صحيفة المثقف

الأجيال الأربعة ونهاية الدولة لدى ابن خلدون

محمد الورداشيتحدث ابن خلدون في الفصل الخامس عشر من الباب الثاني في المقدمة عن أن نهاية الحسب والمجد تكون في أربعة أجيال، حيث الأول "بان للمجد عالم بما عاناه في بنائه، ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه" (ص155)، والثاني "مباشر له (لأبيه) فقد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له" (ص155)، ثم الثالث الذي يكون "حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد" (ص155)، وأخيرا الرابع الذي يخالف نهج أسلافه ويقلبه رأسا على عقب؛ لأنه اعتقد أن ما بناه أسلافه قبله "لم يكن بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا خلال" (ص 155- 166). وهكذا ينتهي المجد ويتلاشى حسب ابن خلدون، كما أن هذا التقهقر لا بد وأن يلحق بالدولة ضررا وخورا. إذن، كيف تكون أحوال الدولة في عهد كل من هؤلاء الأربعة؟

أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال يوجد في الفصل الرابع عشر من الباب الثاني وما سيأتي بعده. فمن خلال العودة إلى هذا الفصل الذي تحدث فيه ابن خلدون عن كون أعمار الدولة طبيعية كما الأشخاص، حيث إنه حدد عمرها في ثلاثة أجيال، ولكل جيل عمر أربعين سنة، ليكون عمر الدولة مائة وعشرين سنة. فالباني، أي الجيل الأول، يكون بداية عمر الدولة حيث "خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس" (ص195). والمباشر لأبيه، أي الجيل الثاني، حتى وإن حاول الحفاظ على مجد الدولة، فإنه سيكون مقصرا؛ لأن علاقته بالملك تحولت إلى تفنن في الترف والرفه، فانتقل بذلك "من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به" (ص195)، وهكذا إلى أن تضعف عصبيتهم ومن ثم ملكهم، ليأتي المقلد، وهو الجيل الثالث، ليضرب صفحا عن "عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، (ويفقد) حلاوة العز والعصبية... (ص196)، وبهذا الجيل يكون هرم الدولة وخرابها حسب ابن خلدون. لكنا نجد هنا أن هرم الدولة يمر بثلاثة أجيال، ومنه فما محل الهادم، أي الجيل الرابع، من هذه السلسلة؛ لأن عمر الدولة لا ينتهي بالضرورة عند الجيل الثالث دائما، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون حيث قال: "وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة وعشرين سنة على ما مر، ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلا إن عرض لها عارض آخر من فقدان المُطالب، فيكون الهرم حاصلا مستوليا والطالب لم يحضرها" (ص196). ومنه، فإنه لم يرد ذكر للهادم الذي يمثل الجيل الرابع في هذا الفصل إلا من باب كونه نهاية وانقراض الحسب فقط، أي أن ابن خلدون حصر عمر الدول في ثلاثة أجيال بتقريب قبله أو بعده، ومن ثم، يمكننا القول لئن كان الهادم يمثل الجيل الرابع الذي تكون به نهاية المجد والحسب والعصبية والبداوة، فإننا نقول إن هرم الدولة في الجيل الثالث (المقلد)، وموتها وانقراضها يكون في الجيل الرابع (الهادم). ولعل دور هذا الجيل الرابع في موت الدولة قد تحدث عنه ابن خلدون في الفصل السابع عشر الذي تناول فيه أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها من طور لآخر، وقد حدد هذه الأطوار في خمسة. ومنه، سنحاول ربط كل طور وأحواله بجيل من الأجيال الأربعة التي بها ينتهي مجد الدولة وحسبها، وربما عمرها أيضا.

فالباني للمجد يقابل الطور الأول حيث يكون "الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة في هذا الطور...إلخ (ص200). ففي هذا الطور يحصل الملك بعد التغلب الذي يحصل هو الآخر بالعصبية التي تكون: إما بالقرابة أو النسب الذي تكون به النعرة والاستماتة دون القريب، فتكون النتيجة بناء الدولة. كما أن شوكة العصبية تكون قوية، وللدولة هيبة أمام أعدائها. أما المباشر للملك، فإنه يقابل الطورين الثاني والثالث، وسبب زعمنا هذا هو ما أورده ابن خلدون في كون المباشر يحاول الحفاظ على ما بناه أبوه (انظر الصفحتين 155-156)؛ ففي الطور الثاني، يضيف المباشر من عندياته تبعا لما استجد في الحكم ومآرب النفس، فيستبد على قومه وينفرد دونهم بالملك، ويكبحهم عن التطاول في المساهمة حسب أبن خلدون، أي أن المباشر في هذا الطور يستبد بالملك ويزيح أهل عصبيته عنه؛ لأنه يستعين على أمره بالموالي والمستخدَمين. وفي الطور الثالث، وبعدما يستقر له الملك ويكون في مأمن من أهل عصبيته، يقبل على حياة الترف والتفنن في المأكل والمشرب والمسكن، وهذا الطور هو "آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة؛ لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم بانون لعزهم، موضحون الطريق لمن سيأتي بعدهم" (ص201)، فحتى وإن كان هذا الطور نهاية للاستبداد فإنه يعد بداية الانتقال من البداوة إلى الحضارة حيث تكون نهاية الدولة حسب ابن خلدون. أما المقلد، فإنه يقابل الطور الرابع "طور القنوع والمسالمة (...) ويكون صاحب الدولة قانعا بما بنى أسلافه، ومقلدا لهم في آثارهم حذو النعل بالنعل" (ص201 بتصرف)، وهنا تعيش الدولة مرحلة السكون والجمود، أو المرحلة التي تسبق المرض المزمن الذي لا شفاء منه. ومرحلة  المرض المزمن تأتي مع الهادم الذي يقابل الطور الخامس حيث الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جمع أولوه في سبيل شهواته وملذاته، وهنا يستولي على الدولة الهرم والمرض المزمن الذي لا تبرأ منه. إذن، ما مصير الدولة بعد المرض؟ للجواب عن هذا السؤال سنحيل القارئ إلى الفصلين التاسع والأربعين، والخمسين (ص: 331-332). بناء على ما سبق، يمكن القول إن الدولة، عند ابن خلدون، تمر من أطوار وأجيال منذ ولادتها حتى موتها، وأمراضها متعددة، منها: الاستبداد والترف (الحضارة) والحجر...إلخ. كما أنها تخضع لدورة تاريخية: من البداوة إلى الحضارة إلى البداوة مجددا، وهذه الدورة ليست عودا أبديا، كما عند نيتشه، وإنما هي عوامل كثيرة تخضع لها الدولة، وتختلف أحوالها وأحوال ذويها من فترة تاريخية لأخرى، أو من طور إلى طور. ومنه، يمكننا أن نطرح الأسئلة التالية: في أي طور هي دول عالمنا المعاصر؟ وهل يمكننا أن ننظر إلى الحضارة الغربية الحديثة من زاوية الدورة التاريخية الخلدونية، علما أن هذا السؤال قد طرح وتمت مقارنته بنهاية الحضارة الغربية لدى نيتشه، لكنا نطرحه؛ لأن العوامل والظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية تغيرت عما عاش فيه ابن خلدون؟ وهل يقوم الاستبداد في التاريخ المعاصر على العصبية؟ وهل تسعفنا النظرية الخلدونية في إعادة قراءة تاريخنا المعاصر؟

هذه أسئلة تتبادر إلى أذهاننا ونحن نقرأ المقدمة؛ لأننا لا يمكن أن ننفكَّ عن همومنا الراهنة ونحن نقرأ تراثنا، كما أننا لا يمكن أن نسقط همومنا كلها على التراث ونطلب منه حلا لها، وإنما نحاول أن نقيس ما نعيشه الآن على ما قدمه عالِمنا الجليل.

 

محمد الورداشي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم