صحيفة المثقف

قراءة في كتاب: المنزع النقدي في شعر محمود درويش

فطنة بن ضاليللباحث جاسم جميل الطارشي

حظي شعر محمود درويش ولا يزال بالاهتمام المتزايد من قبل الدارسين والنقاد، فهو تجربة خصبة مولدة لا تنضب تمد الدارسين في كل حين وآن بما يطمحون إليه، ذلك أن الشعر على حد تعبير عبد المنعم تليمة، "معرفة جمالية قائمة في الطبيعة التي أخضعها البشر، والتي لم يخضعوها، كما أنه قائم في حياة الناس، وعلاقاتهم الاجتماعية، وفي حياة الأفراد النفسية والروحية"1. وشعرمحمود درويش يعبر في معانيه العميقة وفي شكله الجمالي عن الجماعي والخاص، إذ ينبثق من الرؤية الواقعية متجاوزا إياها إلى استشراف الرؤيا المستقبلية على مستوى الواقع والتجربة معا، ذلك أن محمود درويش شاعر ناقدا "والشاعر الناقد يعي أن الشاعر يتوسل بأداة الجماعة ليشكل موقفا عن الجماعة نفسها، فالقصيدة تسعى إلى الوجود (الشكل الجماعي) من خلال الموجود (الواقع اللغوي) وتفرد القصيدة مرهون بزلزلة منطق التوصيل، وتراث التشكيل في الآن ذاته"2.

هذا، ومن الدارسين الذين اهتموا بدراسة هذا الاتجاه في شعر محمود درويش الباحث جاسم جميل الطارشي في مؤلفه '' المنزع النقدي في شعر محمود درويش"3، وهي دراسة في أربعة فصول وثمانية مباحث، سبر خلالها الباحث غور تجربة محمود درويش الشعرية مبينا كيف تحدث الشعر عن الشعر وعن مفهومه وحده ووظيفته، واقفا على القضايا النقدية المكونة للمنزع النقدي عند محمود درويش.

وسنتناول هذه الدراسة  فنبين منطلقاتها، وكيف رصدت خصائص تجربة محمود درويش الشعرية من خلال؛النص وأزمات تشكله؛ وقضايا الشعر؛ وتجديد أفق انتظار القارئ؛ وتصنيف شعر محمود درويش حسب الرؤية النقدية .

1- منطلقات الدراسة

يؤسس الباحث لدراسته وتساؤلاته حول الموضوع بمنطلقات نقدية، عبر عنها تقديم الناقد محمد الهادي الطرابلسي للكتاب، ومقدمة الباحث، حيث يرى الدكتور محمد الهادي الطرابلسي أن الوعي النقدي مقوم من مقومات كل تجربة شعرية، فالشاعر مسكون بهاجس التغيير نحو الأفضل وهو يحمل الكلمة الأنقى لأن الشعر ابن توأمين "نفحة الشعر ولفحة النقد "، ,ان الوعي النقدي في الشعر تيارات تتجلى في مساءلة الفن من المفهوم إلى الوظيفة، مع منزلة المجتمع4، ويرى الباحث أن هذا الوعي هو ما يقدمه لنا الشاعر من تصورات حول رؤيته لتجربة التشكيل الشعري بين أدواته وحالاته ورؤاه5. وعلى هذه الدراسة أن تبين مدى إضافة الشاعر محمود درويش في شعره رؤى نقدية جديدة ، كما عليها أن تبين أسباب تردد هذه الظاهرة في شعر محمود درويش ، ويضيف الباحث أن المقصود بالنقد هنا "" النقد "الذي فيه معنى الوعي النقدي والرأي الضمني ، في الشعر مفهوما ووظيفة لا معنى النقد المنهجي"6.

إن تجربة محمود درويش الشعرية ذات خصوصية لأن صاحبها يرى أن " الشعر يقول عن الشعر أكثر مما تقول النظرية عن الشعر "7، مادام الشعر" قادرا على امتصاص التجارب السالفة وإعادة إنتاجها في شكل خطاب إبداعي أكثر متانة وقوة. لاسيما إذا كان هذا الخطاب شديد الصلة بشخصية صاحبه ...فالشعر ضربمن التصوف مادامت القصيدة سفرا في عوالم الروح بحثا عن نقطة الوصول"8. تلك النقطة التي يلتقي فيها المعرفي بالروحي في فضاءات و عوالم خاصة ، من أجل هذا سيستنطق الباحث النصوص الشعرية ويحلل بنياتها بهدف الوصول إلى القضايا النقدية التي تخبر عنها .

2- النص وأزمات تشكله

تعمق الدراسة البحث في حيثيات الإبداع ، فيرى الباحث أن الشاعر في انجاز نصه الشعري يمر بأزمتين دقيقتين:

الأولى: أزمة نفسية تعتريه لحظة الولادة، والثانية: أزمة نصية يعاني فيها من تطويع اللغة لحاجات التعبير،ويلتقيان معا في كل عملية إبداعية. ثم يكشف في شعر محمود درويش عن التعبير عن هذه اللحظات من خلال علاقة الشاعر باللغة والتجربة الوجدانية التي تكتنفها علاقة الغموض، قد يعبر عنها الشاعربالاستفهام كأسلوب مثلا، وتحوله إلى أزمة إيقاعية تكشف معاني الغموض والحيرة كما في نص لا تعتذر9، ثم من خلال معاناة الشاعر الوجودية من القلق والترقب والانتظار وتعبيره عن  ذلك لحظة الزمن الخاص الذي هو  زمن الشعر. لأن درويش "شاعر يخترق كل الأزمنة ليحسن اختيار زمنه الخاص"10. ويطرح الباحث السؤال كيف تبدأ عملية تشكل النص وكيف تتولد؟ ليستجلي أزمة النص في الإجابة عنه، فيشير إلى أن محمود درويش يشارك نزار قباني في سطوة الإيقاع، وأولويته عند تشكل النص وولادة القصيدة. يقول محمود درويش عن ولادة القصيدة : " تولد عبر الإيقاع ، أكتب السطر الأول ، ثم تتدفق القصيدة "11، ويرد الباحث أزمة تشكل النص، ومعاناة الشاعر في استلهام لغته، والتعبير عن تجربته، إلى إيمان الشاعر بانطواء اللغة على أصوات الآخرين ، حيث يقول :

" فتشت عن نفسي وجدت

أصوات الآخرين ".

ويضيف،

" ففي كل شاعر آلاف الشعراء"12 .

وإيمانه بطبيعة اللغة الشعرية، إذ ينتمي الشعر إلى عالم السماء والضباب والغياب والتجدد واللغة تنتمي إلى عالم الحس والمادة والثبات، وهما عالمان مختلفان .

من هنا يتبين للباحث دور الإيقاع وأولويته حيث عده الشاعر المولد الأول لتشكل النص، كما تبين له عجز الشاعر عن تطويع اللغة لحاجات التعبير إذ تتأبي في أغلب الأحيان عن التشكل والحضور.

3- قضايا الشعر

يقف الباحث على قضايا الشعر في تجربة محمود درويش بداية بتحديد مفهوم الشعر وانتهاء  باقتراح تجديد هذا المفهوم . فيجد أن "أجمل الشعر - عند محمود درويش- هو ما يغير مفهومنا للشعر"13. ذلك أن في تعريف الشعر وتحديده موته، فتجدد الشعر وانفتاحه على الممكن يحدد افق الشعر نفسه، ذلك أن حد الشعر متعلق بأمور هي:

- تعالي الشعر عن الحد والتعريف نظرا لتجدده، مما ينم عن أزمة أخرى هي امتداد لأزمة الإبداع والمخاض.

- الوظيفة الوجودية للشعر.

- تأرجح الذات الشاعرة أمام هذا الوضع بين الألم والأمل.

- تغلغل أزمة ماهية الشعر وقضاياه  في تضاعيف المنزع النقدي للشاعر.

ويقدم الباحث المقترح الجمالي لمفهوم الشعرية عند محمود درويش بتناوله التجربة ، من حيث؛ حوار الشعر و النثر، وشعرية  التناص، وصوفية الشعر، متتبعا مقوماتها في التجربة الشعرية، ففي حوار الشعر والنثر يقول درويش : '' أحب في الشعر عفوية النثر والصورة الخافية بلا قمر للبلاغة''14 حيث تحيل النثرية هنا على مستوى اللغة الشعرية المنفلتة على التعابير، ثم يضيف "هذا هو عملي الشعري، أي أن اكتب الوزن كأنه سرد، وأن أكتب النثر كأنه يغني هذه هي المعادلة، هذا هو الحوار بين الشعر والنثر"15. إن هذا التصور للشعرية، وعلاقة الشاعر بالواقع والتقاط التفاصيل والبحث عن المعنى، وعن الإيقاع الجديد، هو ما  يبعد تجربة درويش عن الرومانسية والإفراط في الغنائية. ويقول في التناص : " الإحالات التي أمارسها بوعي تام ، هي جزء أساسي من مشروعي الشعري ، انطلاقا من انه لا توجد كتابة تبدأ " الآن"...أو كتابة تبدأ من بياض"16. وعليه فالإبداع كتابة على كتابة . أما الصوفية في الشعر فتتجلى في كونه يتجاوز مظاهر العالم الواقع ، ويبحث عن الحقيقة ، حيث يستخدم اللغة استخداما غير معهود، تصبح معبرة عن أشياء مختلفة روحية ترتبط بالبعد اللانهائي في رحلة موسومة بالتيه والقلق مشرعة على المجهول والغياب ." إنهما معا - الشعر والتصوف - يصدران عن رؤية روحية للعالم ، رؤية إشراقية حدسية لا نهائية ، كما يتفقان في الرؤية ، يتفقان أيضا في الأسلوب .، والإيقاع ولغة الترميز."17وهي عند درويش محاولة اتصال مختلفة بالكون من خلال سعيها اللغوي العرفاني في بلوغ المغامرات الأخرى . فهي " السعي إلى نتاج شعري مختلف "18.

4- تجديد أفق انتظار القارئ

يتتبع الباحث في إنتاج محمود درويش ارتباط صورة القارئ بوظيفة الشاعر، والتحول الحاصل في الوظيفة، وفي صورة القارئ معا، وتجديد أفق الشعر، فيقدم هذا الارتباط في صورتين:

الأولى: صيغة تعاقد ترسم ملامح القارئ نتيجة نظرة الشاعر إلى العالم وموقفه منه، وهو موقف تحدده جماعة العنفوان والتحدي، وهذه علاقة تعاقد على النضال بين الشاعر وقارئه، ينتابها الغضب والثورة التي فرضت سهولة الرسالة وتداول معانيها.

الثانية: صورة متجددة متغيرة تابعة لتغيير وظيفة الشاعر، لأن تغيير وظيفة الشاعر فرض على القارئ لغة جديدة تخلت عن معيار التداول، فأصبحت وظيفة غامضة غريبة المضمون تبعا لانشغال الشاعر بقضايا أعمق وانعكاس ذلك على اللغة وعلى الرؤية الجديدة للوظيفة وللقضايا.

كما يجد الباحث أن وظيفة الشاعرعند محمود درويش تتمثل في وظيفة إديولوجية، يعبر خلالها الشاعر عن قضية الجماعة ومشروعها النضالي، ووظيفة فنية إنسانية تربط الإنسان بهمومه البسيطة يحتل فيها الخاص الداني محل الجماعي العام. يقول درويش: "اكتب إنسانيتي وسط الظلام والحصار"19.

وانطلاقا مما سبق،  يخلص البحث  إلى أن وظيفة الشاعر كما صورها درويش في شعره تحولت من شعر القضية إلى قضية الشعر، ويكشف عن دلائل هذا التحول في نماذج نصية جسدت أزمة الشاعر وحيرته بين الوظيفتين، ورصد الباحث ذلك في مخاض التحول، ولحظة الوعي في النصوص، والشكوى من صورة الشاعر القديمة التي تبتعد فيها الذات عن عالمها الخارجي وهمومها الإنسانية وأحلامها الخاصة، ثم البحث عن أفق جديد لإنسانية الشاعر وشعره والتحرر من الصورة النمطية، إلى صورة جديدة تبعا للوظيفة الجديدة، وهي اختيار الشاعر طريقة الإبداع المتجدد الذي يقتضي أن يكون الشاعر شخصا عاديا بعيدا عن صورة البطل و النبي والمخلص يقول :

" لن أكون كما أريد ولن أحب الأرض أكثر

أو أقل من القصيدة"20.

وظل محمود درويش يضيق بقراءة النقاد القائمة على وضع مقاييس خاصة بها، حيث يتحول الإبداع على إثرها إلى قوانيين ثابتة، وبدأ يرسم أفقا جديدا للشعر يعدل من خلاله أفق انتظار القارئ حاثا إياه على البحث عن جمالية جديدة للإبداع. كما حمل على عاتقه تجديد التجربة الشعرية، حمل أيضا تطوير صورة القارئ وتجديد أفق انتظاره .

5- الشعر من حيث الرؤية النقدية

اقتضى الكشف عن الرؤية النقدية والتصورات الجمالية في تجربة محمود درويش، بناء على البحث في الوظيفة الشعرية وتحولها، إلى تصنيف شعره حسب الباحث إلى:

-  نصوص المنزع النقدي وسيطرة الوظيفة الإخبارية حيث جاءت في لغة بعيدة عن الغموض والغرابة بسيطة الأسلوب عملا بقول درويش " فالشعر دم القلب، ملح الخبز، ماء العين، يكتب بالأظافر والمحاجر والخناجر"21.

-  نصوص المنزع النقدي وسيطرة الوظيفة الجمالية حيث تعتني بجمالية اللغة وتجنح إلى  الغرابة والابتعاد عن الكلام المتداول مشرعة على التأويل، وهي نصوص تنشغل بطبيعة العملية الإبداعية، وبجمالية اللغة، فتنقل إلينا غموض لحظة الإبداع، وغموض ماهية الشعر وطبيعته كما قال درويش " ربما هو وعكة روحية أو طاقة مكتوبة، أو ساخر متمرس"22.

-  المنزع النقدي وتفاعل الوظيفتين الإخبارية والجمالية في نصوص يهتم فيها الشاعر برسالته النقدية، وجمالية النص، إذ تتفاعل الوظيفتين في فعل يجمع الإبداع والتأمل.

لقد اهتم الشاعر برسالته الإخبارية دون أن يفقد جمالية لغته ووهجها الفني، كما اهتم بوظيفته الجديدة معبرا عن نزعة التشرد المرتبطة بطريقة الشعر الجديد.

وبناء على هذا ، يختم الباحث بأن صراع الشاعر مع صورته ووظيفته القديمة  من جهة، وبحثه عن أفق جديد لدوره من جهة أخرى، جعله يقدم نموذجا متمثلا في تفاعل الوظيفتين الإخبارية والجمالية، حيث برز تفاعل الوظيفتين الإخبارية والجمالية في النصوص التي عبر فيها الشاعر عن تغير وظيفته وصراعه مع الوظيفة القديمة، وذلك تأكيدا منه على تغير لغته وحرصه على تجويد شعره.

هكذا، لم يكن محمود درويش إلا شاعرا حداثيا، تقتضي قراءة شعره التعايش مع النصوص في مناخها المعرفي العميق الذي يراهن في مستوى التلقي على القارئ المتجدد أفق الانتظار، الفاعل في بناء المعنى المنتج له، لأن اللغة موظفة توظيفا جماليا، ينحو بها نحو الغموض، وعلى القارئ إدراك وتذوق النصوص واستيعابها في أبعادها الفكرية والفنية وفي تقنياتها وصورها الجمالية. قراءة تستحضر التراكم المعرفي والفكري المتنوع والعميق، حتى تتمكن من الإجابة عن الأسئلة التي تبقى قائمة وتوكد "أن الإبداع المختلف بحاجة إلى نقد مختلف ،...عبر المعرفة والتذوق، الذي هو قدرة روحية، وعملية اتصالية تكوينية "23، ولأن الشعر الحداثي شعر مختلف يفترض قارئا منسجما واختلافه، حيث تصبح القصيدة "مغامرة ومساءلة و مصادمة، في بنية معقدة، ليست مغلقة بل مفتوحة للاحتمالات، لا تنصاع للمفهومات الجاهزة، ولا تصوغ الجاهز المكرس، ولا تعيد تعميل المقبول، بل تجرح، وتهجم، وتخترق؛ فهي قصيدة الإشكالية،...، ومن تم فإن الغموض الذي اتهمت به هذه القصيدة، هو الغموض الخلاق، الحافز، الذي يريد من المتلقي أن يكون- هو، أيضا- مبدعا خلاقا، وموضوعا في قلب الإشكالية.24  لقد وضع الباحث بحق الأصبع عما يميز تجربة محمود درويش في تحليله للنصوص وسبر أغوارها، والبحث في حالات الشاعر ولغته ومعانيه وأفكاره راصدا تصوراته للشعر والشاعر ووظيفته في تحولاتها الذاتية والموضوعية ، وفي آرائه  في القصيدة .

 

د. فطنة بن ضالي

....................

الـهـوامـش:

1 - د .خليل حسونة، النص والسينما، مشارف مقدسية،ع1، ربيع2015،ص53.

2- المرجع نفسه، ص54.

3-  المنتدى الأدبي، بيت الغشام للنشر والترجمة، ط1، 2015،  مسقط، سلطنة عمان .

4-  المنزع النقدي،مقدمة  ص 5.

5-  المرجع نفسه، ص9.

6-  المرجعنفسه،  ص9.

7- المرجع نفسه ، ص 12.

8- د. عبد السلام المساوي، قراءة في جدارية محمود درويش، عالم الفكر، ع35، أبريل -يونيو 2007.ص101.

9- المنزع النقدي، ص19

10- قراءة في جدارية محمود درويش،م س، ص 110.

11- المنزع النقدي، م س،ص 30

12- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

13- المرجع نفسه، ص39

14- المرجع نفسه، ص 44.

15- المرجع نفسه، ص 47.

16- المرجع نفسه، ص 57.

17- المرجع نفسه، ص62.

18- المرجع نفسه، ص 63.

19- المرجعنفسه، ص75.

20- المرجع نفسه،ص 94.

21- المرجع نفسه، ص105.

22-المرجع نفسه، ص111.

23- النص والسينما ، مشارف مقدسية، م س، ص68

24- ادوار الخراط ، على سبيل التقديم ، الكرمل ، ع14، 1974، ص 13.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم