحاضر، وأمام تلك الإحاطة بالعلوم، وتفسير مخبواءات الكون تأتي القفلة الصادمة بالسؤال الاستنكاري الذي يأتي على شكل خلجة الخلجات بالحرف: (لا) الذي جاء انتهاء يدلُّ على ابتداء، وأحال على فضاء مفتوح من الأسئلة التي لا تعرف أجوبة لها إلا بطرحها مزيداً من الأسئلة الشائكة بانتظار أجوبة معلّقة لا تبعث إلا على مزيد من الخلجات التي جاءت عنواناً رامزاً لكل ما ورد في النص من مفارقات ظلَّتْ صدى أصوات مبحوحة ، وخلجات أحزانٍ مفتوحة .

 

 د. وليد العرفي

....................

للاطلاع على القصيدة في المثقف

خلجات / عادل الحنظل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم